الأربعاء 15 مايو 2024

الهوية المصرية للأوبرا

فن25-10-2020 | 13:31

بدأت التجارب الفنية بشكل عام والموسيقية على وجه التحديد فى صورها المتعددة فى وقت مبكر، وعلى مستويات مختلفة فى الدولة المصرية عبر تاريخها القديم والحديث، فقد كانت الذائقة الفنية منذ القدم متجذرة فى وجدان الإنسان المصرى، كما شائت الظروف أن تفد الفنون الأدبية الكلاسيكية إلى مصر مواكبة مع الوافدين إليها من الجاليات الأوروبية، وتزامنا مع الحملة الفرنسية خلال القرن الثامن عشر، وكذلك ما قد واكب حكم "محمد علي" من نهضة فى شتى المجالات، ومن ضمنها النهضة الموسيقية التى أسسها عن طريق إيفاد البعثات الموسيقية لأغراض عسكرية، وتطلعات ثقافية ضمن مشروعه الوطنى، فقد فتح "محمد علي" الباب على مصراعيه أمام ثقافة وعلوم وخبرة الغرب كأساس لبناء مصر الحديثة، وأنشأ عدد من المدارس الموسيقية والتى لفتت أنظار الأوروبيين مما جعلهم يأكدون على نجاح المصريين فى إتقان العزف وفنون الموسيقى فى فترة وجيزة، فلا عجب أن نرى فى برنامج العرض الأول لأوبرا عايدة فى عام 1871 اسم (أبو الخير أفندى) ضمن قائمة توزيع الأدوار بصفته قائد المجموعة التى اشتركت مع أوركسترا الأوبرا فى هذه الحفلات، وفى حقبة لاحقة ونتيجة لوجود فنون أوبرالية تعرض على مسارح مصرية، إلى جوار بدايات تألق فنون المسرح على الأراضى المصرية، بدأت الفرق المسرحية فى تقديم أوبريتات مصرية تحاكى الأوبرا العالمية كنتيجة لذلك، وفى تلك الأثناء كان الخديو إسماعيل شديد الاهتمام بشتى العلوم والمعارف وتشجيع الفنون الجميلة، وفى مقدمتها الموسيقى والغناء والتمثيل أسوة بالأمم المتقدمة لتتزامن تلك الاتجاهات مع المحاولات الأولى لـ"جورج أبيض وسلامة حجازى ومنيرة المهدية ومن بعدهم سيد درويش" ليجد فن الأوبريت طريقه الذى أنعش الحركة الموسيقية والمسرحية فى آن معا، وكذلك أفسح المجال لتطور فنون الغناء وظهور العديد من الصيغ الغنائية وانتشارها فى ظروف استثنائية، حيث وفد إلى مصر العديد من الجاليات الأوروبية بشكل عام، والموسيقية على وجه الخصوص إبان الحرب العالمية، فى هذه الأثناء كانت المسارح والأنشطة الفنية والموسيقية تمارس فى أغلب ربوع مصر. 

وفى تلك المرحلة كان العالم يسعى إلى البحث عن قوميته فى ظل التغيرات السياسية والجغرافية، مما أفسح المجال لاستيعاب التجارب الموسيقية والفنية فى شتى الأنشطة الثقافية، وقد واكب هذا الانتشار العديد من الدراسات العلمية فى كثير من النواحى والاتجاهات وعلى سبيل المثال كانت الدراسات الجادة التى تسعى إلى الكشف عن جماليات الإبداع المسرحى على مستوى النص الدرامى والعرض المسرحى، وذلك فى ضوء علاقة التجربة الإبداعية المصرية بالمسرح الغربى، تلك العلاقة التى بدأت بوادرها منذ القرن التاسع عشر، وعلى ذلك  يمكن التأكيد أن هذه التجارب والدراسات  قد مكنت هواة الموسيقى الغربية والمتأثرين بها أن يقدموا تجاربهم الأولى، والتى تبلورت فى كتاباتهم لآلة البيانو فقد نشروا عددا من المقطوعات البسيطة التى حاولوا بها التعبير عن البيئة المحلية، وكان على رأس هذا الجيل من المبدعين فى مجال الأوبرا والغناء الأوبرالى "الفنان حسن رشيد" والجدير بالذكر أن هذا المؤلف يعد من أوائل مؤلفى الموسيقى فى مصر، وهو لم يؤلف تقريبا سوى الأعمال الغنائية التى كانت تُؤدى بشكل أوبرالى، إلى جوار أنه ألف أول أوبرا مصرية وهى أوبرا (مصرع أنطونيو ) والتى تعد تاريخياً حجر الأساس للأوبرا المصرية فهى أول أوبرا مصرية تكتب باللغة العربية، وكانت استلهاما لمسرحية (مصرع كيلوباترا) للشاعر "أحمد شوقى" وقد بدأ حسن رشيد فى كتابة هذه الأوبرا عام 1945 وانتهى منها فى عام 1947 كما جائت هذه الأوبرا فى ثلاثة فصول، وتم عرض أحد فصول هذه الأوبرا - مصرع أنطونيو- على مسرح قاعة "إيورت" فى الجامعة الأمريكية عام 1973، غير أن العديد من أجزاء هذه الأوبرا نال شهرة وانتشارا، وأصبحت تُؤدى فى حفلات الغناء الفردية من خلال بعض الأريات التى تضمنتها الأوبرا، كما يعد حسن رشيد من أوائل رواد التأليف الموسيقى المصرى وقد اتسم أسلوبه وتأثر إلى حد كبير بالأسلوب الغنائى الإيطالى، وكانت لغته الموسيقية تنتمى فى مجملها إلى رومانسية القرن التاسع عشر، والجدير بالذكر أن حسن رشيد قد أسس فى عام 1942 مع عالم الفيزياء الدكتور "على مشرفة" والمؤلف الموسيقى يوسف جريس وشقيقه لويس جريس ومجموعة من الشعراء والمؤلفين (الجمعية الموسيقية لهواة المسرح) التى كان من أهم أهدافها تقديم الموسيقى العربية، ونشر الثقافة الموسيقية فى مصر والوطن العربى، والتى تزامن معها الاهتمام بالكتابات الموسيقية فى دوريات موسيقية متخصصة.

وفى نفس السياق ظهر العديد من مؤلفى الموسيقى المصرية، وكان لهم فضل الريادة أمثال "أبو بكر خيرت، يوسف جريس وكامل الرمالى وعزيز الشوان" ونذكر أن المؤلف الموسيقى "يوسف جريس" قدم محاولة لكتابة أوبرا بعنوان (القدر)1943، وألف الموسيقى المصرى "عزيز الشوان" أوبرا (عنترة) شعر أحمد شوقى فى عام 1947 وأوبرا ( أنس الوجود) 1970، وأيضا المؤلف الموسيقى كامل الرمالى قام بتأليف أوبرا (حسن البصرى) والتى تم عرض الفصل الثانى منها عام 1956 على مسرح قاعة "إيورت التذكارية بالجامعة الأمريكية" بالقاهرة، وأيضا قام كامل الرمالى بتأليف أوبرا (نفرتيتى) عام 1996 وفى عام 1999 انتهى من تأليف أوبرا (الساحر)، كانت هذه المحاولات لكتابة أوبرا مصرية باللغة العربية من خلال هؤلاء المؤلفين تنم عن رغبة حقيقية وجادة فى محاولة منهم للتأكيد على الهوية الموسيقية المصرية، والتى قد بدأت مبكرا وفى حالة ريادة حقيقية لتبنى واستيعاب هذا الفن العالمى، فى حين لم يكن الإقليم قد بدأ بعد فى التعرف على أو ممارسة هذه الأنواع من الفنون، وهو ما يطرح فى عقولنا العديد من الأسئلة المهمة -خصوصا بعد التأكيد على تلك العلاقة الوطيدة بين المصريين وبين فن الأوبرا، وقد ساهم فى ترسيخ تلك العلاقة بداية العمل فى الأوبرا المصرية عام 1869 وبعد مرور مائة وخمسين عاما على عهدنا بالأوبرا - هل استطعنا أن نحافظ ونعبر عن هوية موسيقية مصرية على الأصعدة المختلفة؟ هل يجب علينا أن نتأمل ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا من أجل تحديد سياسة ثقافية للحفاظ على الهوية المصرية؟  

  وأخيرا يمكن التأكيد على أنه ثمة تجارب مصرية مبكرة لمبدعينا الأولين كانوا فيها السباقون فى هذا المجال – فن الأوبرا- كما أشرنا ضمن سياق هذا المقال، فممارسة فن الأوبرا من قبل الأولين لم تكن نوعا من التغريب، وإنما كانت محاولة لترسيخ الهوية المصرية كما سبق وقدمنا الأمثلة على ذلك، وبعد مرور أكثر من مائة وخمسين عاما على فن الأوبرا فى مصر أصبح من الصعب بل من الغريب أن نفكر بطريقة الرواد، ذلك أن العالم نفسه قد تغير بشكل واضح، وفى ظل ثقافة موسيقية جديدة علينا أن نستفيد من تجارب الرواد، ونتخذ منها وسيلة أساسية تنير لنا طريق المستقبل، الذى يفرض علينا التفكير على طريقة (هنا والآن) فى محاولة للاندماج مع العالم، وتأمل كل ما يتصل بأفكار العولمة، وذلك المجتمع الاستهلاكى مشدود الأواصر نتيجة نمو وسائل الإعلام الجديدة  فى ظل هذا التجاور المدهش للفنون وسياسات الرأسمالية، فى ضوء ما تقدم يصبح التمسك بالهوية المصرية أى الشخصية الوطنية المصرية أمرا بالغ الصعوبة وجديرا بالاهتمام تدعيما للرؤية الثقافية المصرية.