يذهب العديد من نقاد عصرنا الحاضر إلى
القول إن الشعر واحد من أبرز الطرق إلى إظهار الحقيقة، وبالتالي فإن هذه الحقيقة
قد تجعل من أغلب الفنون شعراً من حيث ممارستها لماهية الشعر، آخذين في الاعتبار أن
الشعر بوصفه فن القصيد يتبوأ منزلة سامية وسيادة عليا على كافة الفنون الأخرى،
وذلك راجع إلى احتفاظه بماهية الشعر بمعناه الواسع من خلال اللغة.
ويرون
كذلك أن الشعر بآفاقه الواسعة يعادل الحقيقة الكاشفة والتي تبصر وتنير لنا حقيقة
الوجود، كما أن لها قدرة على حجبها في ذات الوقت. وهو ما يرفع من قدر القصيدة
الشعرية باعتبارها شعلة ضوء مبهر كاشف يتيح لنا ظهور الموجود أو إخفاءه، وقد ينتج
عن ذلك إمكانية وجود مكان أو موضع ما حافل بحاضر موجود.
ونخلص من ذلك أن علينا أن ننظر إلى فن
القصيدة الشعرية – بصفة خاصة بوصفها منتمية إلى ميدان الوجود والذي في حقيقته هو
ذاته العمل الفني الذي لا يحدث أو يوجد إلا في انتفاح كهذا.
وهذه
المفاهيم الفنية العميقة قد يخرج بها قارئ القصيدة في شعر جرجس شكري ، على أن هذا
لا يعني أن القصيدة الشعرية عنده تطابق الواقع لأن الكلمة داخل الجملة الشعرية
عنده لا تأتي دائماً بالكيفية ذاتها، ومجمل سمات العمل الشعري عنده يفتتح وجود
الموجود على طريقته أي يفتتح عالماً لم يوجد هكذا أبداً.
وللجملة الشعرية عند جرجس خاصية وسمة أخرى
أنها جملة تلتزم بجدية التمرد على كافة الثوابت بكل أشكالها الحضارية والثقافية
والتراثية والدينية والمجتمعية والأخلاقية، تتمرد على الانتظام إلى اللا انتظام،
بهدف تحرير الفعل وانطلاق الأفق إلى اللا محدود واللامتناهٍ محطماً الموروث الثابت
في عالم الشعر.
إضافة إلى أن شعر جرجس شكري يصنف في
إطار شعر ما بعد الحداثة وذلك لأنه لا يبدو في شكل مستقر عبر بنيات شعرية ثابتة
لأن جرجس دائما ما يبحث في الأشياء ويقوم بتجاوزها وإعادة النظر فيها، فهو ليس
شكلاً يبلغه الشعر، ولكنه يصنف كمشروع تصور جديد ومغاير للكون، ينهض فيه جرجس
بمشروعه ما بعد الحداثي، مستنداً في ذات الوقت إلى رؤية معرفية عميقة ومتكاملة للإبداع
وذلك يمثل نقطة تحول في كتابة النص الشعري ما بعد الحداثي.
ولهذا
نجح جرجس في أن يكون واحداً من الشعراء المفردين في العالم العربي مفردا في المجمع
الشعري العربي المعاصر الذي يتبوأ قمته الشاعر المبدع أحمد عبدالمعطى حجازي ، وتم
له ذلك بعد أن نجح شعره في أن يخترق الحواجز التي تتراكم على صدر الحركة الكتابية
منذ حوالي خمسة عشر قرناً، سياسياً واجتماعياً ومؤسسياً، ذلك لأن شعر جرجس يُصّنف كنص
درامي يُعني بالتجديد الفني، بل إنه كثيراً ما ويعكسها الدراما يختزن ويعكسها
مصغرة، ولهذا تبدو القصيدة الشعرية عنده كمحكى شعري رئيسي يتكون من عدة مقاطع وصور
وأخيلة شعرية يتناول كل منها طوراً من أطوار العلاقة بين الذات الشعرية والنص
الإبداعي.
ويبدو
ذلك التحليل واضحاً في هذه الأبيات من قصيدة : " أشياء ليس لها كلمات والتي
يقول فيها:
حين يصل الصباح على عربة يجرها الموتى
يصل باكياً، وتسقط عيوننا على الأرض
حين يسرق الآخرون حياتنا
ويلبسون وجوهنا في وضح النهار
حين نموت برصاصة طائشة
ضلت طريقها بمحض إرادتها
حين نأكل طعاماً رخيصاً
وننام في شوارع خائفة
حين نتبادل القبل كعزاء واجب
وندفن موتانا في ملابسنا
خوفاً ومحبة.
حين تغلق الكنيسة أبوابها
فينام الملائكة والقديسون
في قاعة الرقص
حين يغرس الموظف حليق الرأس
سكينا في بطن صاحب الشركة
احتجاجاً على وسامته المفرطة
حين نغلق رغباتنا لأجل غير مُسمى
ونفاجئ الآخرين
يصطادون سراويلهم في غسالة الملابس
فهل نخفي عنك شيئاً يا سيدي
الديون ، ص 7-9).
فالسؤال
الأخير في القصيدة الذي يختم به جرجس المقطع ما هو إلا سخرية من حالة الموت وعبثية
الوجود الذي نحياه وما نجده شائعاً في الغالبية الغالبة من ديوانه.
وقد
نخرج من هذه الأبيات بمعانٍ أخرى منها أن البشر يتصارعون وهم يدركون جيداً أن
العدم في انتظارهم وأن هذا الصراع فوق طاقتهم البشرية، لذلك قد يتحول صراعهم إلى
عبث لا معنى له، وقد يخرج قراء آخرون بمعنى آخر قد يكون مطابقا لقول نيتشة في
كتابه " إرادة القوة" : " كل معتقد ، كل شىء يعتبر حقيقة، هو زائف
بالضرورة لأنه ببساطة ليس هناك عالم حقيقي" كما قد يعطي شعره مضموناً آخر
قوامه أن إنسان العصر الحاضر صار مجرد كائن مأزوم يتشكك في كل شىء من حوله، فهو
مُحمل بالهواجس والتساؤلات المستمرة، وأن عالمنا الحالي هو عالم تتساقط فيه كل يوم
النظريات الكبرى التي سادت – دهراً طويلاً – الفكر والعلم الاجتماعي .. وأنه على
الإنسان بما لديه من إمكانات محدودة – خُلِقَ بها . عليه – لكي يثبت وجوده، أن
يتصرف في حدود هذه الإمكانات، ونختم هذه الدراسة الموجزة بأبيات من قصيدة: "
مشاهد من حياة رجلٍ بارٍ:
-
فيما مضى
-
كنت ملكاً وقديساً
-
عازف مزمار
-
وصاحب فلسفة وأبقار كثيرة
-
وذات مساء
-
هربت الحقيقة من بيتي
-
فلم أعد كما كنت أبداً.
ومن يقرأ ديوان " أشياء ليس لها كلمات" لجرجس شكري، الصادر
حديثا عن دار آفاق بالقاهرة، سيكتشف أن الوعي الذي أنتج هذه القصائد، هو "
وعي ضدي" بامتياز، ولعل أبرز سمات هذا الوعي أنه ينقسم على نفسه باستمرار،
وهو ما يعني أنه يظل وعيا متوترا، يضع نفسه والعالم موضع التساؤل الدائم، هذا
الوعي الضدي الذي امتلكه الشاعر جرجس شكري هو بالضرورة قرين نوع من المفارقة، إذ
أن العالم عنده يُعد مجموعة من المتناقضات المتصارعة.
·
نقطة ضوء وشكر مستحق*
آمال
سليمان: سيدة مصرية عاملة، قد يمر اسمها أمام
ناظريك مرور الكرام، ولكنها – في حقيقة الأمر- نموذج شديد الرقي للمرأة المصرية
التي تؤدي عملها في صمت وإخلاص وتفانٍ، تستقبل المؤلف بوجه طلق صبوح وابتسامة
حانية راضية، تتابع في همة ونشاط وأفق واسع وصبر ورحابة صدر حركة الكتاب منذ
تقديمه كنص يُقرأ بلجان المجلس الأعلى للثاقة، حتى ذهابه إلى المطابع، وعودته
كتاباً يقرأ وتسليم المؤلف – في سعادة وود وحب النسخ الخاصة به.
أتقدم بالشكر لها
ولنسائنا العاملات الساعيات بإخلاص وصدق
لأداء عملهن لخدمة مصرهن الغالية بصورة طيبة ترضي رب العباد، داعياً ربي أن يبارك
لهن في رزقهن وعيشهن.. فلها ولهن جزيل الشكر وعظيم الامتنان.