الثلاثاء 4 يونيو 2024

نشأة المسيحية وتطورها في مصر

فن26-10-2020 | 20:27

بالإضافة إلى كونها تحتل مكانة بارزة في الكتاب المقدس, كانت مصر مركزاً خصباً للازدهار الأول للمسيحية.


 عندما ظهرت المسيحية في القرن الأول الميلادي وأخذت في النمو, غدت مصر مركزاً دينياً مهماً, يفد إليها علماء اللاهوت والدارسون من كل حدب وصوب. طورت المسيحية المصرية أسلوبها الخاص المتميز؛ حيث تأثرت بالثقافة المصرية القديمة وتاريخها. وسيغدو هذا الفرع من المسيحية الكنيسة الأرثوذكسية القبطية, وسيعرف أتباعه بالأقباط.


قِبْط هي كلمة عربية مشتقة من كلمة (ايجيبتوس) والتي تعني باليونانية مصر, والمأخوذة بدورها من (حت-كا-بتاح), وهو معبد في مدينة (منف), كان مكرس لعبادة الإله (بتاح). كما نشأت اللغة القبطية من خليط من الثقافات والكلمات المصرية التي كُتبت بالخط اليوناني, ثم طورت العديد من اللهجات القبطية عبر القرون, واُكتشف العديد من النصوص المسيحية المهمة المكتوبة بها.


تعود الآثار الأولى للمسيحية إلى قصة هروب العائلة المقدسة إلى مصر, حيث آوت إلى العديد من الأماكن, منها الدير المحرق, والذي يعتقد الرهبان أنه شُيد على المكان الذي اختبأت فيه العائلة ما يزيد على ستة أشهر خلال فترة وجودهم في مصر. وثمة مكان آخر مقدس في المطرية, بالقرب من مدينة (هليوبوليس) القديمة. ويُقال أن شجرة جميز, والتي اشتهرت بشجرة مريم البتول, مدت ظلها على العائلة خلال رحلتهم.


طبقا للتراث القبطي, أسس القديس مرقص أول كنيسة مسيحية في مصر وذلك في مدينة الإسكندرية في منتصف القرن الأول الميلادي. غدا القديس مرقص, صاحب الإنجيل الثاني في العهد الجديد, البطريرك الأول لكرسي الإسكندرية وشرع في نشر تعاليم السيد المسيح. وقد كتب المؤرخ اليوناني (يوسابيوس القيصري), في حوالي عام 310, في كتابه (التاريخ الكنسي): "يقولون إن مرقص كان أول من انطلق إلى مصر ليبشر بالإنجيل, والذي كتبه, وأول من أسس كنائس في الإسكندرية).


وتذكر الكتب الأخرى التي كُتبت حول القديس مرقص تعاليمه ومعجزاته. ويُقال إن القديس مرقص عند وصوله إلى الإسكندرية شفى بمعجزة يد الإسكافي (إنيانوس). ويعتقد الأقباط أن تعاليم القديس مرقص أثارت جدلاً واسعاً؛ وأدت في نهاية المطاف إلى استشهاده حوالي عام 68 م. وقصة استشهاده هي كالتالي: كان يتم الاحتفال بعيد الفصح في نفس وقت الاحتفال بالإله اليوناني-المصري (سيرابيس). وحيث أن القديس مرقص رفض عبادة الإله الوثني؛ قامت جماعة من الوثنيين الساخطين بربط حبل حول عنقه وجره عبر الشوارع حتى الموت. 

الإيمان الصاعد


أثارت سرعة انتشار المسيحية في مصر إعجاب المؤرخين لوقت طويل. ويعود أحد الأسباب في ذلك إلى الإسكندرية. ففي الفترة المسيحية المبكرة, كانت المدينة منارة للتعليم والفلسفة. وخلال القرن الثالث, غدت بؤرة جذب للعديد من الدارسين البارزين. كما كانت موطن عدد كبير من اليهود, والذين ربما كانوا متقبلين تعاليم المسيحية.


 يذكر سفر الأعمال( 18: 24-25): " ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى أَفَسُسَ يَهُودِيٌّ اسْمُهُ أَبُلُّوسُ، إِسْكَنْدَرِيُّ الْجِنْسِ، رَجُلٌ فَصِيحٌ مُقْتَدِرٌ فِي الْكُتُبِ. كَانَ هذَا خَبِيرًا فِي طَرِيقِ الرَّبِّ. وَكَانَ وَهُوَ حَارٌّ بِالرُّوحِ يَتَكَلَّمُ وَيُعَلِّمُ بِتَدْقِيق مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ." ويكشف ذلك الحضور المسيحي المتنامي في المدينة.


مثل أورشليم, وأنطاكية, وروما, كانت الإسكندرية مركزاً قيادياً للفكر المسيحي المبكر. وكانت مدرسة الإسكندرية أول مؤسسة مسيحية للتعليم العالي, والتي أُسست في منتصف القرن الثاني الميلادي. ويتضمن روادها الأوائل القديس (إكليمندس) السكندري, والذي وُلد عام 150م وكان وثنياً ثم اعتنق المسيحية, وغدا مفكراً ومعلماً ومؤلفاً دينياً عظيماً. وكان العلامة (أوريجين) أحد تلاميذ القديس (إكليمندس). وقد ألف (أوريجين) كتباً يرد بها على الفيلسوف الوثني (كلسس) في عام 248م, والتي تدحض الهجمات الوثنية على العقيدة المسيحية. وقد أثبتت هذه الكتب مدى أهميتها في الدفاع عن الدين الجديد في أنحاء أخرى غير مصر.


كما كان (فالنتينوس) مفكر سكندري آخر شهير, والذي دعا إلى اعتناق المعرفة الإلهية- والتي تعني في اليونانية (جنوسيس), والتي عُرفت فيما بعد بالغنوصية. تغلغلت الغنوصية في المجتمعات المسيحية الأولى في مصر, حيث انتشرت أناجيلها, بما فيها إنجيل يهوذا, بشكل واسع.


وجود الوثنية والمسيحية جنباً إلى جنب في البلاد أدى إلى حدوث علاقة من التأثير المتبادل. فقد أثر الرمز المصري القديم للحياة وهو مفتاح (العنخ), والذي كان على شكل صليب بحلقة بيضاوية, على تطور الصليب المعروف باسم (كروكس انساتا) والمستخدم بشكل واسع في الرموز القبطية. ومع ذلك تقدمت المسيحية في القرن الرابع. وبالرغم من أنه في بدايات القرن الرابع كانت مدينة (أوكسيرينخوس) تمتلك اثنى عشر معبداً وثنياً وكنيستين, انعكس ذلك الوضع بعد قرن لاحق.


تميزت مصر كذلك بأنها كانت موضعاً لتطور مهم في المسيحية وهو نظام الرهبنة, والتي ولدت في صحاريها. من أجل تعميق وتقوية إيمانهم أخضع النساك أنفسهم لنظام صارم من التقشف والحرمان. وكان أشهر آباء الصحراء القديس أنطونيوس الكبير, والذي كان يتمثل له الشيطان في صورة مؤمن ورع أو امرأة حسناء. وكانت لهذه الرؤى أثر عميق على تصورات ومفاهيم المسيحية عن الشيطان. 


فترات الاضطهاد


بين القرنين الأول والرابع, شنت الإمبراطورية الرومانية اضطهاداً ضد المسيحيين. وشهد عهد الإمبراطور (دقلديانوس) في عام 303م ذروة هذا الاضطهاد, فقد استشهد مئات الآلاف من المؤمنين. ويُقال أن إحدى ضحايا تلك الفترة, والتي يطلق عليها الأقباط عصر الشهداء, كانت القديسة كاترين السكندرية, ابنة حاكم الإسكندرية وقتذاك, والتي تحدت الإمبراطور (ماكسنتيوس)؛ فأمر بتعذيبها. وعندما أمر بإعدامها, وجلبوها لتموت على عجلة ذات أسنان حديدية حادة, تحطمت العجلة عندما لمستها. بعد مرسوم ميلان في عام 313, توقف الاضطهاد, واستطاع المسيحيون ممارسة شعائرهم وعبادتهم دون خوف أو قيد. وبحلول عام 380 غدت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية (بناء على بنود مجمع نيقية).


أحدثت الاختلافات الدينية المذهبية توترا كبيرا في الكنيسة الأولى, ووجد مسيحيو مصر أنفسهم وجهاً لوجه أمام هذه الصراعات. في القرن الخامس شرع قادة الكنيسة في سلسلة من المناظرات حول طبيعة المسيح. وفي عام 415 اجتمع 520 أسقف في مجمع (خلقيدونية) للبحث في الموضوع. وقد قسم هذا الجدل الكنيسة إلى أحزاب, وبدأ صدعاً سيفصل الكنيسة الأرثوذكسية القبطية عن الكنائس الأخرى.


ازدهرت الكنيسة المصرية في القرنين التاليين, وجذبت المزيد من الأتباع. وشيد المصلح الرهباني الموقر الأنبا شنودة, والذي عاش في القرن الرابع والخامس, إرثاً من التعليم والتقوى متمثلاً في الدير الأبيض الضخم في مدينة سوهاج؛ والذي تضم مكتبته الهائلة نصوصاً قبطية, كما كانت مثار إعجاب العالم المسيحي. وكان يعيش بهذا الدير حوالي أربعة آلاف راهب وراهبة.


طوال تاريخها كان موقع مصر الجغرافي المتميز يجذب دوماً أنظار الغزاة. في عام 642, سقطت الإسكندرية في يد العرب, أتباع الدين الإسلامي الجديد. وبالرغم من أن العهد الجديد أبدى تسامحاً مبدئياً تجاه الكنيسة, إلا أن السكان بدءوا في اعتناق الدين الإسلامي باطراد. وثبتت المسيحية القبطية بينما كان دين مصر يتغير مجدداً.


 اليوم يعتنق حوالي 10 % من المصريين الدين المسيحي, يقودهم منذ عام 2012 ، البابا تواضروس الثاني, البابا الحالي في خط مستمر من الباباوات يُعتقد أنه يمتد إلى القديس مرقص الإنجيلي.