الخميس 21 نوفمبر 2024

فن

شعبان يوسف يكتب: كيف قرأ على الراعى توفيق الحكيم؟

  • 22-10-2020 | 20:11

طباعة

بقلم شعبان يوسف


بواكير

مرّت حياة الدكتور على الراعى بمراحل ثقافية وحياتية وفكرية وسياسية عديدة، وذلك منذ طفولته الباكرة، تلك الطفولة التى تفتحت على فنون الشارع التلقائية التى تنطوى على حس شعبى أصيل وخلّاق، دون مخرج محترف، فالمخرج هو الممثل والمؤلف والموسيقى وكل شىء فى العروض التى كانت تتواتر فى الشارع الذى كان يسكن فيه الطفل على الراعى، فى مدينته التى تركت بصماتها الأولى على ثقافته ومخيلته.


كان الأراجوز وفتنته وألاعيبه وحكاياته، هو العلامات الأولى التى رسخت فى وجدان الصبى، وراح الطفل يتعلق رويدا رويدا بتلك الفتنة، خاصة أن الفرجة كانت تتاح له ولأقرانه يوما يعد يوم، ولم تقف تلك الفرجة عند حدود الشارع، بل صاحبته إلى المدرسة، واشترك مع زملاء له فى تأليف بعضا من المشاهد وتمثيلها، وكانت تلك المرحلة الأولى التى شغلت عقد الثلاثينات وبعضًا من عقد الأربعينات، هى التى وضعت الفتى على أول الطريق.

وعندما جاء إلى القاهرة فى أواخر عقد الثلاثينات، والتحق بالجامعة عام 1939، ودخل كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، كان الفتى قد تكونت ذائقته وعقليته الطليعية، وكان المسرح يقع فى مركز الذائقة، للدرجة التى دفعته لترجمة نص مسرحى من اللغة الإنجليزية، وذلك قبل أن يتقن فنون اللغة بشكل كامل، ولكنه شغف بفن المسرح شغفًا كبيرًا، وتوجه وهو فى الجامعة إلى تثقيف نفسه بقراءة كافة ما يتعلق بالمسرح، فضلاً عن تعرّفه على إبداعات توفيق الحكيم عن قرب، وكان توفيق الحكيم بالنسبة له هو الرائد الأول للنص المسرحى المكتوب.


النص المسرحى المكتوب

الذى يتابع حركة النص المسرحى، سيدرك أنه مر بأكثر من مرحلة، مرحلة الاقتباس، والتعريب، والترجمة، وكانت فرقة نجيب الريحانى تتعامل مع كافة هذه الطرائق، وكان نجيب الريحانى نفسه، مع الشاعر والزجّال بديع خيرى، يقومان بجهد كبير فى تلك الفنون، للدرجة التى انتقدها الأستاذ يحيى حقى بدرجة حادة جدًا، وهو لم ينتقد طرق الاقتباس أو الترجمة أو التعريب، بل انتقد وهاجم النماذج التى كان يقتبسها الثنائى نجيب بديع، ووصفها بأنها أردأ النماذج التى كانت تعرض فى فرنسا، ولم يراع عمنا يحيى حقى الزمن الذى كانا يعملان فى ظله، لذلك أعتبر أن حقى جانبه الصواب فى ذلك الهجوم.


وجدير بالذكر أن قضية الاقتباس والترجمة ساعدت المؤلفين المصريين بقوة على تأليف نصوص مسرحية، وكان توفيق الحكيم أحد أهم هؤلاء المؤلفين، وقد كتب مسرحيته الأولى "الضيف الثقيل" عام 1918، أى قبل الثورة المصرية العظمى بعام واحد، وبعدها انخرط فى الثورة بكل جوارحه.


فى عقد الثلاثينات والأربعينات، كان توفيق الحكيم قد خطا خطوات واسعة فى المسرح المصرى، ولذا راح على الراعى يقرأه بعناية فائقة، حتى بعد تخرجه عام 1943، وطّد علاقته بالمسرح، والتحق الراعى بالإذاعة المصرية، وراح يكتب فى المجلات المصرية الطليعية، مثل مجلة "الفجر الجديد"، والتى كان يكتب فيها باسمه المعروف "على الراعى"، وباسم مستعار وهو "على الكاتب"، وكان الحكيم فى تلك الفترة محل جدل كبير، واختلف حوله الناس بدرجات حادة، وكان الحكيم يثير حول نفسه وحول ما يكتبه كثيرا من الدعاوى، مثل أن يصف نفسه بـ"عدو المرأة"، أو يصف مسرحه بـ"مسرح الذهن".


الرحلة إلى الغرب

وعندما توفرت منحة للأستاذ على الراعى لكى يدرس الدكتوراه فى إنجلترا عام 1951، اختار أن يدرس المسرح، وذهب إلى برمنجهام، وقرر أن يدرس مسرح "برنارد شو" بالذات، ولكن أستاذه البروفيسور نيكول عندما علم بذلك، لم يستطع أن يخفى ضيقه، لأن "شو" كان قد خضع بالفعل لسلسلة دراسات من كثير من الباحثين، وكان يرى البروفيسور أنه قُتل بحثًا، وقال لتلميذه: "أنا لا أريد أن أقرأ منشورًا أيديولوجيًا آخر عن  برنارد شو"، واقترح بدلاً من شو أن يكون موضوع البحث "الصحراء فى الأدب الانجليزى"، ولكن الراعى أقنع البروفيسور بفكرته وقال له: "إننى تركت في بلدى عملاً هامًا وواعدًا ومجزيًا، فى سبيل أن أحصِّل علمًا بالدراما التى أعشقها، الدراما البريطانيا والعالمية"، وبعد حوار ومناقشة مستفيضة مع البروفيسور، اقتنع بمقترح تلميذه وهو دراسة "دراما برنارد شو.. بعض المؤثرات على التقنية"، وحاول أن يقول لتلميذه إن الموضوع شاق وصعب، ولكن التلميذ رد على أستاذه بأنه يدرك ذلك.


كان الراعى، طالب الدكتوراه، يمر على المنطقة التى عاش فيها ويليم شكسبير فى ذهابه إلى الجامعة، وإيابه منها، تلك المدينة التى كانت تحتفل دومًا بعروض مسرحية لشكسبير، وهناك شاهد التلميذ كافة مسرحيات شكسبير، ويتذكر الراعى أن مسرحية "عطيل" كانت تعرض فى لندن ذات موسم، فركب القطار إلى لندن، وشاهد المسرحية فى عرض ماتينيه، والذى كان يبدأ فى الثانية بعد الظهر، وفى عودته إلى برمنجهام، شاهد المسرحية مرة أخرى، بطولة مايكل ريدجريف الذي قام بدور عطيل، وتأثر الراعى بالتمثيل لدرجة البكاء، وجدير بالذكر أن المرحلة التى عاش فيها الدكتور على الراعى فى إنجلترا، تركت بصماتها عليها بشكل قوى، تلك البصمات التى ظلّت تقود خطاه وتوجهاته فى كل إنجازاته على المستوى الوظيفى والنقدى والفكرى والثقافى، وربما كانت تلك البصمات محل صدامات واسعة بينه وبين رفاقه فى الوظيفة والنقد والثقافة بشكل عام.


بعد العودة

عندما عاد الدكتور على الراعى من إنجلترا عام 1955، كانت ثورة يوليو قد ثبتت أقدامها، وعملت على تأسيس مؤسسات ثقافية جديدة، وكان نهر الثقافة والسياسة والفكر قد جرت فيه مياه كثيرة، ووجد رفاقه اليساريين قد أمسكوا بمقاليد الثقافة، وكان الكثيرون منهم يكتبون فى مجلات وصحف الثورة، وكان رهط منهم يضعون الأدب والفن فى خدمة السياسة، وكان سؤال على الراعى : "كيف يقدم الفنان إبداعه وفق قيم جمالية راقية، وفى الوقت نفسه لا يفقد جديته وقضيته؟"، لكنه كان يبحث عن القضية والجمال فى مركب واحد، وهذه المعادلة وضعته فى خلاف مع كثيرين، وكذلك جعلته يستطيع تقييم نصوص وعروض مسرحية كثيرة، وكان يكتب فى مجلة الإذاعة، وكذلك جريدة المساء التى صدر عددها الأول فى 6 أكتوبر عام 1956، وفى عام 1957 كان أول من قدم الدكتور يوسف إدريس ككاتب مسرحى، عندما نشرت له سلسلة يشرف عليها بنفسه مسرحيتى "ملك القطن" و"جمهورية فرحان"، وكانت باكورة السلسلة، وجاء فى تقديم على الراعى للمسرحيتين: ".. وعندما يكتب يوسف للمسرح، فإنما يطاوع إحساسه العميق بحقيقة التيارات الفنية والثقافية التى تساهم فى تشكيل بلادنا من جديد، إنه يكتب للمسرح لأن هذا الفن أصبح أقوى أدوات التعبير فى هذه البلاد، وأصبح كذلك لأن الجماهير تتطلع اليوم فى قدر متزايد من الشغف والتحفز إلى من يستطيع أن يخاطبها مباشرة، وبلا وسيط، فى اجتماع عام له طبيعة الاجتماع السياسى، عن قضاياها.. كل قضاياها: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية والفنية..".


المشروع النقدى

كان إيمان على الراعى بالمسرح، إيمانًا عميقًا، ولديه ثقة كبيرة فى أن المسرح هو أحد أدوات التغيير فى المجتمع دون أن يفقد مساحة الإمتاع، أى أن المسرح ليس شكلاً حاملاً للأفكار، بقدر ما ينطوى على الإمتاع، وكان يكرر ذلك المفهوم مرارًا وتكرارًا، وكان يدخل معاركه الكبرى التى تنطوى على ذلك، كان يرفض أو يقبل كثيرًا من المسرحيات وفقًا للمفهوم الجمالى للمسرح بشكل قاطع، على أن يكون الجمال خادمًا للأبعاد المجتمعية النافعة والمفيدة، وأكد على ذلك فى كتابه الأول "فن المسرحية" الذى صدر عام 1959، وفى دراسته التى قدّم بها إحدى مسرحيات أنطون تشيكوف، وعندما ترك الوظيفة الحكومية، وتخفف من الأعباء اليومية، تفرغ لمشروعه النقدى بشكل عام، وفى قلب ذلك المشروع كان المسرح الذى نذر حياته له بشكل كامل.


كتب على الراعى سلسلة كتب عن المسرح ذات أهمية بالغة، منها "مسرح الدموع والدم"، وفيه عاد الراعى إلى أوائل التصوص المسرحية المؤلفة، ومنها مسرحية "الوحوش" لمحمود كامل المحامى، والتى تم عرضها عام 1926، وهاجمها أحد الكتّاب الشباب والمرموقين آنذاك، وهو الدكتور سعيد عبده، وهاجم كافة مظاهر المسرح الميلودرامى، ودارت معركة حادة بين محمود كامل وسعيد عبده على صفحات مجلة "الكشكول"، ودخلت أطراف أخرى، وكان على الراعى يرصد بدايات المسرح المكتوب فى تطور المسرح المصرى، ثم استرسل ليعمل نقده ورؤيته على عدد من المسرحيات المصرية التى تسجل تطور المسرح المصرى من مرحلة إلى أخرى، وفيه كتب وحلل مسرحيات إسماعيل عاصم، وفرح أنطون، وعباس علام، وغيرهم.


كما أنه كتب كتابًا فى غاية الأهمية، وهو "الكوميديا المرتجلة فى المسرح المصرى" ، وقام فيه الراعى بجهد ميدانى، حيث أنه جمع كثيرًا من المسرحيات التى كادت تذهب أدراج الرياح، وكان كتابه هذا حافظًا لذلك النوع المهم من المسرح، ورصد فيه الدكتور الراعى أهم رواد هذا المسرح، وأدوارهم فى تطويره.

كتب الراعى كل ذلك وغيره، ولم يغب عن ناظره توفيق الحكيم بشكل مطلق، وكان يتناوله بين الحين والآخر فى دراسة هنا، ومقال هناك، فكتب عن روايته "عودة الروح" دراسة عميقة فى مطلع الستينات، ونشرها فى كتابه "دراسات فى الرواية المصرية"، واعتبرها من أساسيات الرواية المصرية والعربية، وخطت بالرواية مرحلة التأسيس الأولى التى مهدت لمجيئ نجيب محفوظ.


توفيق الحكيم

بالحجم الذى شغله توفيق الحكيم فى الأدب والمسرح والثقافة المصرية والعربية، حدث خلاف واسع وعميق منذ أواخر الثلاثينات، ومع أول كتاب صدر عنه كتبه الدكتور اسماعيل أدهم بالاشتراك مع الدكتور إبراهيم ناجى عام 1938، انهالت الكتابات التى تعمل على تدشينه وتقريظه، وكتابات أخرى تعمل على نفيه أو التقليل من دوره وأهميته، وكان توفيق الحكيم أحد الذين ساهموا فى إثارة ذلك الجدل، وأطلق على مسرحه "المسرح الذهنى"، أو "مسرح الفكر"، ولكن جاء على الراعى ليبحث فى تاريخ كتابة الحكيم، ليخلص إلى أن الحكيم لم يكن عدوا للمرأة، وكذلك استطاع أن يزاوج بين فن الفرجة، والبعد الفكرى.


وضرب على الراعى فى كتابه "توفيق الحكيم.. فنان الفرجة.. وفنان الفكر"، مثلاً بمسرحيته الأولى "المرأة الجديدة"، والتى كتبها عام 1926، وكانت قد ضاعت وتقريبًا فقدت، لولا أن الملقن كان يحتفظ بنسخة منها، فنشرتها دار أخبار اليوم عام 1951، وفيها يحاول الحكيم أن يصنع قدرًا من البهجة، فلا مسرح دون إمتاع، وإن كان توفيق الحكيم الذى شارك فى ثورة 1919 لم تعجبه ظاهرة الفرجة هذه، بل راح يكرّس لما أسماه المسرح الذهنى، وكانت مسرحيته "أهل الكهف" مثالاً لذلك، لكن على الراعى فى بحثه المخلص والعميق والدؤوب، يثبت أن الحكيم حرص على أن يكون مازجًا بين الفرجة وإعمال الفكرة فى وجبة واحدة، ومن ثم جاءت مسرحيات وكتابات الحكيم كلها.

ونستطيع أن نقول بأن كتاب على الراعى الذى نشرته دار الهلال فى نوفمبر 1969، كان يتمتع بعدالة نقدية منقطعة النظير، وراح يبحث فى كل كتابات الحكيم الفنية والنقدية ليخلص إلى نتائج موضوعية وعادلة، بعيدًا عن الشطط الذى لاقاه الحكيم من كثير من النقاد مثل حسنين كروم ومحمد عودة وفاروق عبد القادر، وربطوا ربطًا ميكانيكيًا بين الفكرة السياسية والعمل الفنى، للدرجة التى قال فيها نجيب سرور فى كتابه "هكذا تكلم جحا" إن الحكيم ليس له أى علاقة بفن المسرح على وجه الإطلاق، وهناك من اعتبر الحكيم كاتبًا ذهنيًا بشكل خالص، ولا تصلح مسرحياته للخشبة بأى شكل من الأشكال، وهناك فاروق عبد القادر فى كتابه "ازدهار وسقوط المسرح المصرى" عام 1979، الذي اعتبر الحكيم كاتبًا رجعيًا وعدوًا حقيقيًا للمراة، وفقًا لتصريحاته، بينما جاء كتاب الدكتور على الراعى، ليضع توفيق الحكيم وكتاباته الفكرية والنقدية والمسرحية والسياسية على طاولة البحث، ويقدم قراءة موضوعية ومنصفة لذلك الأب الروحى والأول لفن المسرح فى مصر والعالم العربى.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 47 - أغسطس 2020

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة