الأربعاء 26 يونيو 2024

رضوى زكي تكتب: مصر وعالم البحر المتوسط.. جغرافيا صنعت التاريخ

فن27-10-2020 | 02:35

ما من وصف لمصر، وشخصيتها الحضارية، وملامح تكوينها الجغرافي، وتاريخها الطويل، أبلغ مما قاله المفكر والجغرافي المصري "جمال حمدان" (1928-1993) في موسوعته الخالدة «شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان»، التي تضمنت بدرورها وصفًا للشخصية الإقليمية لمصر، احتل فيها حوض البحر الأبيض المتوسط موضعًا بارزًا، حتى ذهب البعض إلى القول بأن تاريخ مصر هو تاريخ البحر المتوسط؛ بحكم الانتماء الجغرافي والصلات التاريخية الممتدة عبر آلاف السنين، مثلما وصف د. ميلاد حنا في كتابه "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية" بأن انتماء مصر إلى البحر المتوسط هو العمود السادس الذي قامت عليه تلك الشخصية الفريدة.


ولعل أهم دور لعبه البحر المتوسط في تاريخ مصر هو دوره كقناة اتصال حضارية بينها وبين شعوب هذا البحر؛ فعن طريق مصر تعرّف الجانب الأوربي لسكان البحر المتوسط على حضارة الشرق الأدنى القديم وفنونها وعلومها، وما كان ليعرفها لولا وجود مصر كمعبر لانتقال الثقافة والحضارة بينهما. ثم جاء الوقت الذي انتقلت فيه المؤثرات الحضارية عبر البحر المتوسط من أوربا إلى مصر.


ولأهمية مصر للبحر المتوسط وتأثير هذا البحر في الشخصية المصرية؛ تَقَصَّى عدد من الباحثين المتخصصين مظاهر تلك العلاقة التاريخية المتفاعلة بين مصر وعالم البحر المتوسط، في مجموعة من الأوراق البحثية بين طيات كتاب "مصر وعالم البحر المتوسط"، الذي أعده وقدمه الأستاذ الدكتور رؤوف عباس، مؤسس مدرسة رصينة في التاريخ الاجتماعي المصري المعاصر. يُعَدُّ هذا الكتاب الصادر عام 1986 عن دار الفكر العربي أحد الدارسات القيّمة والنادرة التي تستعرض علاقة مصر وتأثيرها في حوض البحر المتوسط وشعوبه خلال العصور القديمة والإسلامية من جانب، ومن جانب آخر تبرز مكانة البحر المتوسط كأحد العناصر الرئيسية في نسيج الحضارة المصرية. 


تبدأ موضوعات الكتاب بعرض التأثير الرومانسي للحضارة المصرية القديمة في تفكير شعوب البحر المتوسط، خلال الحقبة التاريخية المُمتدة من الغزو الفارسي حتى العصر القبطي، ذلك الأثر الذي تجلّى في بعض الروايات التاريخية، مثل رواية أن الإسكندر المقدوني هو سليل آخر فراعنة الأسرة السادسة والعشرين، وأنه ابن للرب المصري آمون-رع. ومما لا شك فيه أن تلك الروايات تنشد هدفًا سياسيًّا بعينه، وهو التبرير الديني والشرعي للاحتلال الإغريقي لمصر. وبمرور الوقت ازداد التفاعل بين الحضارة الإغريقية والمصرية، إلى أن انصهر الإغريق في الحضارة المصرية، وصارت مدينة الإسكندرية، عاصمة مصر في تلك الفترة، قبلة الفكر والفن في العالم القديم؛ حيث امتزجت فيها معارف المصريين والإغريق. وهذه العلاقة بين الحضارتين، المصرية القديمة والإغريقية، لم تكن وليدة دخول الإسكندر الأكبر إلى مصر وتأسيسه لمدينة الإسكندرية. ويؤرخ الكتاب لجذور العلاقات المصرية – اليونانية في فترة ما قبل التاريخ، وصولًا إلى قمة ازدهارها في العصر الصاوي (664-525 ق.م.) استنادًا إلى الأدلة الأثرية والتاريخية. 


وقد احتلت مصر المرتبة الأولى في الولايات الرومانية التابعة للإمبراطورية؛ القوة الأعظم في العالم القديم على حوض البحر الأبيض، وكان لا بُدَّ لها أن تحظى بتلك المكانة المميزة باعتبارها المخزن الأول للغلال، ومورد النقود والأموال، بالإضافة إلى أهميتها العسكرية في حوض البحر المتوسط، بحكم موقعها الاستراتيجي الفريد. ثم بدأت مصر عهدًا جديدًا حين دانت بدين نبي الله عيسى عليه السلام، واعتنق حُكامها من أباطرة الرومان الدين المسيحي. ووجد المصريون في العقيدة الجديدة سبيلًا لمواجهة سلطان روما، فاجتمعت المرارة السياسية مع القهر الاقتصادي، والخلاف العقائدي بين المصريين وبين مذهب المسيحية في القسطنطينية، لتعمق الهوة بين الإمبراطورية ومصر. وظلت مصر تدور في رحى تلك الصراعات السياسية والدينية حتى استأثر آخر حاكم بالعرش البيزنطي في مصر، هرقل عظيم الروم، قبل دخول العرب حاملين لواء الإسلام إلى أرض مصر. وقد واكبت تلك الفترة العصيبة من عمر التاريخ المصري؛ ظهور حركة الرهبنة المسيحية المصرية في الأديرة خلال القرنين الخامس والسادس الميلاديين، ثم انتشار الرهبنة المسيحية من ربوع مصر إلى العديد من بلدان البحر المتوسط، مثل فلسطين وسوريا واليونان وغرب أوروبا وإيطاليا.  


يمر الزمن، وتئول السيادة على البحر المتوسط إلى مصر الفاطمية لمدة قرن من الزمان، بين منتصف القرن الرابع والخامس الهجري/ العاشر والحادي عشر الميلادي، مستعينةً بقوتها العسكرية. وشهد البحر المتوسط خلال تلك الفترة ازدهارًا اقتصاديًّا وتقدمًا حضاريًّا، وباتت تلك الحقبة تمثل العصر الذهبي لاقتصاد شعوب البحر المتوسط من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، قبل أن تنحسر تلك السيادة المصرية – الإسلامية عن حوض البحر المتوسط؛ بسبب ضعف الدولة الفاطمية وازدياد سيطرة الأوربيين الغربيين تدريجيًّا بظهور ما يُعرف بالحروب الصليبية في العصور الوسطى.


منذ دخول الإسلام، بدأ الاهتمام بالعلوم الدينية في مصر، وصارت مدرستها الدينية أسبق المدارس الإسلامية في علوم الفقه والحديث وعلم القراءات. كما أسهمت مصر في ميدان التصوُّف إسهامًا بارزًا، وليس من المبالغة القول إن التصوُّف الإسلامي نشأ بمصر؛ إذْ ظهرت أول جماعة عُرفت بالصوفية في الإسكندرية، باسم مؤسسها "أبو عبد الرحمن الصوفي" حوالي عام 200 ه، وعُرف التصوُّف مذهبًا على يد الحكيم "ذو النون المصري" بإخميم. ومن مصر انتقل هذا الاهتمام بالعلوم الدينية والمدارس الإسلامية إلى أرض الأندلس؛ فكانت أكثر الأمصار الإسلامية تأثُّرًا بالمدرسة الدينية المصرية. وعبر حوض البحر المتوسط ارتحل علماء المشرق إلى الأندلس، ناشرين علومهم ومعارفهم الفكرية في أرض الأندلس بقلب أوربا في القرون الأولى من الهجرة النبوية الشريفة. 


من المعروف تاريخيًّا أن آخر معاقل الصليبين في عكا قد سقطت عقب معركة حاسمة قادها السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون سنة 690ه/ 1291م، لكن الصراع بين القوى المسيحية الأوربية ودولة المماليك التي تمثل ديار الإسلام في الشرق استمر بأشكال أخرى في مياه البحر المتوسط، فقد قام ملك قبرص لوزنيان بحملة على الإسكندرية سنة 767ه/ 1365م سرعان ما انتهى أمرها بالفشل، وتتابعت أعمال القرصنة الأوربية على الشواطئ المملوكية لاحقًا، مما دفع سلاطين المماليك الجراكسة إلى القيام بعدة حملات على قبرص، كان آخرها عام 829ه/ 1426م، والتي عادت بملك قبرص "جانوس بن جاك" أسيرًا إلى أرض مصر، وأصبحت قبرص تابعة للإمبراطورية المصرية المملوكية وخاضعة لها، قبل أن تستولي الإمبراطورية العثمانية على مصر والبلدان التي كانت تحت حكمها.


والخُلاصة أن أهم محطة في تاريخ البحر الأبيض تبدأ بنشأة الإسكندرية، التي ربطت شرق البحر بغربه، وشماله بجنوبه. واكتسبت الإسكندرية أهمية استثنائية في العصور القديمة حين كانت عاصمة لمصر، وأهم المدن على ساحل هذا البحر. ولم تقتصر أهميتها على ذلك فحسب؛ بل كانت كذلك منارةً للعلم في البحر المتوسط خلال عصر المماليك، وازدهرت بين أرجائها حركة العلوم والمعارف، واجتذبت العديد من العلماء والمؤرخين والرحّالة.  


هكذا عرضنا المحطات الرئيسية في علاقة مصر بالبحر المتوسط وشعوبه، التي ألقى عليها الضوءَ - من وجهات نظر متعددة - كتابُ "مصر وعالم البحر المتوسط". فقد كانت مصر معبرًا للثقافة والحضارة في حوض البحر المتوسط عبر تاريخها الممتد قديمًا وحديثًا، وأثرت في الشعوب والحضارات المتوسطية وتأثرت بها. لقد كان البحر المتوسط هو البحر الذي ازدهرت حوله أعظم الحضارات البشرية في التاريخ، وكان  - ولا يزال - موطن الإبداع والفنون والحضارة، وجسر الثقافات والمعارف، ووعاء الفكر الإنساني.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 47 - أغسطس 2020


الكاتبة: باحثة أكاديمية في الحضارة والعمارة الإسلامية