الجمعة 17 مايو 2024

الأوبرا من التطهير إلى التسامي

فن25-10-2020 | 11:03

فن(الأوبرا) من الفنون المسرحية الموسيقية الغنائية، يحوي أكثر من أداة تعبيرية مثل الحركة والصوت والموسيقىَّ والماكياج والملابس والإضاءة والديكور، والــ(Opera) كلمة إيطالية الأصل مأخوذة من صيغة الجمع لكلمة لاتينية(Opus)، تعني العمل الدرامي الشعري المغنىَّ، وكلمة(Opera) اصطلاحًا تطلق علىَّ كل مسرحية مُغناه، والأوبرا فن غربي، قُدمت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلادي على شكل تمثيليات دينية.

وبعيدًا عن التتبع التاريخي لنشأة مدارس الأوبرا أو مؤسسيها، فإن فن الأوبرا بعناصره الفنية المتميزة يُعد أفضل وسيلة للتعبير عن التراث الإنساني العريق(دراميًا)، يدفعنا ذلك إلى النظر في الآليات التي تشترك فيها عمليات الإبداع الفني، والتي تعتمد علىَّ فكرة(التسامي Sublimationفعروض الأوبرا تمثل مسرحًا محسوسًا يقوم على الحركة والأخيلة واللغة المسرحية الموضوعية، وحرية الأحلام السحرية والموسيقىَّ، وهو ما يصل بالمتلقي إلى حالة من السمو النفسي.

على هذا الأساس يمكننا فهم قول "فرويد" أن الفن هو الميدان الأوحد في حضارتنا" ففي الفن وحده لا نزال نرىَّ الإنسان يُنتج شيئًا مماثلّا لإشباع رغباته"(1)؛ ففي الأداء الأوبرالي قد تحتوي الدراما على عناصر مؤذية لكنها(غير مؤلمة في حقيقتها)؛ لأنها تتضمن التأمل من قِبَّل المتلقي في أمور تم كبتها تحت تأثير قوة(الأنا الأعلىَّ)، وكأن الدراما هُنا وسيلة لإظهار الإنفعالات، فتبيح للمتلقي(الخلاص من الألم) بطرق غير مباشرة يستمتع بها؛ فالناس لا يفضلون أن يعيشوا الألم في حياتهم الواقعية ولا يتمكنون من التعبير عنه بفعل(الكبت)، لكنهم يحبون معايشته دراميًا ولذلك يُقبل الجمهور كثيرًا على التراجيديا، أضف إلى ذلك أن العمل الإبداعي الأدائي يمتاز بمشاركة الجمهور انفعاليًا وبذلك يبلغ الفنان أيضًا مرتبة(الخلاص) من الشعور بالخطيئة عبر(إسقاط) انفعالاته على الجمهور، و(الإسقاط) عملية عرفتها الإنسانية منذ أقدم العصور، والفنان يمارس الإسقاط بطريقة إيجابية "فلا يهرب الفنان من الواقع إلا ليعود إليه ويزيده ثراءً وجمالًا"(2)؛ لذلك فإن فكرة التضمين التي يستخلص منها المُتلقي(إسقاطًا) ما  في أى عمل إبداعي، إنما هى وسيلة تعبيرية ذات علاقة بجانبين اثنين،أولهما: هو الجانب اللغوي حيث استخدام اللغة والعبارة القادرة على إيصال المعنىَّ المستهدف والفكرة المعنية إلى المتلقي عبر أكثر الطرق تأثيرًا فيه، وثانيهما:متعلق بالجانب النفسي لهذة اللغة(3)، فكرة (الخلاص) هُنا تُذكرنا بفكرة (التطهيرCatharsis) التي قال بها"أرسطو" باعتبارها المهمة التي يسعىَّ الفن إلى تحقيقها، مصطلح(التطهيرCatharsis) يوناني الأصل، كان يعتبر من مفردات الطب، ومع الزمن تحول إلى مفهوم فلسفي وجمالي له علاقة بالتأثير الانفعالي الذي يستثيره العمل الفني في المتلقي.

واعتبر"أرسطو" التطهير الناجم عن مشاهدة الدراما ومتابعة المصائر المأساوية للأبطال عملية تفريغ لشحنات العنف الموجودة لدىَّ الجمهور،وربط في كتابه"علم البلاغة" بين مشاعر الخوف والشفقة اللذين يشعر بهما المتلقي وبين التطهير، وربط في كتابه"السياسة" بين التطهير والموسيقىَّ؛ ذلك أن الموسيقىَّ العنيفة تحقق للمتلقي النشوة الإنفعالية، والفنان هُنا"يعقد الصلة دائمًا بين معالم الشخصية التي يؤديها ومنبعها(اللاشعوري)عن طريق (الخلخلة Decomposition)(4)، ليمنح جمهوره (اللذة الأولىَّPre_Pleasure) التي تُمهد له سُبل الغوص في أعماقهم ثم مشاركتهم في مكنونات لاشعوره، من هُنا يمكننا أن نضم صوتنا لصوت" يونغ"الذي اعتبر أن الفنان يمكنه الإطلاع على(اللاشعور الجمعي)من أجل أن يصل بالحالة الشعورية إلى نوع من(الإتزان النفسي)؛ لأن "سيكولوجية الممثل وجسده في وحدتهما يشكلان في الوقت نفسه موصل الإبداع ومادته"(5)، وحيث أننا نؤمن بأن الأداء الأوبرالي مادة إبداع، والفنان من خلال الإستدعاء الإنفعالي ينقل معرفته إلى الجمهور؛ فالحضور الجسدي على المسرح له وظيفة تتطلب وعيًا ذهنيًا يصاحبه اللفظ والموسيقىَّ، "وبذلك الحضور يؤثر الواحد ويتأثر الآخر؛ فالعلاقات المتبادلة بين المبدع والجمهور لا تأتي بالمصادفة"(6)، ولايستطيع الفنان أن ينفصل عن التداخل مع المتلقي؛ على اعتبار أن المسرح"ساحة اجتماعية يجعل خبرة الأداء المسرحي الحى أو الموسيقي الحى أو ما شابه من أشكال الأداء ، مختلفة عن مشاهدة الأفلام في السينما أو التليفزيون، هو ذاك الشعور بأننا جزء من مناسبة اجتماعية أو من واقعة تحدث أمامنا الآن"(7)، الإبداع يتعانق مع الجمال إذن، وفي ذلك يقول"فرويد" "كان طبيعيًا أن نجتهد لتعويض أنفسنا عن هذا الإجداب في الحياة، بأن نصوغ عالمًا من الأدب سواء في الرواية أو في المسرح، نصور فيه شخصيات تعيش الحياة وتعرف كيف تختار المنية التي تناسبها"(8)

وإشكالية(التطهيرCatharsis) تتمحور حول مسألة(التقمص) التي قد تتم عن طريق:

 1) الاندماج المساهم وفيه يشارك المتلقي في العرض المسرحي

2) الاندماج الانبهاري وفيه يشعر المتلقي بالإعجاب والدهشة بما يجري على خشبة المسرح

3) الاندماج التعاطفي وفيه يشعر المتلقي بما يتجاوز الإعجاب، فهو شعور يدفع إلى الفعل ويؤثر على حياته اليومية.

4) الاندماج التطهيري وفيه يعاني المتلقي مع البطل، هُنا تتجلىَّ الأهمية التي يلعبها المسرح في التخفيف من المعاناة النفسية لدىَّ الجمهور(9)، وقد يتصور البعض أن(التقمص) هو (التقليد)، ولكنهما عمليتان مختلفتان تمامًا؛ فالتقليد عملية(شعورية) يتخذ فيه الفرد لنفسه مثال يسير وفق تصرفاته، أما في حالة(التقمص) فلا يقوم الفرد بمجرد نسخ صورة من مثال محبب؛ بل يصبح ذات الشخص نفسه الذي يتوحد به(حتى وإن تم ذلك على المستوىَّ الخيالي) فيسعد بسعادته ويحزن لفشله ويتألم لألمه، وعلى ذلك يمكننا النظر إلى نظرية(التطهيرCatharsis) التي تقوم على(التقليد Imitation) باعتبارها أول معالجة درامية ذات مرتكزات فلسفية تهدف لمناقشة قضايا العنف بواسطة (الخوفFear) و(الشفقةPity).

والإنسان كائن مُحاكي منذ طفولته، يجد لذة في المُحاكاة، الفصل بين الإنسان وموضوعه، وبين الذات والمضمون، أو بمعنىَّ أصح الانفصال بين الإنسان كموضوع وبين أحاسيسه كمضمون هو الذي يدفع إلى المحاكاة وخلق دينامية أخرىَّ لها وهى شعور الجمهور باللذة، مفردة (اللذة) هُنا تعتبر أساس عملية المحاكاة وهى التي تدفع المتلقي لمشاهدة الدراما، وكأن المتعة الجمالية التي تسمح بها التراجيديا تتم من خلال (المحاكاة) و(الإيهام) المسرحي.

الدراما إذن هى الإشباع الذي يتم بمعايشة المآسي وفقًا لنظرية (الإشباع المسرحي) التي قدمها "أوغستان" والتي أولت اهتمامًا كبيرًا بالجمهور ورصد مختلف انفعالاته الذهنية والوجدانية أثناء الفُرجة؛ لذلك فإن (التحول  (Transformationالذي يحدث للجمهور باسم التطهير إحساس سيكولوجي يُكرس للتعاطف، التطهير النفسي هُنا يُعد وسيلة للتحول نحو الأفضل

المراجع:

1_ S.Freud(1932), "Leonardo da vinci", Tr.ByA.A.Brill ,London ,Kegan Paul,(VIII-130)P.121

2_ يوسف مراد(1943)، "شفاء النفس"، دار المعارف، القاهرة، صــ56

3_ فاطمة الزهراء عبد الغفار موافي(2008)، "الإسقاط النفسي والسياسي في كتاب البخلاء للجاحظ"، مجلة فكر وإبداع، مج47، رابطة الأدب الحديث، صــ75

4_ توفيق الطويل(1945)، "الأحلام"، مكتبة الآداب، القاهرة، صــ220

5_ بوريس زاخوفا(1996)، "فن الممثل والمخرج"، ترجمة: عبد الهادي الراوي، ط1، عمان، الأردن

6_ يوسف تيبس(2009)، " تطور مفهوم الجسد من التأمل الفلسفي إلى التصور العلمي"، مجلة عالم الفكر، مج37، ع4، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت

7_ جلين ويلسون(2000)، "سيكولوجية فنون الأداء"، ترجمة: شاكر عبد الحميد، عالم المعرفة، الكويت

8_ سيجموند فرويد(1992)، "الحب والحرب والحضارة والموت"، ترجمة: عبد المنعم الحفني، دار الرشاد، ط1، القاهرة، صــ44

9_ عدنان خالد عبد الله (1987)، "التطهير في الأدب"، مجلة فصول، مج7، ع4، الهيئة المصرية العامة للكتاب.