السبت 15 يونيو 2024

حلايب، شلاتين، أبو رماد.. أكبر من مجرد نافذة على فيسبوك

فن25-10-2020 | 14:54

أنت كمصري، في القاهرة أو الإسكندرية، أو مدن القناة، أو خط الغرب، بدءًا من السلوم، أو حتى كنتَ من بلاد الصعيد القريبة، مثل الأقصر، أو أسوان، من بلاد مثلث حلايب، أسألك بجدية: هل كنتَ تعرف أن المسافة الفاصلة بين مدينة (شلاتين) ومدينة (حلايب) تزيد على المائة والخمسين كيلو مترًا، أم أنك كنتَ – ولا تزال- تعتقد أن اقتران ذكر البلدين في نشرة الطقس اليومية يعني أنهما في موضعٍ واحد أو مواضع قريبة جدًا؟

لو سببت لك المعلومة الجديدة صدمةً، فإني أبشرك أنك على موعدٍ جديد من المغامرات والمعلومات التي لم يكن يدور بخلدك يومًا أن تقع عليها، ولم تتوقع أن بر مصر العظيمة به كل هذا التنوع، ستجد تلك المعلومات والمغامرات جميعها هناك، في هذه الأرض، لا هنا في هذا المقال.

من أجل التعريف بحياة الناس وعاداتهم وثقافاتهم هناك، أنشأ مجموعة من شباب المثلث صفحةً على موقع (فيسبوك) تحمل عنوانًا فيه من موسيقى الجمال الذي حازته هذه الأمكنة: (حلايب شلاتين أبو رماد) وقالوا عن أنفسهم في منشورٍ ثبتوه - في صدر تلك الصفحة - منذ عام 2017:

(نفوسنا طيبة جدًا، لا نكره أحدًا، ولا نسعى وراء ما يسعى غالبية الناس وراءه، إذا ضحكنا فاعلم أننا نضحك من أعماق قلوبنا، وإذا بكينا فاعلم أننا تأثرنا، بكامل إرادتنا قررنا إنشاء صفحة تقدم معروضًا بصريًا يشرح حياة الإنسان في هذه المنطقة من العالم، قدمنا الكثير من صور الجنة التي نعيش بها)

بالفعل، لقد أحسن هؤلاء وصف ذلك المكان الممتد عبر عشرين ألفًا من الكيلومترات المربعة، مثلث حلايب جنةٌ حقيقية، فقط لمن أراد أن يتحرر من أغلال المدن وقساوة العيش فيها وبلادة مشاعر أهلها بحكم قواعد الحياة الحديثة. وعلى ذكر الجمال، فإني لا أذكر أني رأيت قطعة جغرافية على شط البحر الأحمر بمثل جمال حلايب؛ ربوات رملية صغيرة تكسوها الخضرة في مواسم الأمطار شتاءً، ومياه أرجوانية وشيشها لا ينقطع، هنا مجلس البلدية، وهناك المستشفى الحكومي، وعلى جهة اليمين الطريق الأسفلتي الدولي الرابط بين مصر والسودان عبر معبر (رأس حداربة).

وفي رحاب المثلث محمية وطنية بديعة الجمال، سميت على اسم أكبر جبلٍ فيها وهو جبل (إيلبا) وليس (علبة) كما جرى نطقه، اللغة البجاوية وتسمى (البداوييت) لا تعرف حرف العين مطلقًا، وتعريب اسم الجبل على هذا النحو يُخرِج الاسمَ عن دلالته، فـ (إيلبا) تتكون من مقطعين: (إيلا) وتعني الأبيض، و(ِربا) وتعني الجبل، ومع مرور الزمن، (إيلا ربا) خُففت لتصير (إيلبا)، أما (علبة) التي عربنا بها اسم الجبل فلا صلة من قريب أو بعيد لها بدلالة اسم الجبل في لغة سكانه.

والبجا، عرقٌ من أقدم الأعراق على وجه الأرض، عرفوا أيام قدماء المصريين باسم (المدجاي)، وكانت بينهم وبين القادة العرب معارك وغزوات، من هؤلاء القادة أبو عبد الرحمن العمري، الذي ذاع صيته أيام أحمد بن طولون، البجا بحكم التاريخ والجغرافيا موزعون بين مصر والسودان وإريتريا، وهذه القبائل رعوية النشأة كنز ثقافي عظيم بما يحافظون عليه من عادات وتقاليد في أفراحهم، وأحزانهم، ومنازعاتهم، وهم ينقسمون إلى "سكان الحضر"، وهؤلاء يسكنون ضفاف البحر الأحمر، و"سكان الجبل"، وهؤلاء مبعثرون في تجمعات سكنية في رحاب الصحراء وأكثرها في (إيلبا) غربي (أبو رماد)، و(أبرق) و(الجاهلية) غربي (شلاتين)، وحياة سكان الجبل تمثل نمطًا فريدًا لتمازج عجيب بين الإنسان والبيئة الصحراوية؛ يذبح الناس هنا الماعز وينضجونه بواسطة الشوي على حجارة البازلت الساخنة، ويقتاتون خبزًا غريبًا يسمونه (القبّوري) يصنعونه من دقيق، وماء، وملح، ويدفنونه في رمل ساخن، ويغطونه بالجمر حتى ينضج.

يتحدث البجا هنا مع غيرهم من زوار المثلث باللغة العربية، أما فيما بينهم فلا يتحدثون سوى بالبداوييت، وهو اسم اللغة البجاوية، والبداوييت يظهر من مفرداتها التأثير الواضح بينها وبين المصرية القديمة، وكذلك العربية، ولعلنا في هذا المقام نحتاج لنناشد المهتمين بالتأثيرات اللغوية المقارنة أن يولوا وجههم شطر هذه البلدان، يبحثوا مع شيوخها، وينقبوا في ألفاظها كي نعرف كيف تأثرت أو أثرت هذه اللغة البدوية بـ / في غيرها من اللغات المجاورة.

(لا نسعى وراء ما يسعى غالبية الناس وراءه) هذه الجملة في وصف شباب صفحة (حلايب شلاتين أبو رماد) لأهلهم، هي جملة مفتاحية لفهم الشخصية البجاوية، الناسُ هنا تكاد تبصر في أعينهم تلك القناعة التي أمدتهم بها الصحراءُ القاحلة، يظن الناسُ أنها بخيلة لكنهم انصهروا بها فأعطتهم أعز ما يمكن للإنسان أن يُعطى: "الصبر والرضا". ولعلّ هذه الجملة المفتاحية لشخصية هؤلاء السكان هي التي وقع عليها الكاتب الكبير الراحل صبري موسى، حينما عاش هنا شهورًا وألّف درّته الروائية (فساد الأمكنة)، لقد مرر الكاتب فكرته عبر مجتمع صحراوي يبدأ شمال المثلث عند (حماطة) ويتوغل عند (حميثرا) حيث يُدفن الشيخ الشاذلي، وينتهي عند قمم (إيلبا) المقدس، ذلك المجتمع الذي كان صالحًا طيبًا، وما أن خطت فوق أرضه أرجل الإنسان العصري الطامع الطامح وراء كل شيء فسد، فكان فساد الأمكنة.

كتبتُ هذه الكلمات في حب أرض المثلث، وحب أهل المثلث، وأمام ناظري قوافل العربات السودانية المحملة بالزيوت والعطور والبخور، مشاهد قوافل الجمال التي يمسونها هنا (الدبوكة) لا تزال تقطع المسافات بين مصر والسودان مشيًا، الأمطار المنعشة، البحر ذو الوشيش الذي لا يتوقف، والجبال المهيبة الواقفة كحراس، ومن قبل كلِ ذلك الناس الطيبون؛ أصحاب العيون الراضية والنفوس المتسامحة، ولئن كنتُ ناصحًا الشباب أن يولوا وجوههم شطر قِبلة سياحية جديدة كليًا في الجنوب لنصحتهم بشد الرحال إلى تلك البقاع، تحرروا من أثقالكم المدنية، صفوا أذهانكم، وطيبوا نفوسكم بمخالطة الطيبين الأصفياء؛ ستجدون كل ذلك وأكثر في (حلايب. شلاتين. أبو رماد).