الثلاثاء 4 يونيو 2024

مجتمع جديد.. أو الكارثة!

25-4-2017 | 12:56

ربما كان جيلنا.. جيل السبعينيات.. هو آخر جيل تربى على الثقافة الوطنية الرصينة.. وصال وجال شبابه.. داخل مدارس الفكر المتعددة.. فى العالم.. وفى عالمنا العربى.

عندما كنا شبابا.. كنا نقرأ كل ما يصل إلى أيدينا مما ينتجه الفكر العالمى من تيارات فكرية متعددة: كالماركسية والوضعية المنطقية والوجودية.. 
وكانت جلساتنا جدلا مستمرا حول شعارات الاشتراكية العلمية والاشتراكية العربية والتطبيق العربى للاشتراكية.

ولم يكن اهتمامنا بالفكر السياسى، يشغلنا عن الاهتمام بالتيارات الجديدة فى المسرح والسينما والشعر والأدب.

كان.. زادُنا وزوادُنا فى هذا.. ما كانت تنشره المجلات الفكرية المختلفة كالطليعة والكاتب والفكر المعاصر.. التى تصدر فى القاهرة.. أو مجلة «الآداب» التى كانت تصدر فى بيروت.. أو ما كانت تنشره مجلة العربى التى تصدر فى الكويت.

وكنا نستطيع أن نتحصل على كل ذلك.. وغيره.. من روائع المسرح العالمى.. بقروش قليلة.. تتحملها ميزانياتُنا المتواضعة.. وكنا سُعداء بما تحصّلنا عليه من فكرِ وفنِ وأدبِ.. يتسرب إلينا.. دون أن نشعر.. من حقبة الستينيات..

وكان ذلك ضمن ما يتسرّب إلينا.. من قيم ومبادئ وطنية وعروبية.

ولا أبالغ.. حين أقول.. إن صراع التيارات الفكرية المختلفة قد احتوانا فى عباءته.. شبابا غضا.. وترك بصماته واضحة علينا حين أصبحنا رجالًا.. وكهولا.

وكان مما تأثرنا بهم فى شغاف القلب والعقل، الدكتور «زكى نجيب محمود»: شيخ الفلاسفة.. كان فيلسوفا فى زى أديب.. أديبا فى زى فيلسوف.

جمع الدكتور «زكى نجيب محمود» فى شخصه.. ضمن ما جمع.. منطق العلم والحجة.. وجمال التعبير باللغة العربية..

كانت لغتُه العربية باهرة ومبهرة.. تشدنا بجمالها وسلامة منطقها.. وسياحتها فى الأفكار والحوادث والأشخاص والأزمان.. وهكذا..

وكان كتاباه «مجتمع جديد.. أو الكارثة» و»تجديد الفكر العربى».. أولى الصرخات العالية التى نبهت مصر والمصريين والعرب.. إلى الانزلاق الخطير الذى بدأ فى الظهور فى منتصف السبعينيات نحو «الدروشة» والخرافات والغيبيات والتفسيرات الرجعية للدين.

ولاشك أن بصيرة الفيلسوف كانت تتيح له أن يقرأ مقدمات «الكارثة» التى سننزلق إليها بنعومة وخبث.. حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم.

وفى أول فصل من كتابه «مجتمع جديد.. أو الكارثة».. نقرأ مقالا يوضح هدف الكتاب.. وهدف كاتبه.. فسخر له كلّ عمره.. وهكذا جاء عنوان الفصل الأول فى كلمتين: سلطان العقل..

ولنأخذ مما كتبه فى هذا الفصل فقرة واحدة جميلة وعجيبة.. إذ نراه يقول: 
«.. وها هو ذا أمير المؤمنين الإمام على بن أبى طالب.. وقد همّ بالخروج لمقاتلة الخوارج، فجاءه «مُنّجِم» يدعى القدرة على حساب الغيب. ونصحه بألا يسير إلى القتال فى تلك الساعة.. وبأن يجعل سيره فى ثلاث ساعات مضين من النهار.

فما كان من الإمام «على بن أبى طالب».. كرم الله وجهه.. إلا أن أعرض عن هذا المُنّجِم.. بعد أن عنفه تعنيفا.. ومضى فيما كان ماضيا فيه.. وانتصر!!

وقال لأصحابه ساعة النصر: لو سرنا فى الساعة التى حددها لنا «المُنّجِم».. وانتصرنا.. لقال الناس أن النصر إنما تحقق بفضل ذلك المُنّجِم ونبوءته.. أما أنه ما كان لمحمد.. صلى الله عليه وسلم.. من مُنّجِم.. ولا لنا بعده.. حتى فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر. وهكذا.. فى لغة جميلة.. وحادثة مُوحية.. ينتصر الدكتور «زكى نجيب محمود» للعقل والعمل والجهد فى مواجهة الخرافة والتنجيم.

ثم يذهب بنا.. فى نفس المقال.. لرائد من رواد التفكير العقلى فى تاريخنا المعاصر هو الشيخ الإمام «محمد عبده».. فنراه يقول:

«.. إن نهضتنا الحديثة كلها قد بدأت، عندما دعا الداعون إلى يقظة العقل، لترتبط النتائج بأسبابها الصحيحة، وكان أبرز هؤلاء الداعين حكم العقل هو إمامُنا الشيخ «محمد عبده».. فلقد أخذ بكل جهده.. يوضح العقائد الأساسية فى الإسلام توضيحا يُبين منه استنادها إلى منطق العقل. انظر.. مثلا.. تفسير الشيخ محمد عبده «للحسد»، إذ إنه إذا جعل شر الحاسد إذا حسد، مجرد نظرة ينظر بها الحاسد إلى المحسود، لجافى ذلك حكم العقل، لأن النظرة وحدها.. لا تحرك ذرة من مكانها، فكيف تصيب أحدا فى مالِه أو عياله أو صحته ؟!

ويرى الشيخ «محمد عبده»: أن القائل بمثل هذا.. هو بمثابة من يرد النتائج لغير أسبابها الصحيحة، وبالتالى فهو يحتكم فى هذا إلى غير العقل ومنهجه فى التفكير والتعليل.. أما إذا فهمنا «الحسد» على أنه فعل «إيجابى»، يبذله الحاسد.. ليغير به من حالتك على النحو الذى يريدك أن تتغير به، وهو بالطبع يفعل فعله فى الخفاء.. ليهدمك من حيث لا تدرى.. ومن حيث لا تتخذ الحيطة اللازمة لدرء الخطر عن نفسك، فإن مثل هذا الفهم يحيل الحوادث إلى تعليلها الذى يجيزه العقل.

ويبدو أن هذا الفهم العقلى لم يكن نتاجا للثورة العلمية والفكرية التى نهل منها الإمام محمد عبده فى نهاية القرن التاسع عشر.. بل هو موقف قديم فى تراثنا العربى والاسلامى.

إذ نرى الدكتور زكى نجيب محمود يقول: «.. وموقف عقلى كهذا، كان قد سبق إليه الإمام «الغزالى»، حين قال: إننا إذا وجدنا نصا من نصوص الشرع.. لا يتفق معناه الظاهر.. مع حكم العقل.. علمنا أنه لا بدّ أن يكون لذلك النص معنى غير معناه الظاهر.. ووجب علينا أن نحاول تأويله تأويلا يُخرج منه المعنى المقبول عقليا.. وهناك قول الغزالى بنصه: «إن لنا معيارا فى التأويل.. وهو أن مادلّ نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره.. علمنا.. بالضرورة.. أن المراد غير ذلك، («مجتمع جديد.. أو الكارثة».. طبعة مكتبة الأسرة ٢٠٠٧.. صفحة ١٠-١١).

وهكذا يأخذنا شيخ الفلاسفة وأديبهم خلال فصول الكتاب فى «تطواف» سهل وممتع.. يشبه تطواف المركب على سطح النيل الخالد.. تستمع فيه بالكتاب كاستمتاع المسحور بالنسائم اللطيفة على صفحة النيل الرقراقة.

وفى الختام..

كتبت.. ما كتبت.. وفى قصدى ونيتى تنبيه القائمين على شئون التعليم فى بلادنا.. والمهتمين بقضية تجديد الفكر الدينى.. بقيمة وأهمية أن يستعينوا بمؤلفات الدكتور زكى نجيب محمود للوصول إلى أهدافهم بيسر وسهولة. 
لماذا لا نستعين بمؤلفات الدكتور زكى نجيب محمود فى سنوات الدراسة المختلفة من الإعدادية حتى الثانوية العامة.. فتصبح فصول كتابه «مجتمع جديد.. أو الكارثة» موزعة على السنوات الست قبل الجامعة. 
ولماذا لا يصبح كتابه: «تجديد الفكر العربى» مادة مصاحبة.. وإجبارية.. عل كل الدارسين بالجامعات.. بشقيها: العلمى والأدبى.

فهى كتب فى الفلسفة.. صحيح.. ولكنها تخلو من «لغة الفلاسفة» الصلدة القاسية التى تضيق بها النفوس.

وهى مؤلفات تضم أفكارا عميقة حقا.. لكنها تأتى فى صورة «سياحة» فكرية لطيفة فى الأماكن والعصور والرجال والأفكار.

لقد بدأنا بالسؤال.. أو الصرخة التى أطلقها أستاذنا الكبير الدكتور «زكى نجيب محمود» فى منتصف السبعينيات: مجتمع جديد.. أو الكارثة ؟!

واليوم تغير الزمن ودار دورته.. وتغير السؤال.. فصار: يارب.. كيف سنخرج.. من هذه الكارثة؟!