السبت 29 يونيو 2024

"سلوا تعطوا.. اطلبوا تجدوا.. اقرعوا يفتح لكم"

فن25-10-2020 | 21:01

ما إن رأيت هذه الجملة بخط عربى رائع بديع حتى وجدت نفسى منبهرة كمن وجد كنزا يرد عليه ضالته، فهذه الجملة بنفس الأناقة على معظم أبواب مساجد شارع "المعز"، ولكننى الآن أمام الباب الرئيسي للكنيسة المعلقة فى مجمع الأديان، كما لو كانت الجملة رسالة سماوية تؤكد عليّ مجموعة من الأفكار والمعتقدات الشخصية بى.

الدين الشعبي


لدى معظم المصريين الذين لا يزالون خارج منظومة تدين الجماعات المتأسلمة تصور مثالي عن الحالة الكنسية وأنا منهم، لما يربطني بالكنيسة من ذكريات ممتدة ومختلفة عن نشأتي الأزهرية، فقد كانت الملابس الكنسية مبهجة جدا بألوانها الذهبية والبيضاء والأحمر القاني، وقد كان لراهبات كنيسة القديسين جزءٌ جميلٌ في ذاكرتي، إذ يقفن أمام باب الكنيسة بوجبات سابقة التجهيز بها الجبنة جزء أساسي، وهنا سميت بالجبنة (السيستر) سواء كانت مثلثة أو أقراصًا نسبة إلى الأخوات اللائي يقفن لتوزيعها.


وللكنيسة دور اجتماعي لا تختلف فيه عن المسجد، حيث "طاسة الخضة" التي تستعملها الأسرة في فك النحس أو العكس، ومن هنا تطورت علاقتي بالكنائس لعلاقة روحية بيني وبين كنيسة القديس العظيم "مار جرجس" بما له من مسميات مختلفة أشهرها "سريع الندهة" أي سريع الاستجابة للتشفع.


كنيسة القديس مارجرجس مصر القديمة


وصفت بأنها الأهم من بين الآثار القبطية الأرثوذكسية في العالم، تقف بشموخ فوق أحد أبراج حصن بابليون منذ أكثر من 13 قرنا، رغم أنها واحدة من بين 7 كنائس في تلك المنطقة، إلا أن شيخ المؤرخين المصريين أحمد بن علي المقريزي، الذي يعرف بـ"تقي الدين المقريزي"، وصفها بأنها أجمل كنائس ذلك الحصن الروماني.


"مار جرجس".. كنيسة أنشأها أحد أثرياء العصرالمسيحي المبكر يُدعى "أثناسيوس" وذلك في عام 684 ميلادية، سُميت بهذا الاسم نسبة إلى القديس مار جرجس، لتصل إلى الكنيسة، يجب أن تمر على فناء واسع ممتلئ بالأشجار، وبعض من الآثار الزخرفية التي تعكس اللمسة العربية، وبمجرد أن تصل إلى الكنيسة ستجد ثلاثة أبواب، الباب الرئيسي يتوسط الجدار الغربي، وهو مخصص للأعياد وأيام القداسات، أما الباب الثاني فيتوسط الجدار الشمالي للكنيسة وهو مغلق دائما، فلا تجد أمامك سوى الباب الثالث الذي يستعمل وقت الزيارات، وهو أصغرهم يصل إلى المعمودية، وإلى ساحة جنوبية واسعة بها نافورة رخامية.


تتألف الكنيسة من صحن وجناحين ودهليز، والصحن أشبه بقاعة واسعة مربعة الشكل، على أركانه أربعة أعمدة كبيرة، يرتكز عليها أربعة عقود تشكل نصف دائرة، كان يوجد وسط الصحن مغطس كبير، لم يعد له أي أثر بعد ردمه وتركيب بلاط جديد لأرضية الكنيسة، وفي شرق الصحن ثلاثة هياكل مربعة، يعلوا كل هيكل منها قبة عالية، حول كل واحدة منها أربع نوافذ، أما الهيكل الأوسط فيوجد فوق مذبحه قبة خشبية توضع على أربعة أعمدة من الرخام المصقول، وداخل القبة رسم لـ نبي الله عيسى وهو متربع على العرش وتقف حوله الملائكة.   


تحمل الهياكل الثلاثة 14 صورة للملائكة والرسل والقديسين، من بينهم صورة للقديس "مار إيلياس" معلقة على الهيكل الجنوبي، وأخرى للقديس "اسطفانوس"  معلقة على الهيكل الشمالي، أما الهيكل الأوسط وهو أكبرهم حجما، فتوجد به صورة قديمة تمثل نبي الله عيسى، بالإضافة إلى إنه خصص لاسم القديس "مار جرجس"، أمام كل مذبح من مذابح الهياكل الثلاثة توجد سلالم على شكل نصف دائري، تقود إلى غرفة تحت الأرض بها مياه مقدسة، في مواجهتها مجموعة من الأيقونات القديمة التي تمثل السيدة مريم تحمل نبي الله عيسى، بالإضافة إلى بعض الصور المنقوشة على الخشب، والتي تمثل عمليات الدفن والقيامة، وبعض الرموز المسيحية التي تعرضت للتلف بفعل الزمن والرطوبة.


بمجرد أن تعبر بوابة الكنيسة تواجهك غرفة "التعذيب"، التي سُميت بهذا الاسم لأنها تضم بعض الآلات التي استخدمت في تعذيب القديس مار جرجس، منها الصليب، والمسامير الثلاثة، وإكليل الشوك، والسلاسل الحديدية، وبعض من الصور التي تظهر مراحل التعذيب البشع التي تعرض لها، داخل تلك الغرفة توجد غرفة أصغر تشبه الكهف، يقال إنه سُجن بها عندما كان في مصر، بهذه الغرفة فتحات صغيرة توضع فيها أوراق أماني وشفاعات الزائرين المصريين والأجانب من الأرثوذكس.


في منتصف الكنيسة، يوجد منبرٌ رخامي أقيم حديثًا، مكون من 13 عامودا، أحدها في المقدمة يرمز إلى نبي الله عيسى، و12  عامودا تمثل تلاميذ النبي من الحواريين،  11 عامودا منها مطلية باللون الأبيض، وعامود واحد فقط مطلي باللون الأسود، ويرمز إلى"يهوذا الأسخربوطي" الذي خان النبي، وعامود آخر مطلي باللون الرمادي، يرمز إلى "توما الشكاك"، بجانب المنبر ناحية الغرب مقصورة صنعت من رخام الموارنيك الأحمر الذي يشبه حجر الجرانيت، بالقرب منها صورة حديثة للقديس مار جرجس صنعت من الذهب والفضة.    


وجد أيضا أيقونة نادرة للسيدة مريم سُميت بـ"عذراء القاهرة"،  بعدما كانت تُعرف بـ"عذراء أثينا"، وأيقونات من الخشب المغطى بالقطيفة يوجد بها رفات القديسين القدماء، من بينهم رفات مار جرجس، مما جعل من الكنيسة مقصدا للكثير من الزوار الذين يرغبون في الشفاء من الأمراض، أو الحصول على البركة وتحقيق الأماني، فقد عُرف ذلك القديس بتلبية رغبات زائريه وأمانيهم حتى إنهم أطلقواعليه "سريع الندهة".


تعرضت الكنيسة للحريق منذ ما يقرب من مئة عام، كان السبب المباشر في دخول عناصر حديثة عليها، حتى أن "ألفريد جاشواباتلر" مؤرخ الآثار القبطية والإسلامية الإنجليزي قال عنها في كتابه "الكنائس القبطية القديمة في مصر"، إنه لم يتبق منها الكثير الذي يمكن الحديث عنه، فالتحديثات التي  أضيفت عليها لإعادة بناء ما أتلف، ما هو إلا تقليد من الدرجة الثالثة للنماذج اليونانية القديمة، فلم يتبق من أطلالها الأصلية سوى قاعة  "الفرسان " في حوش الكنيسة، والتي يبلغ طولها 15 مترا، وعرضها نحو 12 مترا، والجزء الأوسط أقل ارتفاعا من طرفيها، تضم بعض البقايا التي تعود إلى القرن الـ14 الميلادي، وتعد تلك القاعة أول قاعة تقام بها احتفالات مراسم الزواج في مصر.


بجوار الجدار الجنوبي للكنيسة، توجد مقصورة بداخلها صورة لأحد القديسين، أما في منتصف الجدار نفسه فتوجد صورة أخرى تمثل القديسة "دميانة "، تليها صورة للقديس  "مار جرجس " وهو يمتطي جواده ويسدد حربة يطعن بها التنين، وفي نهاية الجدار صورة أخرى لـ"مار جرجس "  توضح مراحل تعذيبه حتى الموت.   


عندما تخرج من كنيسة مار جرجس ستجد في المنطقة بالقرب منها، دير الراهبات يحمل اسم نفس القديس، وأقدم مسجد في قارة إفريقيا وهو مسجد "عمرو بن العاص"، أيضا يوجد المعبد اليهودي الذي كان قديما كنيسة قبطية مكرسة باسم رئيس الملائكة  "ميخائيل " وباعها إلى اليهود البطريرك السادس والخمسين، والذي يحمل نفس الاسم في نهاية القرن الـ 9، إلى جانب 6 كنائس أثرية أخرى، منها الكنيسة المعلقة، وكنيسة أبوسرجة، وكنيسة القديسة  "بربارة "، وكنيسة "قصر الريحانة "، والمتحف القبطي، ولذلك أطلق على حصن بابليون "مجمع الأديان ".


القديس الشهيد مارجرجس 


مولده ونشأته: 


ولد في النصف الأول من القرن الثالث الميلادي، من أبوين مسيحيين، من سلالة الملوك والأثرياء، فهو ابن الأمير أناسطاسيوس"  حاكم مدينة "ملاطية"، والتي توجد شرق بلدة كابادوكيا في آسيا الصغرى، والأميرة  "ثيؤبستي"  ابنة الأمير  "ديونسيوس "  حاكم مدينة  "اللد" في فلسطين، توفي والده وهو في العاشرة من عمره، لتعود به أمه إلى فلسطين.


وعندما وصل "أثناسيوس" إلى فلسطين، اعتنى به حاكمها "بسطس"، وفي عمر الـ17 التحق بسلك الجندية، وفي وقت قصير صار قائدا لخمسة آلاف جندى برغم صغر سنه، فقد أجاد الأدب والقانون وعلوم الكنيسة، كما أجاد اللغة اليونانية وهي اللغة السائدة للمدينة، بالإضافة إلى فروسيته التي وصل صيتها إلى الحاكم الروماني، فمنحه لقب الإمارة، وبعد وفاة "بسطس"، ذهب مار جرجس إلى مدينة صور في لبنان لمقابلة الإمبراطور "داديانوس" حاكم فينيقيا الفارسي، ليطالبه بأحقيته في حكم فلسطين.


بمجرد وصوله إلى صور، هاله أن وجد أهلها من المسيحيين يخفون مسيحيتهم خوفا من الإمبراطور الذي أصدر المراسيم ضدهم، وذكر المؤرخ الفلسطيني "يوسابيوس القيصري "، أبو التاريخ الكنسي، ومؤسس فكرة نشر أقوال الآباء وكتاباتهم، إنه توجه مباشرة إلى قصر الإمبراطور ليجد المرسوم معلقا على الحائط. "اهدموا الكنائس، افصلوا وعذبوا واقتلوا كل من يعتنق المسيحية ولا يرضخ لنا".. تلك العبارات الدموية كانت بعضا من الأوامر التي أعلنها "داديانوس" في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، وبها بدأ مسيحيو العصر القبطي المبكر في مواجهة أهواء لرؤساء وحكام ولايات مملكته، فلم يكن أمامه بديلً سوى الامتثال لأوامر الوثنية، أو مواجهة احتمال العذاب، ذلك المرسوم الاضطهادي كان نقطة فارقة في حياة القديس "مار جرجس "، فترك كل المناصب ليدافع عن دينه وإيمانه، وعندما واجه الإمبراطور حاول إغراءه، ولأنه رفض أمر بسجنه وتعذيبه.


رحلة العذاب لم تكن بسيطة، أو قصيرة، فقد استمرت لسبع سنوات كاملة، انتقل فيها من مرحلة إلى مرحلة أشد وأقصى، فبدأوا بتشويهه، ثم ألبسوه حذاء من حديد ممتلئا بالمسامير، وربطوه في حصان غيرمروّض، قام بسحله، وعذبوه بشفرات حادة قطعت لحمه، كما صبوا الرصاص الساخن في فمه، ووضعوه على عجلة كبيرة فيها مناجل وسيوف حادة، عُرفت هذه الآلة بـ "الساحقة "، وأداروها لتسحق عظامه، وأخيرا أمروا بقطع رأسه في  23  مايو عام  263 ميلادية.


بعد استشهاده بحوالي أربعة قرون، رأى الراهب القمص مرقس رئيس دير القلم رؤيا للشهيد، يأمره فيها بنقل رفاته التي تحملها امرأة قادمة من كنيسة الشهيد في فلسطين، ويضعها في كنيسته بمصر القديمة، وعندما تحققت الرؤيا شيدت تلك الكنيسة في القرن السابع الميلادي، ورغم أنها واحدة من بين 371 كنيسة تحمل نفس الاسم في مصر، إلا أنها الوحيدة التي شيدت بشكل دائري على الطراز الروماني، والغريب أن تقسيماتها الداخلية تشبه شوارع بيت لحم في فلسطين، لكن الحريق الذي أصابها منذ ما يقرب من مئة عام، أزال أغلب معالمها.


 للقديس "مار جرجس" مكانة شعبية كبيرة إذ أنه من القلائل الذين لهم سيرة ذاتية يتداولها الحفاظ في الموالد المسيحية وتبدأ بالأبيات الآتية : 


            والسر وضعه لمن اختاره واسترضاه 

                                             كما شرح في الكتب حق بالتفسير 

          قد كنت عظيمك الوصف إخوتي 

                                           عن الشهيد مار جرجس ابن الأمير

        وضعه الأب آخر "ستضلوا"

                                      ريس على "عنجرا" وتخومها و"خبير" 

     وصف كرم أباه والأم والنسبة 

                                   جنسه شريف النسب من أصل فرع كبير