الرهبانية نظام تعبدي خاص بمجموعة من الناس اختاروا العزلة عن المدينة والسكان والضوضاء والمشاكل الحياتية اليومية وحتى الابتعاد عن الزواج والأطفال بحثاً عن الهدوء والجلال لله وحبا فيه والعمل علي رضاه، وكلمة راهب مشتقة من الرهبة أي الخوف عندما يحاسب الضمير أي إنسان ويوبخه على أخطائه وخطاياه وابتعاده عن الله والخير والسلوك القويم، وتدفعه هذه الرهبة إلى العودة إلى الإيمان والله والخير، وأحياناً إلى الرهبنة، حيث يترك العالم لينقذ نفسه وروحه.
يقول العلامة الأنبا غريغوريوس أسقف عام الدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية 1919-2001م في كتابه .. الدير المحرق: إن التعبير القبطي الذي يستخدم للدلالة على كلمة الراهب هو (موناخوس) ومنه اشتقت الكلمات اللاتينية monachus والإنجليزية monk والفرنسية moine وغيرها في اللغات الأخرى، وكلها بمعنى (المتوحد)، ذلك لأن الراهب بالمعنى الدقيق هو المتوحد الذي يعيش وحيداً منفرداً بعيداً عن المجتمع بحثاً عن نموه الروحي.
بخصوص كلمة الرهبنة ومعناها يشرح البابا شنودة الثالث في كتابه "تأملات في حياة القديس أنطونيوس"، معنى الكلمة فيقول: كلمة رهبنة ترجمة غير سليمة لحياة الوحدة، إن كانت مأخوذة من كلمة (يرهب الله) أي يخافه، فالقديس الأنبا أنطونيوس نفسه قال لأولاده: أنا أخاف الله، ذلك لأني أحبه، والمحبة تطرد الخوف إلى الخارج .
يذكر العلامة غريغوريوس في كتابه سالف الذكر أن عنصر الرهبنة أو الرهبانية ثلاثة هي:
أولاً : اعتزال العالم للتعبد:
هي عزلة عن الناس وصخب الحياة من أجل العكوف على الصلاة والصوم والعمل وانقطاع للرياضيات الروحية والعقلية، والانصراف للتأمل والتصوف والجود الدائم في حضرة الله.
ثانيا: نذر التبتل لله:
الراهب ينذر التبتل وعدم الزواج حتى يتفرغ لنهضة حياته الروحية وخلاصها ، وينصرف كلية لخدمة الله وعبادته على نحو خدمة الملائكة وعبادتهم، والبتول هو من اتسعت نظرته إلى الأسرة، فلم يعد يشغل نفسه بالعمل لخدمة زوجة وأولاد معدودين، إنما هو قد وهب نفسه لله ليكون في خدمة بمعناها الكبير الواسع، خدمة المجتمع الإنساني كله فيما هو يخدم الله بعبادته خدمة الملائكة القديسين.
ثالثا: اختيار الفقر طواعية :
لا يستطيع أي إنسان أن يعبد الله والمال، فالمال أصل لكل الشرور، وإن كان له فوائد كثيرة، كذلك هناك أغنياء استغلوا المال في عمل الخير، لكن المال يعطل صاحبه بعامة عن طريق الله والتعبد بالكامل، وحب المال يربك صاحبه ويجعله عبداً له، من هنا اشترطت قوانين الرهبنة أن يختار الراهب حياة الفقر ويقنع بالتقشف والكفاف وأن يعيش من عمل يديه، وفي إنجيل متى تقول الآية من 19 إلى 21 "إن كنت تريد أن تكون كاملاً فاذهب وبع كل شيء لك واعطه للمساكين فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني". وتنص قوانين الرهبنة أيضاً على أن الراهب إذا توافر بعض المال لديه من تعب يديه، فإن هذا المال يصير ملكا للكنيسة أو الدير من بعد حياته، إذ أن الراهب قد مات عن العالم باختياره وإرادته، ومن كان ميتاً لا يرث ولا يورث، هنا يجب أن نوضح- كما فهم البعض خطأ - إن الرهبنة ليست طريق الفقر الذين يهربون إليها من فقرهم وحاجاتهم، وتاريخ الرهبنة حافل بالرهبان القديسين الأثرياء الذين تركوا أموالهم من أجل الرهبنة والحياة مع الله، ولعل أصدق مثل على ذلك هو القديس "أنطونيوس" أبو الرهبان، كان غنيا يملك ثلاثمائة فدانا باعها ووزع ثمنها على الفقراء ليتفرغ لرسالته، والقديس باخوم أبو الشركة، كان قائداً في الجيش اعتزل منصبه من أجل رسالته، والقديسة دميانة كان أبوها حاكماً لإقليم البرلس، والقديس مارمينا العجايمي، كان ابناً لحاكم مريوط، وغيرهم كثر كانوا أثرياء لكنهم فضلوا الفقر والرهبنة والعيش مع الله وفي حبه.
يضيف كتاب "قصة دير القديس العظيم الأنبا بشوي بين الأمس واليوم"، بالإضافة إلى الثلاثة عناصر هذه عنصران آخران هما:
الطاعة
الطاعة نتيجة طبيعية للتواضع الحقيقي للراهب، لأنه يطلب المعرفة بالله والتقدم الروحي، ولا بد أن يسمع كلام معلمه ومرشده حتى يحقق ما يريد، كما قال بولس الرسول: “ أطيعوا مرشديكم واخضعوا لهم لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم"، ويقول أبو الرهبنة القديس أنطونيوس: "لا تكن قليل السمع والطاعة لئلا تكون وعاء لجميع الشرور، فضع في قلبك أن تسمع لأبيك فتحل بركة الله عليك، إن الطاعة والسكنة تخضعان الوحوش لنا “.
العمل اليدوي
الإنسان مخلوق ليعمل ويعمر الأرض، لذلك قال الله لآدم "بعرق وجهك تأكل خبزاً"، وإن كان العمل لازما لكل إنسان فهو لازمٌ للرهبان أيضاً، ليستطيع الراهب أن يأكل كما قال بولس الرسول : إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضاً، وليستطيع الراهب أن يجد ما يتصدق به، وقد كان تقليدا معروفا عند رهبان وادي النطرون أن يعملوا كفلاحين في الأرض وما يجمعونه من أجر أو من غلة يتصدقون بنصفه للفقراء، والعمل يحفظ للجسد حيويته الطبيعية وصحته، ويحفظ يقظة العقل من التشتت، ويحفظ الإنسان من الإحساس بالفراغ، ويحفظ للإنسان صحته النفسية أيضاً.
قال القديس الأنبا بيشوي: "منذ دخولي البرية لم آكل طعاما لم أعده وأصنعه بيدي".
يعود بداية تاريخ الرهبنة القبطية المصرية إلى يوم 14 أبريل عام 150م عندما خرج أحد أثرياء الإسكندرية وهو فرنطونيوس ليتعبد في صحراء نتريا مع حوالى سبعين مسيحياً تقياً.
ويعتبر القديس الأنبا بولا الأقصري أول السواح المشهورين في القرن الثالث، وقد دخل البرية حوالي عام 218م .
أما أبو الرهبنة وأول راهب في العالم، الذي وضع نظاماً للرهبنة وشرح للناس أهدافها وجوهرها، ولم يجد أحداً يقوده في البداية بل هو الذي علم نفسه وقاد وأرشد الجميع فهو القديس العظيم أنطونيوس 251-356م، عندما وصل هذا القديس إلى سن الشباب 19 سنة، سمع قارئ الإنجيل في الكنيسة يقرأ إنجيل متى الآيات 19 : 21 والتي يقول فيها السيد المسيح للشاب الغني (إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك واعط للفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني).
ويقول كتاب (بستان الرهبان لأبا الكنيسة القبطية) : إن أنطونيوس ترك والده بغير دفن كما ترك كل كل ما خلفه له من مال وأملاك وحشم، وخرج هائما على وجهه عام 270م قائلاً:
ها أنا أخرج من الدنيا طائعا كيلا يخرجوني مثل أبي كارها .. وتوغل في الصحراء حتى وصل إلى شاطئ النهر، حيث وجد هناك جميزة كبيرة سكن فيها، وعاش متفرغا للعبادة من صلاة وصوم وتأمل في الحياة، وعمل بحثا عن طعام كان بالقرب من هذا المكان قوم من العرب، واتفق في يوم أن امرأة نزلت مع جواريها إلي النهر لتغتسل هي معهن، ورفعت ثيابها معهن عن رجليها فأدار نظره عنهن ثم قال لها: يا امرأة أما تستحين مني وأنا رجل راهب ؟ فأجابت:
اصمت يا إنسان من أين لك أن تدعو نفسك راهباً؟ لوكنت راهباً لسكنت البرية الداخلية لأن هذا المكان لا يصلح لسكنى الرهبان. اعتبر أنطونيوس رد المرأة توجيها له من الله، فترك المكان وهرب إلى البرية الداخلية وعاش متوحداً.
وهناك أكثر من نظام في الرهبنة نستطيع أن نجملها في نظامين رئيسيين هما:
أولاً: نظام الرهبان المتوحدين:
هذا النظام يعيش فيه الرهبان في الصحارى والجبال متفرقين، كل على حدة في مغارة أو كهف متبعا نظاماً خاصاً به في عبادته وصومه وصلاته وتأملاته، والذي وضع وأسس هذا النظام أبو الرهبنة القديس أنطونيوس الذي تحدثنا عنه، وأيضاً الأنبا بولا.
ثانيا: نظام الرهبنة الاشتراكية:
وضع هذا النظام وقانونه القديس الأنبا باخوميوس "288 – 405 م"، أوائل القرن الرابع الميلادي حوالي 320م، وفي هذا النظام - نظام الشركة- يعيش مجموعة من الرهبان حياة جماعية اشتراكية، ويخضعون لنظام صارم دقيق موحد في يقظتهم، ونومهم، وصلواتهم، وصومهم وطعامهم، واجتماعاتهم، وعملهم، فكل منهم عضو في هذا المجتمع الاشتراكي له حقوق وعليه التزامات، ولا يسمح لأحد أن يخرج علي النظام العام المرسوم، ومن يخرج على النظام العام توقع عليه عقوبة صارمة رادعة، ولكل راهب عمله بحسب ميله واستعداده وطبقا لاحتياجات الدير وقانونه، هناك أعمال في النظافة، وإعداد الطعام والزراعة والضيافة، وأعمال أخرى إدارية وفنية، ونظام الشركة والذي وضعه الأنبا باخوميوس، الذي أطلق عليه "أبو الشركة" هو النظام الذي تسير عليه جميع الأديرة في العالم وفي مصر الآن، وهو نظام أسهل من نظام التوحد الذي يسير عليه كبار الرهبان والنساك والسواح، ويمثل طريقا وسطا بين الحياة العامة في العالم، وحياة التوحد المطلق، وأكثر المتوحدين يبدأون دائما بنظام الشركة قبل أن ينتهوا إلى نظام التوحد، حتى الأنبا باخوميوس كان متوحدا في البداية ورأى أن حياة التوحد فيها قسوة على الرهبان الجدد، لا يقوى عليها إلا القليل، فجمع الكثيرين ممن تبعوا حياته وسيرته، ووضع لهم نظاماً عاماً مشتركا للحياة الروحية وقواعد للحياة محددة، فهم يصلون معاً ويأكلون على مائدة واحدة في وقت واحد، ولهم أوقات للعمل، هكذا جعل الأنبا باخوميوس الرهبنة شبه حياة عسكرية، ويبدو أنه كان متأثرا بحياته كقائد في الجيش قبل رهبنته.
هكذا نشأت الرهبنة المسيحية القبطية في مصر وملأت كل صحاريها وربوعها ومحافظاتها، وكانت أهم الأديرة في المحافظات في البحر الأحمر، وبني سويف، وقنا، وأسيوط، وملوي، والفيوم، والجيزة والقاهرة، والواحات، ووادي النطرون؛ وفي القرن الخامس عشر 1430م ذكر المقريزي أسماء 74 ديراً عامراً، ومن أهم الأديرة الموجودة حالياً دير الأنبا أنطونيوس، ودير الأنبا بولا، دير المحرق، دير الأنبا صمويل ، دير الأنبا مقار، الذي كان يرأسه المتنيح القمص متي المسكين، أحد أشهر عشرة رهبان في العالم في القرن العشرين.
كان هناك عدة أديرة للراهبات ضمت الآلاف لم يتبق منها إلا خمسة أديرة فقط للراهبات بالقاهرة هي دير مار جرجس ودير أبو سيفين بمصر القديمة، دير العذراء، ودير مار جرجس بحارة زويلة، والأمير تادرس بحارة الروم، وجدد البابا شنودة دير القديسة دميانة بالبراري، واشتهرت عالميا كثير من أسماء الراهبات مثل الشهيدة فبرونيا بأخميم، والقديسة دميانة، والقديسة ليديا.