بقلم – د. حسين عيسي
تعانى مصر منذ عقود طويلة أعراض أمراض التطرف والإرهاب، وفى تصورى أن ظاهرتى التطرف والإرهاب ما هى إلا وجهان لعملة واحدة هى الفقر والجهل والمرض وكلما تخلت الدولة عن دورها المهم فى مقاومة الفقر والجهل والمرض، اشتدت أعراض مرض التطرف الذى يتحول سريعاً فيما بعد إلى الإرهاب بكل أشكاله وصوره ومعانيه.
فى ظل الفقر ينمو التطرف، فالإنسان غير القادر على تلبية احتياجاته المعيشية يصبح فريسة سهلة لتلقى الأفكار الظلامية المغلوطة، لاسيما حين يسود الاعتقاد أنك إذا خسرت الدنيا فتعالى معنا لتكسب الآخرة حيث الراحة الأبدية والنعيم المقيم، وبالتالى فلا عجب أو غرابة أن تنتشر مفاهيم الظلام والتخلف والتكفير فى ربوع الأحياء الفقيرة والعشوائيات والأماكن التى تعانى البطالة وسوء الأحوال الاقتصادية، بحيث تتحول هذه الأماكن إلى قنابل موقوتة قابلة للانفجار فى أى لحظة فى إطار سيطرة مفاهيم تغيب العقل وتنشر الفكر المتخلف بدعوى إمكانية الفوز بالدار الآخرة طالما خسرنا الدنيا وما فيها!.
ونتحدث عن الجهل وهو أمر يختلف عن الوعى ... فنحن شعب يعانى ٢٢٪ من سكانه عار الأمية، هذا خلاف نسبة أخرى لا تقل فى رأيى عن ٣٠٪ تمثل شرائح من المجتمع تعرف القراءة والكتابة بمستوى بسيط مخجل ولكنها غير قادرة على قراءة وفهم وتفسير الأفكار والمعانى العميقة بل تأخذ الأمور على ظواهرها وعلاقتها دون تمييز أو مراجعة .. عندما ينتشر الجهل بكل صوره وأشكاله ... الجهل بالقراءة والكتابة والجهل بفهم وقراءة العمل الأدبى أو الفنى والجهل بالسلوكيات القويمة والجهل بقواعد النقاش والتخاطب والجهل بإدراك مصالح الدولة العليا ومحددات مصالح الشعوب ... وغيرها من مظاهر الجهل المختلفة ... عندما ينتشر الجهل بهذا الشكل ينمو الفكر الظلامى المتطرف وتسود الأفكار السوداء العشوائية ويقف المتلقى مخدوعاً بالمظهر الدينى الخارجى لمن يلقنه الأفكار المسمومة، ويصبح هذا المتلقى مستعداً لاستقبال كل ما هو منافٍ للعقل والقلب والوجدان بنفس سمحة راضية، معتقداً أن إرضاء الواعظ هو من إرضاء الله سبحانه وتعالى فنقف أمام متطرف من الطراز الأول لا نجد أى صعوبة أن نأمره أن يفجر نفسه بحزام ناسف للقضاء على أقباط أو تدمير كنيسة أو اقتحام كمين أمنى وقتل أبرياء من رجال الشرطة والقوات المسلحة، ولا يجب أن ننسى أن موجة سفر المصريين للعمل بدول الخليج بعد حرب أكتوبر قد ساهمت بشكل كبير على نمو الفكر المتطرف الذى أفضى إلىالإرهاب بعد ذلك؛ فالفكر الوهابى المنتشر فى دول الخليج صادف أعدادا غفيرة من البشر تعانى الفقر والجهل بمعناه الواسع والشامل؛ وبالتالى اعتنق الآلاف هذا الفكر المتخلف وعادوا إلى مصر محملين بأصول هذا الفكر، فبدأنا نرى مدارس إسلامية ومطاعم إسلامية وإعلاما إسلاميا، وانقسم المجتمع إلى مسلم وقبطى، وانقسم المسلمون أنفسهم إلى سنة وشيعة، واشتد عود الأفكار العدائية للإخوة الأقباط، وراج سوق الكتب الصفراء التى تتفنن فى تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بما ليس فيها وبمفاهيم ما أنزل الله بها من سلطان، وعاش المجتمع مفارقات أخلاقية مميتة؛ حيث يشتد التمسك بالشعائر والعبادات، فى حين يأخذ السلوك الحياتى اليومى منحنى هابطا سنة بعد سنة فتزداد حالات التحرش والاغتصاب، وأصبحنا نسمع عن جرائم بشعة لم يعرفها مجتمعنا المصرى من قبل وأصبح الانفصال الكامل بين أداء الفرائض وارتكاب المعاصى واقعا نعيشه جميعاً.
ونأتى إلى المرض ... والمرض أنواع منها ما هو عضوى ومنها ما هو نفسى وإذا اشتد المرض العضوى بالإنسان وفقد الأمل أن تقدم له الدولة الخدمة العلاجية المعقولة مجاناً أو بتكلفة يمكن تحملها ... هذا الإنسان قد يصبح فريسة سهلة للأفكار المتطرفة والخيالات المريضة والتى قد تدفعه إلى ارتكاب أفعال إرهابية لا يصدقها هو نفسه ... وعن الأمراض النفسية فحدث ولا حرج، فالكثير من عصابات الإرهاب وجماعات الخوارج تستغل المرضى النفسيين وتزرع فيهم العديد من الأساليب الجديدة المبتكرة الأوهام والأفكار السوداء والتى ينتج عنها التطرف الفكرى الذى قد يدفع إلى الأفعال الإرهابية الحقيرة ... والأمثلة عديدة على ذلك.
التطرف الفكرى والأعمال الإرهابية وجهان لعملة واحدة هى عملة الفقر والجهل والمرض؛ ولذلك فإن بناء منظومة ثقافية تعليمية حضارية سليمة وكذلك منظومة صحية متكاملة فى إطار منظومة اقتصادية تراعى احتياجات الطبقة المتوسطة والطبقات الأقل دخلاً ... هذه المنظومات الثلاث أصبحت تشكل أولوية لأى حكومة رشيدة وأصبح معيار النجاح للحكومة هو فى مدى التقدم الذى يحدث على أرض الواقع فى المجالات الاقتصادية والتعليمية والصحية.
لقد نادى السيد رئيس الجمهورية مراراً وتكراراً بضرورة تجديد الخطاب الفكرى والدينى، وهنا ألمح تقاعساً شديداً من المراكز البحثية والنخبة المثقفة خصوصاً فى مجال الدراسات الاجتماعية فى إعداد الدراسات النفسية والاجتماعية التى ترصد أنواع وأعراض وأسباب التطرف الفكرى والأعمال الإرهابية النابعة عنه ... وهنا ألمح إلى الدور الذى كان يجب أن يقوم به المركز القومى للدراسات والبحوث الاجتماعية والجنائية وهو الذى عوّدنا على إعداد الدراسات القيّمة المستفيضة التى تقوم على المنهج العلمى السليم والتى تقوم بتشريح أهم الظواهر الاجتماعية التى يمر بها المجتمع مفسراً ومحللاً أسبابها وخصائصها وعلاقتها بالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية ... نحن الآن فى أحوج ما نكون إلى إعداد تلك الدراسات التى تفسر وتحلل وتعرض أسباب وخصائص التطرف الفكرى وخطورة استمراره على المجتمع وماهى الدوافع التى تنقل المتطرف إلى مساحة أخرى أخطر وأشد فزعاً وهى المساحة الخاصة بارتكاب الأعمال الإرهابية الحقيرة التى لا يقرها عرف أو دين وكيف يمكن أن يقتنع هذا الإرهابى أن ما يفعله هو فى صالح نفسه وصالح فئات معينة وهى التى أوحت له بارتكاب هذه الأعمال الإرهابية الدنيئة.
لقد كان صدور قرار رئيس الجمهورية بتشكيل المجلس الأعلى لمكافحة التطرف والإرهاب هو ما كنا ننتظره منذ فترة طويلة ولعل هذا المجلس بما سوف يضمه من قامات فكرية وثقافية وتنفيذية يمكن أن يضع لنا إستراتيجية شاملة لمواجهة خطر التطرف الفكرى والأعمال الإرهابية بحيث نبتعد قليلاً عن تجميع البيض كله فى سلة واحدة ونرتكن إلى أن جهة ما أيا كانت هى التى سوف تتولى هذا الملف ويضيع الوقت ونلمح التكاسل وعدم الاكتراث فنكرر النداء المرة تلو الأخرى ولا حياة لمن تنادى ... أرجو أن ينتبه كل المخلصين من أبناء هذا الوطن أننا فى معركة حقيقية ضد التطرف الفكرى والسلوك الإرهابى وهى معركة لو تعلمون أشد خطورة من كل معاركنا التقليدية السابقة ... ففى المعارك السابقة كان العدو يريد أن ينتصر علينا ويحصل على المقابل ... ولكن فى هذه المعركة العدو للأسف يعيش بيننا ويأكل ويشرب معنا وهدفه هو تحطيم المجتمع وكسر الدولة وفرض النموذج الذى يراه مناسباً وما هو إلا نموذج الغدر والعمالة والخيانة والقضاء على الأوطان ... الموقف خطير يا عقلاء الوطن ويستوجب منا جميعاً منتهى الصحوة والانتباه .