السبت 29 يونيو 2024

ليلى الراعي تكتب: «الراعي».. فلسفة «النقد بالحب»

فن22-10-2020 | 19:10

بقلم ليلى الراعي 

كان لأبى- على الراعى- نظرة خاصة وفريدة فى مجال النقد.. لم يكن يُقبل على نقد أى نص أو رواية أو حتى عمل درامى إلا أذا أحب العمل وجذبه وشد انتباهه.. هنا فقط يشعر بالسعادة والإثارة.. فيقبل على قرائته بنهم، ويخوض فى صفحاته فى حب.. وحينما يمسك بالقلم ليسطر سطورًا نقدية يكتبها عبر هذه المشاعر الدافقة.. فهو يشعر أن المبدع بحاجة دائمًا إلى كلمات التشجيع والدعم.. بحاجة إلى صوت صادق محب يكشف عن مواطن الجمال فيما كتبه فيبرزها ويلقى الأضواء عليها.. هذا هو منهاج على الراعى في النقد.. فالناقد فى رأيه ليس طبيبًا يمسك مشرطاً بين يديه فيقوم بتشريح النص الأدبى بقسوة ودم بارد، بل يتمثل دوره في البحث عن الجمال.. فإذا وجده تحدث عنه بكل الحب والاهتمام والإيثار.. يصبح المقال النقدي لديه بمثابة كلمة شكر موجهة للمبدع وتعبير عن الامتنان للجمال الذي قدمه لنا.. إلى جانب كل هذا كان يعد المقال النقدي وسيلته هو ككاتب في التعبير عن آرائه ومبادئه، ومنبره الذي يقدم من خلاله أفكاره للناس.

مارس على الراعى النقد بأبوة حانية، إذ شعر بحجم المسئولية الملقاة على كاهله، فدوره كناقد ودارس ومتخصص فى الحقل الأدبى الرفيع لا يتمثل فقط فى الكتابة عن أعمال أدبائنا الكبار مثل طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، بل يدرك أن من واجبه أيضًا تقديم الأقلام الشابة اليافعة إلى الساحة الأدبية، نعم دوره كناقد مخضرم يحتم عليه هذه المسئولية الثقيلة: نثر بذور جديدة خضراء فى الحقل الأدبى. من يمكنه أن يقوم بهذا العمل النبيل سوى ناقد أخذ على عاتقه هذه المسئولية؟ ناقد مهموم ومشغول بمحاولات شباب الكتاب، الذين يبحثون عن قلم قدير يقدمهم إلى صفحات الأدب ويدخلهم إلى عالم الفكر، كان يقوم بهذا الدور التنويرى العظيم بإخلاص شديد وبصيرة واضحة. 

مقالات على الراعي النقدية موجهة فى الحقيقة للقارىء وليس للمبدع، وكأنه يريد أن يشده نحو شطآن الإبداع، ويدفعه للإقبال على عمل روائى جدير بالمتابعة، فيقدم صفحات من النقد الأدبى العميق بأسلوب سهل  يجذب القارىء العادى، ومن هنا تحديدًا تأتى قدرته الفريدة فى النقد، فما كان أسهل عليه كناقد أدبى متخصص أن يلجأ إلى المصطلحات الصعبة والكلمات التى ربما يعجز القارىء العادى أو المبدع الشاب على إدراكها واستيعابها، ولكن ما يهمه هنا فى المقام الأول أن يبين للقارىء ما هو الجديد والفريد الذى قدمه المبدع، ومن ثم تثقيفه والارتقاء بذائقته الأدبية والفنية، وهى برأيى من أهم وأنبل المهام التى حملها على كاهله.

عكف على الراعي خلال سنوات حياته على خدمة الثقافة والمسرح المصرى، بمختلف الطرق، ومن خلال جميع المواقع التى شغلها، بداية بعمله فى الإذاعة المصرية خلال نشأتها الأولى فى الأربعينات من القرن الماضى، وصولاً إلى العمل القيادى فى المجال الثقافى كرئيس تحرير لعدد من المجلات، ورئيس لهيئة الفنون المسرحية منذ عام ١٩٥٧ إلى منتصف الستينات، ومشرف على ندوات ومهرجانات ولجان تحكيم فنية وأدبية على مستوى الوطن العربى.. 

وخلال تلك المسيرة الزاخرة الثرية، كانت أعماله النقدية المختلفة: "دراسات فى الرواية المصرية"، "الكوميديا المرتجلة فى المسرح المصرى"، "توفيق الحكيم: فنان الفرجة وفنان الفكر"، "فنون الكوميديا: من خيال الظل إلى نجيب الريحانى"، "مسرحيات ومسرحيون"، "مسرح الدم والدموع"، "المسرح فى الوطن العربى"، "الرواية فى الوطن العربى"، فضلاً عن ترجماته للعديد من النصوص المسرحية لأعمدة المسرح العالمي، نذكر منها: "الشقيقات الثلاث" لتشيكوف، و"برجينت" لإبسن، و"المستنيرون" لتولستوي. 

كان على الراعي يقف في صف الفن الشعبي التلقائي، فهذا اللون من الفن يجذب دومًا اهتمامه ويأسر قلبه منذ سنوات طفولته المبكرة، كتب بشغف وإعجاب شديدين عن الأراجوز وخيال الظل والكوميديا المرتجلة و"النِمَر" المختلفة التي يقدمها الفنانون الجوالون في الموالد، الفنان البسيط الذي يحمل فوق أكتافه مسرحه المتواضع وعرائسه الصغيرة ويدور في الطرقات يعرض نِمَره أمام جمهور الشارع نظير قروش قليلة، ألا يستحق منا الاهتمام والتقدير والاعجاب؟ هكذا كان يفكر.

ورغم حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة برمنجهام، وتعمقه في الأدب الإنجليزي ونظريات الدراما الأوروبية، إلا أنه حرص دائمًا على أن يخصص حيزًا مهمًا من إنتاجه الفكري لمسرح الشعب بموروثاته وإبداعاته المختلفة.

تابع على الراعي بدأب أعمال الفرق المسرحية، سواء كانت تابعة للدولة أو تابعة للقطاع الخاص، وكان اهتمام المخرجين بتوجيه الدعوة إليه لمشاهدة عروضهم المسرحية أمرًا لافتًا، فمجرد حضوره العرض المسرحى يعد بمثابة شهادة تقدير لهم.. لازلت أذكر ذلك المشهد جيدًا حينما رافقته لحضور مسرحية "الملك هو الملك"،  فبعد انتهاء العرض اصطف الفنانون ومعهم المخرج على خشبة المسرح ينتظرون مصافحته بعد نهاية العرض، وسماع رأيه فى لهفة ورجاء، ولاعجب فى ذلك، فقد كان يشجع التجارب الجادة والعروض المسرحية الممتعة والمبهجة. 

قلم نزيه وشريف.. 

عقل مستنير ومتفتح 

قلب مفعم بالحب والأمل.. 

روح نبيلة خيرة 

ذلك أنت يا أبى.. 

 

 نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 47 - أغسطس 2020