أحد أهم طرق مواجهة الإرهاب هو فهمه ومعرفة أشكاله وتحولاته وملاحقته بطرح الدراسات والأبحاث حوله .. ذلك أن مصر والعالم تواجه ظواهر إرهابية جديدة لم تكن معروفة من قبل .. وهذه الظواهر فى الحقيقة تبدو محيرة وتحتاج إلى ثورة فى المعارف والأبحاث والدراسات لفك هذه الحيرة تجاه تلك الظواهر الجديدة.
لعل أهم ما يحير فيما يتعلق بالظواهر الإرهابية الجديدة مثلا أن أغلب الفاعلين فيها لهم سوابق جنائية ومعروفون لدى أجهزة الأمن، بيد أن التحول من الجنوح الإجرامى إلى الجنوح الإرهابى يتم دون متابعته وملاحقته، كما أنه يتم بشكل فجائى وحاد بحيث ينتقل الإرهابى من مجرم عنيف إلى إرهابى متوحش بلا تدرج أو تطور أو مدى زمنى يمكنه من استيعاب تلك التحولات الجديدة على المستوى النفسى والفكرى والوجدانى والأخلاقى فينتقل بصفاته الإجرامية ذاتها إلى مجال جديد وفضاء أكثر اتساعا وخطرا ورمزية يمارس فيه نفس إجرامه، ولكن تحت عناوين جديدة يستعيرها من الدين حتى يعطى لإجرامه معنى رمزيا وبطوليا وأسطوريا يصل لحد قتل نفسه وقتل الآخرين لما يتصور أنه خلاص بنفسه نحو الله والجنة وتخليص الآخرين هم الآخرون نحو الله والآخرة كما يتصور.
ولنضرب مثالا على ذلك، العملية الأخيرة التى حدثت فى نهاية الأسبوع الماضى فى أهم شارع بباريس «الشانزلزيه» والتى قام فيها الإرهابى «كريم الشرفى» بقتل شرطى وإصابة اثنين آخرين مستخدما بندقية كلاشينكوف، ووجد بداخل السيارة التى كان يقودها قبل أن يُقتل مصحف وقنبلة وورقة كان يدافع فيها عن أفكار تنظيم داعش الذى تبنى العملية وأعلن أن أحد جنوده هو من قام بها.
حُكم على الإرهابى بخمسة عشر عاما بسبب محاولته قتل شرطي، ورغم أن الأمن الفرنسى كان يعرف أنه يحمل أفكارا متشددة لكنه لم يعرف كيف تم التواصل بينه وبين التنظيم، وكيف تلقى أوامره منه .. وهل هو ضمن شبكة أم أنه ذئب منفرد.
الحالة المصرية والجديد فى عالم الإرهاب
لعل الشبكة التى نفذت العمليات الثلاث ضد الكنائس المصرية فى مناسبات دينية، استطاع فيها الإرهابى «محمود شفيق» أن ينفذ إلى الكنيسة البطرسية ويقتل المصلين بحزام ناسف وقام هو الآخر بقتل نفسه، وفى كنيسة مار جرجس بطنطا استطاع الإرهابى «ممدوح أمين بغدادى» أن ينفذ بنفس الطريقة إلى الصفوف الأولى للمصلين قريبا من الكهنة ويفجر نفسه بحزام ناسف، وفى الكنيسة المرقسية بالإسكندرية حاول الإرهابى «محمود حسن مبارك» أ ن يدخل الكنيسة وقد كان متزنرا بحزام ناسف بيد إن الأمن منعه ففجر نفسه خارج الكنيسة ، الإرهابيون هنا ينتمون إلى شبكة أغلب أعضائها ينتمون لمحافظة قنا، ويقودهم إرهابى اسمه عمرو سعد من قنا أيضا .. وهنا دراسة تلك الشبكة وفهم الدوافع والعلاقات يكشف لنا عن طبيعتها، ذلك أن علاقات الجيرة هنا مهمة، فهم من بلد صغير اسمه الأشراف البحرية وعدد سكان هذا البلد وفق إحصاء عام ٢٠٠٦ لا يزيد عن خمسة آلاف نسمة .. فهو بلد صغير جدا ومن ثم علاقات التواصل وإمكان تكوين شبكة سهل جدا .. كما أن هناك علاقات مصاهرة فعمرو سعد قائد المجموعة الهارب متزوج من شقيقة منفذ حادث الكنيسة المرقسية، وهناك عامل مهم آخر لفهم تلك الشبكة وهو عامل الجيل فأغلب أعضاء الشبكة ينتمون لمواليد الثمانينيات ومن ثم فالتقارب فى العمر وضع أسسا لتكوين تلك الشبكة، لا ننسى أيضا أن أغلب هؤلاء حصلوا على تعليم متوسط «دبلوم الصنايع»، وقليل منهم حصل على مؤهل عال، كما أن أغلبهم لم يكن يجد عملا مستقرا، وبالتالى فهم ينتمون لفئة العاطلين، هذه الشبكة الخطيرة نفذت عدة عمليات ودخلت فى مواجهات مع الشرطة منها كمين النقب، والسؤال هو كيف استطاعت تلك الشبكة أن تبنى لها جسورا مع تنظيم داعش الإرهابى؟ وكيف استطاعت أن تستقطب اثنين من القاهرة أحدهما طبيب ويقيمان بمنطقة الزيتون؟ وهل ذلك يعنى أن للشبكة تلك امتدادا داخل مدينة القاهرة؟ وهل تلك الشبكة لها علاقة مباشرة مع أنصار بيت المقدس فى شمال سيناء شرق العريش وحتى رفح؟ وماهى شكل تلك العلاقة ؟ وهل حصل المنفذون لتفجيرات الكنائس على دعم لوجيستى من داعمين لهم بالمدن التى نفذوا فيها عملياتهم سواء فى الإسكندرية أو فى طنطا ؟ وهل هناك علاقة بين تلك المجموعة الإرهابية وبين مجموعات إرهابية أخرى منشقة عن جماعة الإخوان خاصة لواء الثورة وحسم «سواعد مصر»، وإذا كانت هناك علاقة فما هو حجمها وحدودها؟
كل هذه أسئلة يجب أن نطرحها ويجب على مراكز الدراسات والبحوث أن تتعمق فى فهمها والإجابة عليها، وذلك حتى يمكننا الوصول إلى فهم واضح وإلى خريطة مفهومة لجماعات الإرهاب الراديكالى العنيف والجديد فى مصر.
الدور الغائب لمراكز الدراسات والبحوث
يصخب الناس بعد العمليات الإرهابية حول التساؤل حول هوية المنفذين ودور الجهات والمؤسسات المختلفة فى الدولة وعلى رأسها المؤسسات الدينية باعتبار أن ذلك الإرهاب الإجرامى يلتحف بالدين الإسلامى الحنيف وهو منه براء – كما يتحدث الناس والإعلام حول دور المؤسسات الثقافية مثل وزارة الثقافة ودور وزارة الشباب ومراكزها الشبابية، بيد أن أحدا لا يطرح السؤال حول دور مراكز الدراسات والبحوث المهتمة بموضوع الظاهرة الإرهابية الجديدة وفهم ملامحها وجغرافيتها المادية والاجتماعية، وعلى سبيل المثال فإن مركزا مهما كمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية لم يعقد ولا حلقة نقاشية واحدة حول الظواهر الإرهابية الجديدة، كما كان المركز يصدر دورية مهمة أصدر منها عددين باسم «تقرير الحالة الدينية فى مصر» وكان يترأس تحريرها الصديق نبيل عبد الفتاح ثم توقف عام ١٩٩٨، ثم أصدر المركز من بعد «طدليل الحركات الإسلامية فى العالم» عام ٢٠٠٦ ، وشارك كاتب هذه السطور فيه بدراسة مهمة عن «طسيد إمام الشريف» كأحد المراجع الفكرية الأساسية للتنظيمات المتشددة والإرهابية، ورغم أنى أنجزت دراسة ثانية للعدد الثانى من «دليل الحركات الإسلامية» عن تنظيم القاعدة فى العراق وتحولاته، بيد أن العدد الثانى لم ير النور على الإطلاق دون أن ندرى سببا لذلك، مع ملاحظة أن هذه الكتب المتخصصة المهمة كانت تصدر بدعم من منظمة كونراد إديناور الألمانية.
بالطبع يصدر المركز ضمن إصداراته بعض ما يتصل بالظاهرة الدينية فى تجلياتها المختلفة، كإصدار كراسات إستراتيجية، كما تهتم مجلة «أحوال مصرية» بعمل ملفات حول الظاهرة شاركنا فى بعضها، بيد أن تلك الجهود لا تعبر عن استمرارية من ناحية ولا عن رؤية راسخة لمتابعة وفهم الظواهر الإرهابية الجديدة كما أوضحنا طبيعتها.
حين كنت فى معرض الكتاب الأخير حاولت معرفة ما يصدره المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، وهو أحد الروافع المهمة لفهم الظواهر السياسية والاجتماعية الجديدة بما فى ذلك الظاهر الإرهابية، وحصلت على الكراسة الصغيرة لإصدارات المركز بعنوان «قائمة المنشورات العلمية» فلم أجد فى إصدارات عام ٢٠١٥ وهى آخر ما وافانا به المركز أى إصدار عن الظواهر الإرهابية وتحولاتها، رغم أن هذا العام كان عامالصخب الكبير لها، فقط فى عام ٢٠١١نجد بحثا بعنوان «العنف السياسى فى المجتمع المصرى فى ضوء المتغيرات المحلية والعالمية .. الجماعة الإسلامية نموذجا»، وفى عام ٢٠٠٤ نجد بحثا بعنوان «العنف بين طلاب المدارس»، وفى عام ٢٠٠٢نجد بحثا بعنوان «العنف فى الحياة اليومية فى المجتمع المصرى ، وفى عام ٢٠٠١ نجد بحثا بعنوان «البرامج الدينية فى التلفزيون»، أى أن المركز فى خلال ما يزيد على عشر سنوات لم ينجز أبحاثا حول الظاهرة فى تحولاتها و تجلياتها الجديدة وهو ما يعنى أن مراكز الأبحاث وكأنها تعيش فى جزر معزولة بعيدا عن المشكلات الخطيرة التى يواجهها المجتمع والتى تهدد بنيانه الاجتماعى وقوامه الدينى ووجوده السياسى.
ومن ثم فإن مراكز الأبحاث والدراسات التى تمثل القاطرة فى فهم تحولات الظواهر الإرهابية الجديدة لاتقوم بدورها فى مواجهة تلك الظاهرة بتعقبها وتقصى فهمها وسبر أغوارها ففهم الظاهرة الإرهابية ومعرفة خرائطها وتحولاتها وتجلياتها يمثل خطوة مهمة نحو مواجهتها والقضاء عليها، وهذا يحتاج إلى تفعيل دور مراكز الدراسات والبحوث التابعة لمؤسسات الدولة، ويكفى أن نشير إلى أن كسل تلك المراكز وعدم قيامها بأدوارها جعل مراكز أخرى تقوم بأدوارها مثل مركز «دال» الذى أنجز تقريرا حول الظاهرة الدينية بعنوان تقرير الحالة الدينية فى مصر فى عدة مجلدات نالت استحسان الباحثين وقدمت رؤية لفهم تحولات تلك الظاهرة والتغيرات التى تجرى داخلها .