الثلاثاء 11 يونيو 2024

تيمة الاغتراب والغنائية في "حروف الغربة"

فن23-10-2020 | 15:04

نلمح من خلال تجربة كتابة نصوص المجموعة القصصية الأولى "حروف الغربة" للقاص الإسكندري "عصام سعد حمودة" هذا الارتباط الوثيق بمضمون الاغتراب وصوره المتعددة التي تطرح تلك القضية كسمة من سمات التعاطي مع الواقع والذات والآخرين من خلال بنية اجتماعية تبدو مميزة لهذا الإيقاع الغالب على نصوص المجموعة، ومن ثم روح الكتابة..

تأتي صورة التعبير عن تيمة الاغتراب في نص "البحث عن مكان" حيث يقدم الكاتب شخصيته المختارة من واقع اجتماعي شائه للأزمة، وهي شخصية الفتى المعاق الذي تتجسد فيه صورة من صور الاغتراب في محيط مجتمعه/ بيئته التي تقتلع منه الإحساس بالأمان، وتقصيه في منطقة نفسية شائكة، برغم المظهر الخارجي الذي لا يدل على إعاقته، فيستهل الكاتب نصه ببراعة المباغتة التي يلقي بها ضوءًا كاشفًا على أغوار الشخصية النفسية، وتأثير التحول الطارئ (الإعاقة) عليها:

"كان يغوص في أقرب مقعد يصادفه.. الآن يجلس على المقعد الذي تعلوه لافتة (مخصص لكبار السن والمعاقين)

-     قلة ذوق.. قاعد ومش مراعي راجل كبير واقف"

هذا الصوت الخارجي المتداخل يعبر إلى حد كبير على مدى الالتباس في وعي المجتمع، مع سمة عدم تقدير الأمور وغيمان الرؤية التي تفسد الكثير من العلاقات في محك التعاملات اليومية والدائمة التي تحكم العلاقات بين البشر، ما يلفت النظر في اتجاه الأثر المجتمعي الذي يترك تشوهاته وانطباعاته على رؤية المجتمع ككل تجاه هذه الظاهرة – كنموذج – أو هذه الفئة التي يمثلها الشاب المعاق الباحث عن مكان له في مجتمع/ بيئة/ وطن.. في معرض تعاملاته ومعايشته لذلك الواقع المستلب له، ومحاولاته للبقاء في هذا الوجود من خلاله كعنصر طبيعي وفاعل من العناصر التي ينبغي أن يكون لها مكان تحت الشمس، أو المكان الآني الذي تمثله الحافلة كمجتمع مواز للمجتمع البشري ودال عليه، ذلك الذي يجعل الذات تتقوقع على نفسها وسط خضم الانتقادات وعدم قبولها للآخر، لا بد وأن تشعر بقسوة اغترابها عن المكان، واللجوء إلى سياحة الذهن في شجون الذات وعلاقة المجتمع غير السوية معها، ما يدفع لاجترار خلفية الذات وتاريخها الخاص الذي يعبر عنه ضمير السارد العليم بقوله:

"تقدَّم لوظائف عديدة.. طرق أبوابًا كثيرة في أعمال كثيرة.. تخترق أذنه كلمات الرجل الجالس خلف المكتب..

-     لا نريد آخرين، لدينا النسبة التي حددها القانون، لن نتعداها.. إنهم لا يفعلون شيئًا سوى انتظار المرتب والحوافز"

ينطلق صوت آخر ضاغط على الذات، وعلى شعورها بالتراجع والتقوقع والتجزر والدخول في حيز الشعور القوي بالاغتراب في أرض/ بيئة/ مكان طارد، فتمثل ردود الأفعال أو الصدمات المتوالية من خلال تلك الأصوات التي تخترق الذات وتعمل على ثقبها، وفصم عرى العلاقة مع الواقع المحيط، لتنهل من التاريخ الخاص بالشخصية، وعلاقاتها المبتورة مع الأقران، ما يشي بالانفصال التام عن هذا الواقع الذي لا يمنح إلا القليل من الانتصارات الذاتية المحدودة في لعبة من ألعاب الذكاء الذهني، ما يشعل به طاقات التخييل للتوازي مع الحالة النفسية الدالة:

"في الليل كان سعيدًا وهم يتوارون من أمامه حين انهارت الطوابي وسقطت البيادق واحدة تلو الأخرى، ونفقت الجياد، والوزير صريع أمام الملك العاجز أمام الرقعة.. يرقص فوقها.. يرفض أن يكون ملكًا خطواته مقيدة.. يصاب بالضيق من كثرة مواجهاته مع الآخرين.. يفوز أحيانًا.. يخسر كثيرًا"

كما تلتحم تلك التداعيات وتتقاطع مع الواقع الخارجي في الحافلة، والذي تبرز تفاصيله تلك الصراعات القائمة بين البشر وتموجات تحركاتهم المضادة لعجز الشخصية الذي لا يبدو لهم، ولا تملك الدفاع عنه وسط هذه اللجة من الصراع على الوجود:

"احتكاك القضبان بالعجلات، وارتجاج الأجساد وتمايلها داخل الترام، وصوت الرجل الواقف أمامه وأحد الجالسين يفسح له مكانه والرجل يرفض بشدة، يخرجانه من شروده"

يلعب النص بتلك الديناميكية على التوازي بين ما يدور داخل الذات وخارجها، وداخل العربة وخارجها، وتكثيف نقاط الصراع والإحساس بالعجز وعدم القدرة على التكيف مع الوضع القائم بذلك الشعور الحاد بالاستيحاش والوجود غير المرغوب فيه مهما امتلكت الذات مبررات المواجهة والتشبث بفرص الوجود بالحياة/ الحافلة، وهو ما تهرب منه الشخصية/ الكاتب بسرده بالنهاية الدرامية الكاشفة والرامزة في نفس الآن لتجسيد أزمة الهوية والاغتراب التي يعاني منها بطله المستلب، وهو يهبط من الحافلة منعتقًا بذاته من ذلك الإحساس بالاغتراب ولو إلى حين:

"يصل الترام المحطة.. يهبط الفتى بقدمه السليمة مطوحًا بالأخرى في الهواء حتى استقرت على الرصيف"

ليجمع النص بين براعة استهلاله وختامه، لتجسيد – فيما بينهما - موقف درامي عنيف على المستويين النفسي والمادي، بهذه التقنية من التوازي بين الداخل والخارج، ومن خلال تقنية الفلاش باك التي استطاعت التداخل مع الحالة الآنية لتجسيد الحالة وتقديمها بتلك الطريقة الشفيفة المعبرة.

***

الغنائية والاغتراب

ترتبط الحالة الغنائية التي يستهل بها الكاتب نص "قطار الخامسة"، ارتباطا مهمًا بحالة الشجن للشخصية الساردة بضمير المخاطب التي تريد كسر طوق اغترابها عن واقعها بهذه الشحنة المتميزة من الشعور الطاغي المؤسس لنمط حياة رتيب مضبب تتوافر به ملامح الاستلاب النفسي؛ ففي هذا النص يلعب القطار دورًا فاعلًا في تجسيد معنى من معاني الاغتراب عن الواقع من خلال الشخصية التي تواجه ذاتها وآخرها (الأنثى التي أتت كحاضر غائب) بهذا الضمير المواجه الذي يعلي من قيمة الحس الإنساني في مقابل الأزمة الحياتية الطاحنة:

"تتوغل في الضباب مثل كل شيء في القرية، محطة القطار، داركما البعيدة.. يقتحم أذنيك قادمًا من بعيد صوت نباح مستمر، كلما تقدمت خطوة تأخذ حذرك.. تمضي في طريقك.. تداهمك نخلة عجوز رابضة وحدها سنين طويلة لتعلن عن قرب وصولك للمحطة.. تنتظر قطار الخامسة بدبيب عجلاته، وضوئه الشاحب حين يقدم من بعيد".

فالقطار الذي يلتهم جزءًا مهمًا وثابتا ومحددًا زمنيًا من حياة المخاطب في هذا النص، يتحكم في إيقاع الحياة برتابتها وتفاصيلها المملة وضغطها المتزايد على الذات التي لا يكتمل لها معنى من معاني الوجود وسط ضبابية يستهل بها الكاتب نصه متورطًا في صياغة نص غنائي مشبع بالشجن.

فضلا عن التفاصيل التي تأتي تراتبيتها لتؤكد على هذه النغمة الحزينة المصاحبة لسرد تلك المنظومة الاعتيادية من الحياة، مع ظلال/ مؤشرات على علاقة غير مطمئنة مع زوجة/ رفيقة حياة قد تكون عاقرًا، ما يضغط على الذات في وجعها الذي يصم كل العلاقات بالفتور والتراجع والشعور بالوحدة والاغتراب عن كل تلك التفاصيل الدالة التي ربما كانت مؤثرة في الخط السيري لتاريخ الشخصية، وممارسات حميمية مشتركة على محك العلاقة الإنسانية:

"في القطار تحوِّط عليها بجسدك مانعًا كل من تسول له نفسه شيئًا.. لم تلحقا قطار العودة.. تلح عليك في رؤية البحر.. تلمح في عينيها دهشة شديدة، وتدرك خطأها وأهل القرية حين يطلقون كلمة البحر على الترعة الواسعة التي تمر بقريتهم"

يواصل القطار بمدلوله النفسي على العلاقة بين الزمن والمسافات المقطوعة في وعي الشخصية بكل متعلقاته وضغطه النفسي والذهني وانشغالاته، العزف على الشجن التي تثيره تلك العلاقة المرتجاة بين الشخصين المخاطبين من خلال ذلك الصوت الغنائي السارد على مدار النص القصصي في توحد مقصود من السارد المخاطب لذاته، حين ينفصل عنه الجزء الآخر (الأنثى كرمز أو معادل أو هدف لاستمرار هذا الحس بالوجود) الذي كان متوحدًا معه، عندما تعلو وتيرة التردد في حرارة العلاقة بينهما وافتقاد عنصر الأمان ومن ثم عدم استمرار دواعي الارتباط، ومن ثم الوقوع في دائرة الحس بالاغتراب عن هذه التفاصيل التي يصوغها النص ببراعة التعامل مع فكر الأزمة والتخبط، ومحاولات الخروج اليائسة:

"ترتدي ملابسها، تزين وجهها بالألوان والمساحيق.. تخبرها بأنك لن تذهب اليوم منتظرا منها أن تجلس بجوارك.. تتركك بحجة أن لديها عملا متأخرا.. تمضي وتغلق الباب وراءها.. من بعيد يأتي صوت النباح يقترب ويقترب مختلطا بصوت القطار"

بعد الانفصال الروحي أو المادي على حد السواء ينفرد المخاطب بمواجهة ذاته وحيدًا، حيث يعمل النص على التوازي بين صوت النباح مع الصوت القادم من أعماقه معبرا عن استيحاشه وانعزاله، وتداخله مع صوت القطار كائتلاف لحالة الذعر والخوف والشعور يالاستيحاش لتلك الحالة من التجزر والانعزال التي تؤدي إليها انفصام عرى العلاقة مع الشخصية الأخرى، ما يجعل المخاطب بشجونه وآلامه نهبًا وفريسة للشعور بالاغتراب مع كل من حوله من كائنات وجماد ربما كان التعامل مع وجودها محتملًا في حال أخرى غير التي فارقته فيها الرفيقة، وهو ما نجح النص في تجسيده وتضمينه في هذه النهاية المؤكدة على حس الانكسار واللوعة والذي جاء متواكبًا مع الأسلوب الغنائي في السرد، معبرا عن أزمة تطاحن الفرد/ الذات مع الواقع وتداعيات إفساد تلك العلاقة، وتجمدت على هذا الوضع النفسي وهذا الحس الذي يخيِّم على النص بكابوسيته.