الخميس 21 نوفمبر 2024

فن

هذا مذهبى

  • 23-10-2020 | 14:20

طباعة

قدّم "الهلال" على امتداد تسعين عاماً زاداً عظيماً من روائع الفكر والأدب والفن.. وفى باب «من تراث الهلال» نقدم لك كل شهر صفحات مختارة من هذا التراث...

كتب الدكتور طه حسين - رحمه الله - هذه المقالة بهذا العنوان، تلبية لاقتراح من «الهلال» جرياً على عادته فى استكتاب كبار الكتاب فى موضوعات معينة.. ويتحدث طه حسين هنا عن حياته طالباً فى الأزهر وفى الجامعة وفى البعثة بفرنسا وأستاذًاً بالجامعة المصرية، وخصوماته الأدبية وغيرها من الأمور التى كونت مذهبه فى الحياة..

أكاد أعتقد أنى لم أعرف مذهبى فى الحياة إلا شيئاً فشيئاً لأن هذا المذهب نفسه لم يتكون إلا قليلاً قليلاً، فرضته علىّ ظروف الحياة، وهى التى استخرجته من أعماق طبيعتى استخراجاً بعد أن كان كامناً فيها كمون النار فى العود كما يقول الشاعر.

وأول ما استكشف من هذا المذهب خصلة أرى أنها قد صحبتنى منذ الصبا وهى الظمأ الشديد إلى المعرفة، الظمأ الذى لا يطفئه اكتساب العلم، وإنما يزيده قوة وشدة والتهاباً فأنا لا أحصل نصيباً من المعرفة إلا أغرانى بأن أحصل شيئاً آخر أبعد منه مدى وأشد عمقاً، وليس فى هذا نفسه شىء من الغرابة، فإذا كانت حاجة من عاش لا تنقضى، فحاجة من ذاق المعرفة أشد الحاجات إلحاحاً وأعظمها إغراء بالتزيد منها والإمعان فيها، وأكبر الظن أن هذه الآفة التى ألمت بى فى أول الصبا هى التى أذكت فى نفسى هذه الجذور، فهى قد صرفتنى عن كثير مما يشغل المبصرين وحرمت على ألواناً من جدهم ولعبهم، ويسرتنى لما خلقت له من الدرس والتحصيل أنفق فيهما من الوقت والجهد والنشاط والفراغ ما ينفقه غيرى فيما يضطربون فيه وما يختلف عليهم من ألوان الحياة وخطوبها.

وما كلفت بمثل من الأمثال السائرة قط كما كلفت بهذا المثل القديم: «لا بد مما ليس منه بد».. وما أحببت بيتاً من الشعر العربى كما أحببت بيت أبى العلاء.

وهل يأبق الإنسان من ملك ربه فيخرج من أرض له وسماء لم يكن بد إذن من أن أوطن نفسى على الفراغ لما أحسنه، أو لما ينبغى أن أحسنه، أو لما ينبغى أن أحسنه من الدرس والتحصيل ما وجدت إليهما سبيلاً.

وقد فعلت أو حاولت أن أفعل فى آخر الصبا وأول الشباب، ولكن ما أسرع ما رأيت وسائل الدرس والتحصيل عسيرة على أشد العسر، فقد كنت مستطيعاً بغيرى - كما يقول أبو العلاء - لا أذهب ولا أجىء، ولا أغدو ولا أروح، ولا أقرأ ولا أتعلم إلا أن يعيننى على ذلك معين، وكانت طريقى إلى الدرس والتحصيل فى تلك الأوقات ضيقة محدودة تبدأ بى فى الأزهر وتنتهى بى إلى الأزهر وكان على أن أنفق العمر فى هذا المدار المحدود من العلم الذى كان الأزهريون يبدأون فيه ويعيدون، ولا يضيفون إليه وقتئذ شيئاً ولا يستطيعون أن يضيفوا إليه شيئاً.

وهنا ظهرت خصلة ثانية من هذه الخصال التى ألفت مذهبى فى الحياة وهى الصبر والمغالبة واحتمال المكروه ما وسعنى احتماله.

فقد صبرت وصابرت واحتملت من ألوان المشقة فى الأزهر ما رضيت عنه وما سخطت عليه، ولكننى رأيتنى مدفوعاً إلى شىء من المغامرة لم يكن يدفع إليها أمثالى فى تلك الأيام، فمالى لا أختلف مع بعض الأصدقاء إلى دار الكتب لأقرأ فيها من العلم ما لم يكن الأزهر يسيغه.

ولم أكد استكشف على القدماء من العرب وأدبهم حتى صرفت إليهما عن الأزهر صرفاً، رأيتنى ثائراً على الأزهر ودروسه ثورة جامحة لم أحسب لعواقبها حساباً، ثم لا أكاد أتصل بالجامعة التى أنشئت فى تلك الأيام حتى أكلف بما كان يلقى فيها من درس أشد الكلف، وإذا خصلة ثالثة من مذهبى فى الحياة وهى خصلة التصميم على اقتحام العقبات التى تعترض سبيلى إلى العلم مهما تكن أو أموت دونها، وإذا أنا مصمم على أن أحصل علم الجامعة ثم أعبر البحر إلى أوروبا لأطلب العلم هناك، وما أكثر ما سألت نفسى كيف السبيل لمثلى إلى عبور البحر وطلب العلم غريباً فى تلك البلاد التى لا أعرف من أمرها شيئاً، ولم أكن أجد جواباً لهذا السؤال، ولكنى كنت أقول دائماً: ومع ذلك فلا بد من عبور البحر وطلب العلم فى معاهد الغرب!.

رأيتنى ذات يوم وقد بلغت ما كنت أتمنى وأتيح لى الانتصار على أصعب المصاعب وأشد العقبات عسراً، لم أكن ذا حظ قليل أو كثير من الثراء ولم يكن يخطر لأسرتى أن تفكر فى مثل هذه المغامرة التى كانت تراها إذا سمعتنى أتحدث عنها عبثاً من العبث وتسلياً بالأحلام عن مرارة الحياة الواقعة.

وأنا أجد فى الدرس وآخذ فى تعلم لغة أوروبية، وأصل إلى النتيجة التى لم تكن تخطر لأسرتى ولا لبيئتى ولا للذين عرفونى من قرب أو بعد على بال، وأرانى ذات يوم فى سفينة تعبر بى البحر، وقد تركت الأهل والصديق فى دهش أى دهش من إقدامى على تلك المغامرة التى لم تكن فى تلك الأوقات شيئاً ميسوراً.

ولم أحتج إلى خصلتى الصبر وصدق العزيمة كما احتجت إليهما حين بلغت فرنسا فأنكرت من حولى كل شىء وكل إنسان، وأنكرنى من حولى كل شىء وكل إنسان أيضاً، ولكن الصبر والاحتمال فى عزم لا يعرف أناة ولا فتوراً أتاحا إلى أن أعرف الناس والأشياء وأن يعرفنى الناس وتعرفنى الأشياء وأنا أحيا فى فرنسا حياة مهما تكن شاقة فى أولها فقد أتيح لها اليسر والنجاح بعد العامين الأولين.

وأعود إلى مصر لا لأجلس فى حلقة من حلقات الأزهر كما كانت أسرتى تتمنى لى، ولكن لأكون أستاذاً فى الجامعة، وقد أخذت أشارك الناس فى الحياة العامة وكانت ثقيلة فى تلك الأيام، كانت صراعاً بين مصر وبين الإنجليز، وكانت صراعاً بين الأحزاب المصرية نفسها، وأنا أحمل نصيبى من هذه الأثقال كغيرى من المواطنين.

ولكن خصلة أخرى من خصال مذهبى فى الحياة تكشفها إلى الظروف الجديدة التى عشت فيها منذ عدت إلى مصر، وهى خصلة الصراحة والجهر بالحق مهما يكن حراً محضاً، والنضال فى سبيله مهما يثقل هذا النضال ومهما تكن عواقبه.

وكذلك رأيتنى أخاصم فى السياسة وأخاصم فى الإصلاح الاجتماعى، وأخاصم فى تجديد العقل المصرى، وتغيير منهجه فى البحث والدرس، وأخاصم فى نقل المناهج الغربية الحديثة لأفرضها على دراسة الأدب والتاريخ فى مصر..

وإذا أنا أثير الخصومات وأحفظ الصدور وأغري الناس بنفسى وألقى من ذلك الجهد والمشقة، وأغضب فى وقت واحد كثرة البرلمان وصاحب القصر ولكن لا أحجم ولا أتردد وإنما تزيدنى المحنة إقداماً وتصميماً.

ثم أمضى فيما أنا فيه من الصبر والتصميم والمجاهرة بما أرى أنه الحق غير حافل بسخط الساخطين ولا رضى الراضين حتى يبلغ الأمر غايته، فأمضى عن الجامعة وأحارب فى الرزق وأتلقى ألوان النذير فلا يقل ذلك من عزمى وإنما يزيده مضاء وتصميماً.

وكذلك غالبت المصاعب والعقاب على اختلاف مصادرها وعلى اختلاف ألوانها وطبيعتها، وأتيح لى التغلب عليها آخر الأمر ولو إلى حين وهنا تظهر الخصلة الأخيرة التى عرفتها من مذهبى فى الحياة إلى الآن وهى حبى أن أرى الناس جميعاً فى الشوق إلى العلم والاستزادة منه والوصول إليه دون أن يجدوا مثل ما وجدت من المشقة ودون أن يمتحنوا بمثل ما امتحنت به من ضروب العناء، وإذا أنا أدعو إلى ذلك وألح فى الدعوة إليه على كره السلطان له فى ذلك الوقت، والناس يسمعون لى ويستجيبون لدعوتى والسلطان يضيق بى وبالناس، ولكنه مضطر آخر الأمر إلى أن يستجيب لبعض ما كان الناس يلحون فيه، بخيلاً باستجابته متردداً فيها لا يقبل عليها إلا كارهاً، ثم تتاح لى المشاركة فى السلطان ذات يوم، وإذا أنا أستحى أن ألقى الناس بغير ما عودتهم من المطالبة بنشر التعليم وتيسير المعرفة للناس جميعاً، فأبذل فى ذلك ما أملك من الجهد ولا أترك السلطان إلا وقد استقر فى نفوس الناس أن العلم حق لهم يجب أن يكونوا جميعاً سواء فى القدرة على أن يطلبوه أحراراً لا يجدون فى سبيله مشقة مهما يكن لونها.

وكذلك عرفت من طبيعة نفسى خصالاً هى التى أستطيع أن أقول أنها كونت مذهبى فى الحياة: ظمأ إلى المعرفة لا سبيل إلى تهدئته، وصبر على المكروه، ومغالبة الأحدث، وطموح إلى اقتحام المصاعب فى غير حساب للعواقب، وجهر بما أرى أنه الحق مهما يعرضنى له ذلك من الخطوب ثم شعور كأقوى ما يكون الشعور بالتضامن الاجتماعى يفرض على أن أحب للناس من الخير ما أحب لنفسى.

أحقق لى هذا المذهب فى الحياة ما يطمح الناس إليه من السعادة التى تنعم بها النفس، ومن الغبطة التى يطمئن إليها القلب، والرضى الذى يرتاح إلى الضمير؟

هيهات! إن هذه السعادة لم تقدر لمثلى، وكيف السبيل إلى السعادة والغبطة والرضى وأنا لم أبلغ شيئاً إلا طمحت إلى شىء آخر أبعد منه منالاً، ولم أحقق أملاً لنفسى وللناس إلا دفعت إلى أمل هو أشق منه تحقيقاً، إنما يسعد الناس هذه السعادة حين يتاح لهم حظ من الفلسفة لم يتح لى، أو يقضى عليهم بفراغ النفوس والقلوب والعقول ولم يقض على بهذا الفراغ..!.

فإذا كان الأمل الذى لا حد له، والعمل الذى لا راحة منه سعادة، فأنا السعيد الموفور ما فى ذلك شك، أما إذا كانت السعادة هى الرضى الذى لا يشوبه سخط، والراحة التى لا يشوبها تعب، والنعيم الذى لا يعرض له البؤس فإنى لم أذق هذه السعادة بعد وما أرى أنى سأذوقها إلا أن يأذن الله لى بها فيما وراء هذه الحياة.

حماقات الرجال

الحماقة الأولى: أن يتسلق الرجل الأشجار كى يجنى منها الثمار والفاكهة، فى حين أنه لو انتظر الوقت الكافى لسقطت الفاكهة عند قدميه من تلقاء نفسها!.

الحماقة الثانية: أن يذهب الرجال إلى ميادين القتال كى يقتل كل منهم الآخر، بينما لو انتظروا لماتوا جميعاً ميتة طبيعية!.

الحماقة الثالثة: وهى أدهى من سابقتيها: إن الرجال ما زالوا يطاردون النساء، والواقع أنهم لو تريثوا وقتاً كافياً لطاردتهم النساء!.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة