الخميس 23 مايو 2024

جائحة كورونا ستغير النظام العالمي إلى الأبد

فن26-10-2020 | 22:04

تعيد الأجواء السريالية المحيطة بجائحة كوفيد 19 إلى ذهني كيف كان شعوري وأنا شاب ملتحق بفرقة المشاة الثامنة والأربعين أثناء معركة الثغرة. فثمة الآن إحساس بالخطر ذاته, كما في أواخر عام 1944, والذي برغم أنه ليس موجهاً صوب شخص بعينه, لكنه يضرب بعشوائية ودمار. غير أن ثمة اختلاف بارز بين ذاك الزمن البعيد وزمننا الآن. في ذاك الوقت اتحد الأمريكيون على هدف قومي جوهري عزز صمودهم. ولكن الآن, في بلاد يسودها الانقسام, هناك حاجة ماسة لإدارة بارعة بعيدة النظر يمكنها التغلب على الصعوبات التي لم يسبق لها مثيل في جسامتها ونطاقها العالمي. إن الحفاظ على ثقة الجماهير لهو أمر ضروري ومهم من أجل التضامن الاجتماعي, والعلاقات بين المجتمعات, وكذلك السلام والاستقرار الدوليين.


إن تماسك الأمم وازدهارها ينبع من الاعتقاد بأن مؤسساتها يمكنها توقع الكوارث, واحتواء وقعها, واستعادة الاستقرار. وعندما تنتهي جائحة كوفيد 19, ستوجه إلى كثير من مؤسسات الدول اتهامات بالفشل. ولسنا هنا بصدد التحدث عن مدى صحة هذا الحكم. والواقع أن العالم بعد فيروس كورونا لن يعود كما كان قبله. وأي مناقشة للماضي الآن ستصعب تنفيذ ما يجدر فعله.


لقد ضرب فيروس كورونا بنطاق وضراوة غير مسبوقين. فهو ينتشر بشكل أُسي؛ إذ أن حالات الولايات المتحدة تتضاعف كل خمسة أيام. وما من علاج حتى هذه اللحظة. والمعدات الطبية غير كافية لاستيعاب الحالات المتزايدة, بينما وحدات الرعاية المركزة على وشك تخطي طاقة استيعابها، والاختبارات غير كافية لتحديد نطاق العدوى, والقليل منها توقف انتشارها. وربما يتوافر المصل الفعال بعد 12 إلى 18 شهر.


لقد بذلت إدارة الولايات المتحدة جهوداً راسخة لتحاشي وقوع المصيبة. وسيكون الاختبار النهائي هل يمكن احتواء انتشار الفيروس ثم إيقافه بطريقة ونطاق يحافظان على ثقة الجماهير في قدرة الأمريكان على حكم أنفسهم. إن الجهود المبذولة لاحتواء الأزمة, مهما كان مدى انتشارها وضرورتها, يجب أن تتزامن مع التعجيل بإطلاق مشروع للانتقال إلى نظام ما بعد فيروس كورونا.


يتعامل القادة مع الأزمة على نطاق قومي واسع, ولكن الآثار التخريبية التي تركها الفيروس على المجتمع لا تعترف بالحدود. وربما يكون هذا الهجوم على صحة البشر أمر مؤقت, كما نأمل, لكن الاضطراب السياسي والاقتصادي الذي خلفه ربما يستمر لأجيال. لا يمكن لدولة وحدها, ولا حتى الولايات المتحدة, مقاومة الفيروس بجهود قومية فحسب. بل إن التعامل مع هذه الأزمة العاجلة الراهنة يجب أن يقترن في النهاية برؤية وبرنامج تعاونيين عالميين. إن لم نستطع تنفيذهما جنباً إلى جنب, سنواجه أسوأ ما فيهما.


عند النظر إلى الدروس المستفادة من تطوير مشروعي مارشال الاقتصادي ومانهاتن, نجد أن الولايات المتحدة ملزمة بالاضطلاع بجهد جبار على ثلاثة محاور. المحور الأول يتمثل في دعم مقاومة العالم للمرض المعدي. لقد أغرتنا الانتصارات التي حققتها العلوم الطبية, مثل لقاح شلل الأطفال, أو القضاء على الجدري, أو تقنية التشخيص الطبي عبر الذكاء الاصطناعي, إلى الشعور الخطير بالرضا. ومن ثم, نحن بحاجة إلى تطوير وسائل وتقنيات جديدة للسيطرة على العدوى, وتوزيع اللقاحات على أعداد كبيرة من السكان. ووجب على المدن والولايات والمناطق الاستعداد على الدوام لحماية شعوبهم من الجوائح عبر بناء مخزون احتياطي, والتخطيط التعاوني, واستكشاف حدود العلم.


المحور الثاني: محاولة رأب الصدع في الاقتصاد العالمي. لقد تعلم زعماء العالم دروساً مهمة من الأزمة المالية التي ألمت بالعالم عام 2008. غير أن الأزمة الاقتصادية الراهنة أكثر تعقيداً؛ فالانكماش الاقتصادي الذي سببه فيروس كورونا لم يحدث من قبل في التاريخ من حيث نطاقه السريع والعالمي. كما أسهمت وسائل الصحة العامة الضرورية مثل التباعد الاجتماعي وإغلاق المدارس والأعمال في العسر الاقتصادي. لذا, لابد من توافر برامج تسعى إلى إصلاح آثار الفوضى الوشيكة التي ستحل بأكثر سكان العالم هشاشة.


المحور الثالث: حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي. إن الإدارة الحديثة تقوم على أسطورة المدينة المسورة التي يقوم على حمايتها حكام أقوياء, أحياناً متجبرين, وأحياناً عادلين, لكنهم دوماً أقوياء يحمون الشعب من العدو الخارجي. ولقد أعاد مفكرو التنوير صياغة هذا المفهوم بتأكيدهم على أن الهدف من الدولة الشرعية هو توفير الحاجات الأساسية للشعب: الأمن والنظام والرخاء الاقتصادي والعدالة, والتي لا يمكن للأفراد تأمينها بمفردهم. وقد أفضت هذه الجائحة إلى مفارقة تاريخية؛ ألا وهي إحياء المدينة المسورة في عصر يعتمد فيه الازدهار على التجارة العالمية وحركة الناس. إن الأنظمة الديمقراطية في العالم بحاجة إلى الدفاع عن قيمها التنويرية والمحافظة عليها. والتقهقر العالمي عن موازنة السلطة بالشرعية سيتسبب في انهيار العقد الاجتماعي على المستوى المحلي والعالمي. غير أن مسألة الشرعية والسلطة لا يمكن حسمها في وقت محاولات التغلب على وباء كوفيد 19. إن الحزم ضروري من كل الجوانب؛ في السياسة المحلية والدبلوماسية العالمية, والأولويات يجب أن تأتي أولاً.


لقد خرجنا من معركة الثغرة إلى عالم يتنامى فيه الازدهار وتصان فيه الكرامة الإنسانية. والآن نعيش مرحلة تاريخية. ويواجه القادة تحدياً تاريخياً يتمثل في إدارة الأزمة وفي الوقت نفسه بناء المستقبل. والفشل يمكن أن يغير وجه العالم.