لا أستطيع أن أنحى جانباً عنصر السبق الصحفى.. فهذا أول حديث لزوجة الدكتور طه حسين للصحافة.. سأمر بشكل عابر على رفضها أن تتحدث أكثر من مرة وترددها ورهبتها.. ولن أتوقف أمام جلال الحزن الذى قرأته فى عينيها، ولا الحب الكامن لذلك العزيز العظيم كما لمسته بنفسى فى الأحرف والكلمات والجمل.. وحتى لا أعرف من أين ابدأ.. هل بما قاله هو عنها أو بما قالته هى عنه .. لنثبت هنا جملة صغيرة.، يقولها طه حسين فى آخر صفحات كتابه الأيام محدثاً ابنته أمنية، والحديث عن زوجته: “لقد حنا يا ابنتى هذا الملك على أبيك فبدله من البؤس نعيماً ومن اليأس أملاً ومن الفقر غنى ومن الشقاء سعادة وصفواً” لأصف الآن كيف تم لقائى بها فى الحديقة الخلفية لفيللا الدكتور محمد حسن الزيات بالمعادى، جلسنا نحن الأربعة.. تتوسطنا هى بملابسها السوداء وعلى يمينها ابنتها أمنية وعلى يسارها الدكتور محمد حسن الزيات، وتنتقل الأسئلة منى إليها والإجابات منها عبر الدكتور الزيات مضيفاً إليها - الأسئلة والإجابة معاً - نكهته الخاصة، وروحه فى الحديث، وذكاؤه النادر فى الفهم.. لنبدأ به هو إذن.. الحاضر الغائب، طه حسين، آخر فراعنة فكر مصر الحديثة، الرجل الذى تعرفه قطرات الدم ودقات القلب فلقد تعلمت وأهلى لا يملكون شيئاً لأنه قال ذات يوم إن التعليم حق للجميع كالماء والهواء.. لنحاول معاً أن نرتب الحديث.. ولنبدأ من البداية التى جاءت على لسان رفيقة عمره أقرب الناس إلى طه حسين، عقلنا وكبرياؤنا والرمز الباقى لمن أبحروا فى الأيام العصيبة ثم وصلوا إلى بر مصر.
عطاء مصر
أول ما قالته كان تاريخاً.. قالت لنبدأ بيوم 28 أكتوبر مكان توقفها الأول أمام الذين ساروا فى جنازته.
- كنت فى سيارتى وأثناء الصلاة فى المسجد، عرفنى الناس، اقترب واحد منهم منى، كان سلامه نقطة بدء، وانهالت على الأيادى والأكف وملامح الوجوه، إننى أركز كثيراً على هذا، فهو أن طه حسين لم يكن عالماً ومفكراً وأستاذاً فقط، لقد عاش وهو يفكر فى هذا الشعب وفى قضيته، وكان همه الدائم، كيف يمكن أن يعيش هؤلاء الناس حياة أفضل وها هو الشعب يشعر بهذا، لقد أثر فى منظر الجنازة، إنهم لا يزالون يذكرونه ويشعرون به، لن أنسى هذا أبداً، رجل صعيدى فى الأربعين من عمره، وقف وألقى شعراً عن طه حسين، الرجل لا يقرأ ولا يكتب، لا يعرف أحداً ولا يريد أن يعرفه أحد، ولم ينتظر شكراً قال شعره ومضى.. وهو مثال لما قدمه الكل، صدقنى فأنا لا أعرف حتى اسم هذا الصعيدى حتى الآن ومن يوم رحيله تصلنى آلاف الخطابات، لم تكتب فيها عناوين للرد عليهم، هل تصدق ولا حتى أسماء مرسليها، كل هذا جعلنى أفكر فى علاقة طه حسين بهؤلاء جميعاً وفى تصورى أنه إلى جانب كل القيم الفكرية والأدبية التى يمثلها لهم، هناك قيمة هامة تتمثل فى قصة كفاحه، فهو يعنى بالنسبة لهم القدرة على النجاح رغم كل المعوقات أنه يقف وسطهم لا كمفكر ولا كأديب، بل كفرد إنسان وبتحديد أكثر كمصرى قهر اليأس وانتصر على الظلام وهذا تأكيد لإرادة الإنسان وإعلاء لقيمته.
عن قصتنا لن أتكلم
كان ردهاً واضحاً عندما طلبت منها أن تحدثنى عن حكايتها معه، قالت إنه حكاها:
- وهل بعد حكايته هو تقال أى كلمات؟ لا أعتقد.
رحت أحاول أن أعرف عنها هى أى شىء بعد إلحاح قالت:
- إنها من إقليم برجونى فى فرنسا، ذهبت إلى باريس من أجل التعليم فقط، وهناك قابلته وتعرفت إليه.
وبسرعة كنت أتحدث معها عن التعويق فى حياته، وقبل أن أتم سؤالى بدأ صوتها هامساً كخرير الماء وغمست نظراتها فى سماء ربيعية واضحة الزرقة:
- التعويق لم يكن التعويق الجسمى، كانت فى حياته عقبات أخرى كثيرة، التعليم، الرحيل إلى المدينة، الممارسة العملية على الحياة، ثم تحقيق النجاح العلمى رغم البيئة الأزهرية فى زمانه والنجاح الاجتماعى رغم ظروفه والنجاح السياسى رغم القوى التى كانت تحارب التقدم بكل ضراوة، ولهذا فأنا أكرر أن الذين سمعت أصواتهم ورأيت دموعهم فى الجنازة لم تبهرهم نظرياته فى النقد الأدبى ولا ترجماته للتراث اليوناني .. بقدر ما شدتهم إليه حكايته وبطولته كإنسان، أنا لا أقلل من قيمة تراثه ولكنى أحلل ظاهرة احتفاء الرجل العادى بطه حسين، أعود إلى المعوقات فى حياته، كان إحساسى طوال السنوات التى عشتها معه أننى أعيش مع رجل لديه من النور أكثر مما لدى الآخرين، كان يعطينى النور، لم نكن نتحاشى ذكر أفعال الرؤية: نرى، أو يرى، أو يرون، كان يرى الناس والحياة والأشياء من حوله وكنت أرى العالم من خلاله.
أحب دعاء الكروان
خلال الحديث أطلت علينا كتبه دون أن ندرى، سمعت أسماء الكثير منها، قالت لى، إنها قرأت بإمعان ما ترجم إلى الفرنسية ولكنها عاصرت وعاشت كل حرف فى كتبه وهو يخرج إلى النور، بلغة صحافة زماننا.
قلت لها:
- ما أحب كتبه إلى روحك؟
ترددت ولكنها بعد قليل قالت:
- دعاء الكروان.
سألت لم؟
وكانت تحدث نفسها عندما أجابتنى:
- هزتنى هذه الرواية جداً، فيها فن أدبى يقارن بأرقى ما كتب من الأدب العربى والعالمى.. انتقل من الأحكام إلى شىء من التحديد.. فى هذه الرواية ثلاث مزايا هامة:
- أولاها التقشف فى اللفظ، أى الاقتصاد والتركيز فى استخدام اللغة، ثانيتها: العمق الشديد فى وصف النفوس أو دعنى أقول التعمق فى البحث عن العواطف، وثالث هذه المزايا: الحياء فى التعبير الأدبى، بل النظافة فى التعبير أو لنعد إلى كلمة الحياء وهنا أحدده بأنه حياء داخلى حياء من القلب.
وإحساسات الناس فى هذه الرواية مصرية خالصة.. كل هذا معبر عنه ببساطة وبدون تعقيدات.. إنه يعطينا مثل ما تعطى الموسيقى الراقية التى تمنح المستمع آفاقاً واسعة.. والمهم أنه حتى فى هذا الجو المأساوى نجد أن الأمل موجودًا بل إنه يصل إلى حدود التصور الشعرى الخالص.
بعيداً عن الأدب
هبوطنا من سماوات الأدب، كانت له مناسبة، سألتها عن مشروعات المستقبل، وفى ردها بدأت به:
- كان يؤمن بالحياة بعد الموت إيماناً عميقاً وأنا متأكدة أنه ستكون هناك حياة أخرى وأننى سألقاه وسأعيش معه، لقد انضمت حياتى إلى حياة طه حسين من يوم أن وافقت على زواجه، وحياتنا الواحدة مستمرة حتى الآن، إننى أنتظر حياة ثانية، أعيش الآن رحلة فراق بين الحياة الأولى والثانية أعانى آلاماً شديدة ولكنى أتمنى لهذه الآلام أن تستمر فالألم مصدر عطاء وليس الألم شيئاً سلبياً ولا أرضاً قفراً ولذلك أرجو أن أعيش بهذا الألم وأرجو ألا يزول أبداً حتى ألقاه.
كلمة الألم التى كررتها أثبتت فى الذهن صورة صعيد مصر والقرية والكتاب والرق والفقر وطه حسين، وعشت من جديد أيامه ومكابدته بل وعناده، سألتها عن الصعيد، روح مصر الحقيقية، هل زارته:
- بعد حضورى من فرنسا، كان ذلك سنة 1919 ذهبت إلى كوم أمبو لأن والده كان بها وما زلت أذكر استقبال عائلته لى، كان ودياً وعزيزاً على النفس لقد أزالوا عنى أى إحساس بالغربة لدرجة أننى أحسست أنى أصبحت جزءاً من أسرة جديدة: ثم زرت مغاغة وقرية الكيلو بعد هذا.
- يقال إنك ستعيشين فى فرنسا؟
• غير صحيح بالمرة.. حياتى مصرية مثل حياته تماماً، وبقدر ما يعد هو جزءاً من التراث المصرى والعربى والعالمى، وأنا لا أطمع فى حياة أخرى منفصلة عن روح وحياة طه حسين.
- مرة أخرى ومشروعات المستقبل؟
• أحاول أن أصلح حال الفيللا بعد أن بعثر اللصوص كل محتوياتها، أفكر فى حياتى، أقرأ، أذهب إلى قبر الغالى فى البساتين لزيارته.
- وفيللا رامتان؟
• قيل لى إن وزير الثقافة يفكر أن تكون متحفاً وأعتقد أنه لا مانع لدى ولديه مؤنس وأمنية أن تكون متحفاً يمثل حياته وفكره وإنتاجه.
- وأنت؟
• أريد أن أقيم فى الزمالك.. أبحث الآن عن شقة مناسبة ولكن.. اخترت الزمالك لأنها المكان الذى عشت فيه معه حوالى عشرين سنة من عمرنا.
كان سؤالى الأخير لها:
- كيف تكرم مصر طه حسين؟
ولكنها قالت:
- هذا السؤال لا يوجه لى أنا..
وحاولت أن أسألها عن متاعبها فرفضت وقالت لى إن الأولى بالكلام هو الراحل الحبيب.
حيوا هذه السيدة العظيمة، التى رفضت أن تتحدث فى متاعب الحصول على شقة، وكانت كل كلماتها عنه، فقلت الكلام إليه، حيوها معى فهى إحدى أساطير زماننا.