الأحد 23 يونيو 2024

الشيخ محمد رفعت .. قيثارة الفردوس

توك شو23-10-2020 | 10:32

يتنزل الخشوع على قلبه.. يستقطر الخشوع شجناً.. يتفجر الشجن دموعاً.. تترقرق الدموع فى صوته.. فتساقط النغمات العلوية على قلوب سامعيه.. يتأوهون.. يهتفون.. ينجذبون.. يذوبون فى الحضرة الزكية..  يحلقون فى أفلاك الوجد والصبابة..  تخشع القلوب.. تخضع النفوس.. تشف الأجساد لتصبح نورانية.. تشدو الأرواح مهللة مكبرة.. يحلق الصوت الشجن.. يمسح الأدران والشرور من خلايا سامعية.. فيخضع العاصي.. ويخشع المتكبر المتجبر.. تتسامى تلاواته لتصبح جسوراً من نور.. تصل سامعيه بالصحابة الذين سمعوا القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم.. ومنهم أبوموسى الأشعرى الذى مدحه النبى الكريم قائلاً: “لقد أوتى أبوموسى الأشعرى مزماراً من مزامير آل داود”.. وسيراً على الدرب النبوى الشريف فقد أوتى الشيخ الجليل محمد رفعت الكثير من مزامير آل داود.. ذلك الشيخ الموعود بالقرآن.. اصطفاه ربه ليكون قيثارة الفردوس على الأرض.

فى حى المغربلين بالدرب الأحمر.. كانت أسرة محمود رفعت تسكن واحداً من بيوته العتيقة.. تجمع غالبية الأخبار على أن الرجل كانمأمورقسم الساحل.. ولكن بعض الأخبار القليلة تذهب إلى أن الرجل كان يعمل بالتجارة.. وفى يوم الاثنين التاسع من مايو عام 1882.. استقبل الرجل طفله الرابع والذى أسماه محمد.. لفت الطفل الأنظار بملامحه الجميلة.. وتعلق به والده وكان يصطحبه معه فى كثير من الأوقات.. وعندما كان الطفل فى الثانية من العمر أو بعدها بأشهر قليلة.. رأته إحدى السيدات مع والده.. فقالت هذا الولدابن ملوكوده مكتوب فى عينيه”.. وفى ذات الليلة اشتكى الطفل من عينيه..  وذهب به والده إلى الطبيب.. الذى أصر على إجراء عملية جراحية.. وفشلت العملية ليصاب الطفل بضعف شديد فى قدرته على الإبصار.. تحول مع الوقت إلىالعمى الكامل”.. قرر الأب أن يهب ابنه للقرآن.. فألحقه بـكتابمسجد فاضل باشا فىدرب الجماميز”.. وكان فى الخامسة من عمره..  وقبل أن يكمل العاشرة أتم حفظ القرآن الكريم كاملاً.. ولكن الأب لم يفرح بهذا الإنجاز الذى حققه طفله النابغة.. حيث رحل عن دنيانا وابنه ما بين التاسعة والعاشرة من العمر.

وأصبح الطفل محمد رفعت عائلاً لأسرته.. وتعلم فنون التجويد على يد أستاذيه الشيخ محمد البغدادى.. والشيخ السمالوطى والذى أصر على تعليم تلميذه الموسيقى والعزف على العود.. وتعلم القراءات السبع على يد الشيخ عبدالفتاح هندى.. ورغم ضيق ذات اليد واصل تعلم الموسيقى وحفظ إبداعات الكبارمحمد المسلوب - عبده الحامولى - محمد عثمان”.. إضافة إلى الابتهالات التى برع فيهايوسف المنيلاوى - محمود سكر - على محمود”.. ولم يتوقف عند الموسيقى العربية حيث وجدوا بين أوراقه بعد رحيله أسطوانات لأشهر الموسيقيين الغربيين.. “بيتهوفن - باخ - موتسارت - ليست..  وعازف الكمان الإيطالى العالمى نيقولا باجانين”.

وبعد وفاة والده عمل الطفل محمد رفعت بتلاوة القرآن فى سرادقات العزاء.. ولفتت طريقته المبتكرة فى التلاوة الأنظار.. وذاع صيته مما جعل المسئولين عن مسجد بشتاكمسجد الأمير مصطفى فاضل باشابدرب الجماميزشارع بورسعيد الآن”.. يسعون للتعاقد معه فى عام 1918..  ليكون قارئاً للسورة بالمسجد.. ذلك المسجد الذى تعلم فيه القرآن.. والذى يحمل تاريخاً طويلاً.. رغم صغر مساحته..  حيث بناه الأمير سيف الدين بشتاك الناصرى فى سنة 1337 ميلادية.. وأخذ اسمه الجديد بعد أن دفن فيه جثمان الأمير مصطفى فاضل باشا شقيق الخديو إسماعيل فى سنة  1876م.. وظل يقرأ فى ذلك المسجد ثلاثين عاماً عرفاناً بالجميل للمكان الذى بدأ فيه.

 أصرت والدة الشيخ الصغير على أن تزوجه وهو فى سن الخامسة عشرة من عمره.. ورغم رفضه إلا أنها أتمت زواجه من فتاة صغيرة فى سن الحادية عشرة.. ولكن الفتاة لم تقبل أن تعيش مع الأسرة.. تخدم الأم والخالة والأشقاء وألحت فى أن تعيش فى بيت منفرد.. ويوم مغادرته للبيت سألته خالتههتسبنا لوحدنا يا محمد”.. فلم يستطع التحرك خطوة واحدة.. وتم الطلاق بعد زواج لم يدم أكثر من ستة أشهر.. وبعد سنوات قليلة تزوج الشيخ رفعت من زوجته الثانية السيدةزينب سالم”.. والتى أنجبت له أبناءه الأربعةمحمد - أحمد - حسين بهية”.. ظل الشيخ لسنوات طويلة يعتمد فى تحركاته على شقيقهمحرم”.. وعند وفاة الشقيق كان الابن الأكبرمحمدقد شب عن الطوق.. فظل ملاصقاً للأب ورغم حصوله علىدبلوم الصناعة”.. إلا أنه لم يعمل فى أى عمل إلا بعد رحيل الشيخ.. حيث عمل الابنأمين مكتبةمسجد السيدة زينب .. لم تمر أسابيع قليلة على قراءة الشيخ محمد رفعت لسورةالكهففى مسجد فاضل باشا كل يوم جمعة.. حتى تحول ذلك المسجد الصغير لمنافس قوى للمسجدين الأكبر فى مصرمسجد الحسين - مسجد السيدة زينب”.. حيث توافد الناس من كل مكان فى مصر ليستمعوا للصوت المعجزة.. وكان الناس يتسابقون منذ الصباح الباكر.. فى تنافس  شديد للجلوس بالقرب من الشيخ حتى لا يفوتهم شئ من إبداع الشيخ الذى ملك عليهم أرواحهم.. وبعد أن ذاع صيته.. وملأت شهرته الآفاق.. سعت خلفه الإذاعات الأهلية الكثيرة.. التى كانت تملأ أثير مصر.. لكى يقرأ القرآن بها.. ولكنه أبى ذلك رغم ما فيه من مكاسب مادية.. عرفاناً واحتراماً لقيمة الذكر الحكيم.. وحتى لا يذاع فى الإذاعات التى تبث الأغانى الخليعة.. ويتبادل مذيعوها ومطربوها السباب والشتائم على الهواء.

وفى عام 1934 بدأت الاستعدادات الجدية لبدء إرسال الإذاعة المصرية.. وكان الشيخ رفعت قد وصل الثانية والخمسين من العمر.. فسعى إليه مسئولو الإذاعة.. ليفتتح إرسالها بآيات الذكر الحكيم.. وليكون المقرئ الدائم بها.. وعاش الشيخ لبعض الوقت.. ما بين التردد والخوف.. خشية أن يسئ إلى آيات الله.. إذا ما قدمها عبر أثير الإذاعة.. ولم يحسم الأمر إلا بعد أن استفتى علماء الأزهر الشريف.. الذين أفتوه بألا حرج فى أن يقرأ القرآن عبر الإذاعة.. وفى الواحد والثلاثين من شهر مايو عام 1934.. استمع المصريون إلى الصوت العبقرى.. وهو يفتتح برامج الإذاعة بقراءة سورة الفتحإنا فتحنا لك فتحاً مبيناً”.. واتفقت معه الإذاعة أن يقرأ مرتين فى الأسبوعالثلاثاء والجمعة”.. ومدة التلاوة فى كل مة 45 دقيقة.. وقبل الإذاعة كانت الغلبة لمقرئى القرآن أصحاب الأصوات القوية المجلجلة.. وما إن بدأ بث الإذاعة حتى تحول الصوت الهامس الأسر للشيخ رفعت إلىعصر موسى”.. وراح علماء الموسيقى وخبراء الفن يحللون ذلك الصوت العبقرى.. الرقيق كنسائم الفجر.. والخاشع كترتيل الملائكة.. والقانع كأنه الرضا.. نبراته براقة.. وفنه مرهف.. وأسلوبه مبتكر مقتدر.. يرتجل فتسمو النغمات.. وتحلق الأفئدة.. ورغم تأكيد الخبر أو على أن صوت الشيخ الجليلضعيف ضيق الحجم”.. إلا أنهم أكدوا أيضاً مقدرته الفترة على الإحاطة بكلالمقامات”.. حيث يتكون صوته منديوانين ونصف”.. أى 18 مقاماً تقريباًديوان بريتون - ديوان تينور ثقيل - نصف ديوان بريتون خفيف”.. ويمتاز هذا الصوت الهامس الآسر أيضاً بقدرته علىاستعارةنصف ديوان آخر.. ليصل إلى 21 مقاماً.. ليصبح صوتاً متفرداً فى لونه ونوعه.. فهو الصوت الفريد الوحيد.. الذى بكل ما فى الفن من قدرة واقتدار.. يرفع سامعه إلى آفاق الآيات ومعانيها.. يقرأ فيسمو وكأنه طائر ملهم.. يردد ألحان السماء.. فى رقة وعذوبة.. تأسر الآذان.. وتبهج النفوس.. وتجعل الأرواح تحلق ما بين الأرض والسماء.. وقد أكد علماء الموسيقى على أن صوت الشيخ رفعتسيمفونية القرآن”.. وهو التفسير الموسيقى لآيات الذكر الحكيم.. تفسير عبقرى فذ.. يضئ المفردات مفردة مفردة.. ثم يجمعها فى جملة نغمية.. تتضمن جوهر المعنى الكلى للجملة القرآنية.. يقرأ بنغمات مختلفة تكشف مواضع الجمال والجلال فى القرآن الكريم.. يقرأ بالقراءات السبع.. فينقل سامعه من السماع إلى المشاهدة.. ومن المشاهدة إلى المعايشة.. فيسمو الوجدان.. ويتدبر العقل.. ويرتقى السامع.. ليستحضر لحظة نزول الآيات الكريمة على الرسول الكريم.. بل ويرى أسباب النزول.. فحلاوة الصوت.. وجمال الحس.. ونقاء النبرة.. والقدرات الموسيقية اللا محدودة.. جعلت الشيخ الجليل أكثر تفرداً وعصرية.

ورغم صغر حجم صوت الشيخ الجليل.. إلا أن عبقريته كانت تكمن فى قدرته على الإحاطة بالأقسام الثلاثة.. من أقسام الأصوات الرجالية المعروفة عند الموسيقيينالباص - الباريتون - التينور”.. مما جعل هذا الصوت صغير الحجم.. يمتلك مساحة موسيقية هائلة.. تضم تلك المقامات المتعددة فى ترتيب عجيب.. ليصبحالصوت النادرضيق الحجم.. واسع الدرجات الموسيقية.. مما يجعله يتفوق على أكبر الأصوات حجماً.. حيث يتنقل بين المقامات الموسيقية فى سهولة وتناسق ومقدرة معجزة.. يعلو وينخفض.. ويتنوع فى النبرة والدرجة واللحن.. فهو الصوت العذب الرخيم.. الذى لا تعصى عليه النغمات.. لا فى طبقاتها العالية الحادة المدويةالجواب”.. ولا فى قرارها القوى الرصين.. فينفد مباشرة إلى الروح.. فهذا الصوت بمساحته شديدة الندرة.. يمتلك القدرة على التحكم وتلوين الأداء.. وتنغيمه وتفخيمه.. ومثل هذا العطاء يستلزم العلم والموهبة والدراسة.. وقبل كل هذافتح من الله”.. وقد جمع الشيخ رفعت فى أدائه بينتكنيكشيوخ الطرب ومغن الأوبرا وقراء القرآن الكريم.. فسلامة النطق.. ووضوح النغم يسبقها فيوضات ربانية.. تحتضن العقل والقلب والصوت.

وتلاوة الشيخ رفعت لم تكن قراءة تسميع وحفظ.. ولكن قراءة شرح وتفسير وتنوير وتشخيص.. فلم يكن مجرد قارئ مغن يسحر سامعيه بالنغمات ولكنه يجسد المعانى.. فيضع من يسمعه فى قلب اللفتات والأدلة والإشارات الإلهية التى نكمن فى الآيات الكريمة.. فقد تخطى مراحل الصوت الذى يتلو.. ليصبح روحاً تسبح وتتعبد.. فتلك الروح المشرقة الصافية.. تصل إلى المعنى المراد عن طريق الفطرة الملهمة.. حيث يعرف الشيخ الجليل مواضع الترهيب والزجر.. وأساليب التشويق والترغيب فيكون فى الأولى إعصاراً عنيفاً.. وفى الثانية نسيماً رقيقاً.. فكأن معانى الكتاب تتفسر تفسيراً واضحاً فى تلاوته.. ذلك التفسير الذى لا يبلغه عالم ضليع.. مما يجعل السامعين وكأنهم فى حضرة الله سبحانه وتعالى.. ويشتد الوجد بسامعيه فيهتفونوالنبى تشرح كمان يا مولانا”.. فالشيخ الجليل يقرأ ويرقى.. ينسلخ عن كل ما حوله.. يقرأ ويرقى وكأنه بين يدى الله .. فينفذ إلى المعانى التى تسكن الكلمات .. فالرهبة عند الزجر..  والطاعة عند الأمر.. والخشية عند الوعيد.. والهلع عند التهديد.. والعطف والإحسان والفرحة عند رحمة الرحمن.. والأمل والبشر عند التوبة والغفران.. فيشتد الوجد بسامعيه.. وتأخدهم النشوة من كل جانب.. فيهتفونوالنبى تشرح كمان يا مولانا”.. فتخشع قلوبهم.. وتخضع عقولهم لذكر الله.. فالشيخ الجليل يذيب قلبه فى معانى الكلمات.. وينثر روحه فى حروف الكلمات.. يتدبر المعانى بفهم وورع.. تبلل مدامع قلبه نبرات صوته.. فينثر الشجى والشجن.. ليخشع الكون من حوله.. وكأنه التجسيد الحى لقول الرسول الكريم   - صلى الله عليه وسلم -   اتلوا القرآن وابكوا.. فإن لم تبكوا فتباكوا”.

وكل هذا الألق الربانى فى التلاوة.. اكتملت محاسنه بصفات إنسانية لا تقل ألقاً ويريقاً.. فالشيخ الجليل عفيف النفس.. زاهد.. خاشع.. كريم لا يبقى شيئاً من كسبه الوفير.. فكله لأهله وللناس.. عطوف.. يجالس الفقراء والبسطاء ويحنو عليهم.. ويردد دوماًإن سادن القرآن لا يمكن أبداً أن يهان أو يدان”.

رفض الشيخ الجليل طوال حياته.. أن يجعل مواهبه مطية يذهب بها إلى الربح والثراء.. فقد عرض عليهمهراجا هندىفى عام 1935.. أن يذهب إلى الهند لتقديم بعض تلاواته مقابل 15 ألف جنيه.. فرفض اليشخ رفعت ليرفع الرجل المقابل إلى 45 ألف جنيه.. وهو رقم كبير جداً فى ذلك الوقت.. ولكن الشيخ الجليل أصر على الرفض.. وفى ذلك الوقت كان يتقاضى من الإذاعة 12 جنيهاً عن كل مرة يقرأ فيها.. وطلبت منه إذاعة لندن تسجيل بعض القراءات مقابل مائة جنيه عن كل تسجيل وخمسة جنيهات عن كل مرة إذاعة.. ولم يتم الاتفاق نتيجة خطأ فى الحسابات وقع فيه الوسيط وهو الشاعرأبوبثينة”.

وكان الشيخ الجليل قد رفض أن تقوم الإذاعة المصرية بتسجيل قراءاته التى تذيعها على الهواء.. وتردد أن ابنه الأكبر محمد كان خلف هذا الرفض.. خشبة أن تستفنى الإذاعة بهذه التسجيلات عن الشيخ نفسه.. ولكنأحمد وحسين أبناء الشيخ”.. أكدا بعد وفاة والدهما أن هذا الكلام ليس صحيحاً.. وكانت الإذاعة تمتلك تسجيلين فقط من قراءات الشيخ رفعت.. الأول جزء من سورة مريم قرأه فى عزاء الملك فؤاد.. والثانى جزء من سورة الكهف قرأه أمام النحاس باشا عندما زار مسجد فاضل باشا.

ومع بدايات الأربعينيات أصيب الشيخ الجليل بآلام فى الحنجرة.. نتج عنها نوبات منالزغطة”.. كانت تأتيه فى البداية متباعدة.. ولم تكن هذه الآلام إلاسرطان الحنجرةالذى غير ملامح الصوت.. وأدى إلى احتباسه فى بعض الأوقات.. وكتب له الأطباء دواءً أحمر اللون.. كان يحمله معه طول الوقت.. ويتناوله إذا ما احتبس صوته أثناء القراءة وفى أحد أيام الجمع عام 1943.. احتشد الناس فى مسجد فاضل باشا.. واتسعت حلقة المقرئين الشباب.. الذين يجلسون تحت قدميّ الشيخ لكى يتعلمون منه أسرار فنه البديع.. وبدأ الشيخ يقرأ سورة الكهف كما اعتاد أن يفعل طول ثلاثين عاماً.. وعندما وصل الآية التى تقولواضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب.. وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً”.. احتبس الصوت.. وانقبضت ملامح الوجه.. واعتصر الألم خلجات الشيخ الجليل.. فأخرج زجاجة الدواء الأحمر.. وتناول بعضها.. فطاوعه الصوت فى آية أو آيتين.. وعاود الانحباس.. لتنفجر مدامع سامعيه.. وتنعصر قلوبهم.. ويحلق طائر الحزن الرهيب على كل جنبات المسجد.. ليتحول الشيخ الجليل إلى كتلة من الأسى والألم.. وينزل عن عرشه.. حتى يقوم شيخ آخر بالقراءة.. وينفجر الناس فى غيب مؤلم.. ويقوم شيخ كفيف من المقرئين الشباب تلاميذ الشيخ رفعت.. مطالباً الناس بالصبر.. ولكنه ينفجر فى بكاء حزين.. ليعلو نشيج كل المصلين.. وكأنهم فى جنازة وداع فهذا الصوت الملائكى المعجز.. ذهب الشيخ إلى بيته ليدخل فى شرنقة من العزلة والأسى.. ذلك البيت الذى كانصالون أدبى وفنى”.. يؤمه الأدباء والفنانون مثل محمد عبدالوهاب - نجيب الريحانى - فكرى أباظة - محمد التابعى - بديع خيرى - الخ.. تحول إلى شرنقة من الأسى والحزن.. وانقطع مصدر رزق الشيخ الجليل.. وكتب أحمد الصاوى محمد طالباً جمع أموال لعلاج كبير المقرئين.. وتنافس الناس فى المساهمة حتى وصل المبلغ إلى خمسين ألف جنيه.. ولكن الشيخ رفض أن يعالج على حساب الناس.. وفضل أن يبيع ممتلكاته ليصرف على علاجه.. وبعد وساطات صرفت له وزارة الأوقاف معاشاً شهرياً قدرة عشرة جنيهات.

كانت الخسارة الأكبر لدى محبى القرآن وعاشقى صوت الشيخ رفعت.. هى غياب تسجيلاته التى لم يتواجد منها إلا ذلك النذر اليسير الموجود فى الإذاعة.. ولكن الوعد الإلهىإن مع العسر يسرالابد وأن يتحقق.. حيث ظهر عضو مجلس النواب زكريا مهران.. وهو رجل قانون واقتصاد.. شارك طلعت حرب فى تأسيس بنك مصر.. وكان من أنشط أعضاء البرلمان.. ومن أكبر عشاق صوت الشيخ رفعت.. حيث سجل 278 أسطوانة.. تضم 19 سورة.. مدتها 21 ساعة.. حيث لم تكن الأسطوانة تزيد على دقيقتين..  وذهب النائب مهران إلى الإذاعة عارضاً على مسئوليها أن يمنحهم الأسطوانات مجاناً.. مقابل أن يعطوا الشيخ الجليل مقابل ما تتقاضاه السيدة أم كلثوم من الإذاعة.. وفجأة توفى النائب مهران قبل أن يتم الاتفاق.. وذهب أبناء الشيخ رفعت إلى بيته فى القوصيه بأسيوط.. ليبحثوا عن تلك الأسطوانات وسط متعلقاته حتى وجدوها.. وكان الكثير منها يعانى من بعض العيوب التى حذفت بعض الآيات.. وكان الحل فى الاستعانة بالشيخ أبوالعينين شعيشع تلميذ الشيخ رفعت.. وأقدر الأصوات على تقليد صوته..  لتسجيل تلك الآيات المحذوفة من أسطوانات النائب مهران.. وقد حصلت الإذاعة أيضاً على بعض الأسطوانات من ورثة محمد بك خميس.. لتشكل هذه الأسطوانات جزءًا بسيطاً جداً من تراث الشيخ رفعت..  ورغم بساطته إلا أنه حافظ على تراث الشيخ الجليل.. الذى ترك بصماته واضحة على كل المقرئين والمطربين والملحنين.. ويكفى ما قاله الموسيقار محمد عبدالوهاب فى تأثير الشيخ رفعت عليهنشأت بينى وبين الشيخ رفعت صداقة عميقة.. فكان يدعونى لأسهر معه فى بيته بحى البغالة.. وكان يغني بعض القصائد فى رخامة ساحرة.. وأحياناً كان يقلد الباعة فى ظرف بالغ.. وعندما يقرأ القرآن أتحول من صديق إلى خادم.. وأجلس تحت قدميه.. وكان أول من تتلمذت على يديه فى الموسيقى والإحساس.. لأننى بعد الاستماع له كنت أذهب إلى البيت وأقوم بتقليده.. وقراءة بعض الآيات على طريقته.. وقد ظهر تأثير أسلوبه فى التلاوة واضحاً على أسلوبى فى الغناء لفترة طويلة

وفى الثامن من مايو 1950.. وبعد أكثر من ثمانى سنوات من المعاناة والألم.. طلب الشيخ من أبنائه كوباً من الماء.. شربة وراح يردد الحمد لله الحمد لله حتى فاضت روحه إلى بارئها.. فقد عاش الشيخ الجليل ومات وهو فى مقام الحمد والرضا.. إنه الخاشع الطائع.. قيثارة الفردوس لأهل الأرض.. الذى سكن مقام الحمد.. فأسكنه الله قلوب كل عباده".