يبدو أن أزمة كورونا التى اجتاحت مصر والعالم كله قد أحدثت تغييراً جذرياً فى كل مناحى الحياة، فانقسمت الحياة إلى فترة ما قبل كورونا وما بعدها.
وعلى الرغم من الأهوال التى شهدها العالم سواء من الناحية الصحية أو الاقتصادية أو الاجتماعية إلا أننا قد لمسنا ظواهر إيجابية عديدة، لكن من الواضح أن الخريطة الثقافية للكبار والصغار سوف تحدث فيها تغييرات كبيرة فى الفترة القادمة، أهمها وأبرزها أن الطفل أصبح إيجابيا ومشاركاً فى صنع الحدث، ولم يصبح مجرد متلق، بل أصبح عضواً بارزاً فى مجتمعه متفاعلاً وبقوة مع ما يحدث به من متغيرات، فعلى سبيل المثال، وخلال أزمة فيروس كورونا الطاحنة، ظهرت فيديوهات على قناة اليوتيوب أبطالها أطفال، متفاوتون فى أعمارهم ومستوياتهم الاجتماعية، ولكن أصبح كل منهم بطلاً للفيديو، فهو – أو هى – إمّا أن يوجه الأطفال أقرانه لكيفية غسل اليدين بالطريقة الصحيحة أو للتوعية بأهمية البقاء فى المنزل لعدم نقل العدوى، أو القيام بشرح مبسط لتوضيح شكل فيروس كورونا وأثره ...إلخ..
فأصبح جزء كبير من ثقافة الطفل موجهاً من الطفل إلى الطفل نفسه، بعد أن كان الطفل يتلقى ثقافته من الكبار، فأصبح الطفل أكثر جرأة وقدرة على المواجهة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، ذاع صيت الطفل المصرى "ميسره محمود" 14 سنة .. "ميسره" يعيش فى النمسا مع أسرته، وقام بعمل بطولى إنسانى لدرجة أنه أصبح حديث النمسا كلها لأنه بادر مع أصدقائه فى أن يكون فى عون المسنين، لأنهم الفئة الأكثر عرضة للإصابة، وذلك بمدهم بحاجاتهم من السلع الأساسية وتوصيلها لمنازلهم بالمجان، فلُقّب هو وأصدقاؤه بملائكة السماء، وكان واجهة مشرفه لمصر فى الخارج... فخلال أزمة كورونا، برزت نماذج إيجابية عديدة لأطفال أصبحوا غاية فى الإيجابية والتفاعل مع المجتمع.
ومن حسن الحظ أيضا، أنه خلال هذه الأزمة غير المسبوقة، تغيرت صورة المثل الأعلى للطفل التى ربما لم يكن لها وجود من الأساس، وللأسف الشديد أن معظم الأطفال كانوا يفتقدون القدوة الحقيقية، ويحلمون بالتشبه ببلطجية الأفلام والمسلسلات ومطربى المهرجانات وغيرهم من النماذج السلبية التى ظلت تلاحقهم ليل نهار فى وسائل الإعلام المختلفة... فجأة، يتغير المشهد تماماً، ويصبح الأطباء والممرضون هم المتصدرون للمشهد، وأطلقت عليهم صفة "الجيش الأبيض"، وأصبحوا بين ليلة وضحاها هم القدوة والمثل الأعلى الحقيقى للتضحية، فأزاحوا جانباً كل التفاهات التى تعلَّق بها الطفل لسنوات، فأثرت سلباً على لغته وسلوكه.. هذا بالإضافة إلى تأكيد الثقة فى قدرات جيش مصر العظيم والذى أصبح ضباطه وجنوده أبطالاً فى عيون الصغار، وذلك للجهود العظيمة التى قام أبطال الجيش لحماية مصر وحماية شعبها، وقد لمس الأطفال ذلك بالفعل، وبالتأكيد، سيكون لذلك أثراً طيباً فى نفوسهم.
هذا بالإضافة إلى إزكاء روح الانتماء فى نفوس أطفالنا وإعلاء صورة مصر ورئيسها بشكل إيجابى كبير سواء فى التعامل مع المصريين خارج مصر أو داخلها.. وقد لمس العالم كله اللفتات الإنسانية العظيمة التى قامت بها مصر ورئيسها فى التعامل المتزن الراقى والإنسانى مع أزمة كورونا، مما سيكون له أكبر الأثر على نفوس أطفالنا وشبابنا الصغير فيما بعد.
ومن حسن حظ الطفل المصرى أيضاً، أنه التزم بالتواجد فى البيت ليجد نفسه ولأول مرة محاطاً بأبيه وأمه وإخوته ليل نهار ولأجل غير مسمى.. وبهذا اجتمعت الأسرة المصرية مرة أخرى بعد سنوات من التشتت.. فصحيح أن الجميع كانوا يسكنون بيتاً واحداً، ولكنهم قلما كانوا يجتمعون سوياً، فكل منهم يأتى إلى البيت فى موعد ويخرج فى موعد، وقلما كانت تجتمع الأسرة على مائدة الطعام، لكن حظر التجوال أجبر الأسرة المصرية على أن تعود لطبيعتها الأولى، بعد أن كان الطفل يشكو إهمال أحد الوالدين أو كليهما بسبب مشاغل الحياة، وسرعة إيقاعها التى لا ترحم.
فها هى الأسرة قد اجتمعت ثانية، وبدأ كل فرد من أفرادها يكتشف الآخر بعد سنوات من الغربة رغم وجودهم جميعاً فى نفس البيت.
وخلال هذه الأزمة أيضا، اكتسب الطفل عادات صحية جديدة، وأصبح يطبقها بشكل صارم لا هوادة فيه، فهو يغسل يديه بالماء والصابون، ويحافظ على نظافته الشخصية، ونظافة ملابسه، ويرتدى الكمامة، والقفازات للوقاية إن لزم الأمر. ليصبح موضوع النظافة الشخصية أمراً حتمياً، وليس ترفاً أو قابلاً للنقاش كما كان سابقاً.
ومن ناحية أخرى، هناك تحد كبير يواجه الطلبة والطالبات فى المدارس وهى ظاهرة "التعلم عن بعد".. فجميع الطلبة بلا استثناء مطلوب منهم متابعة العملية التعليمية وإجراء أبحاث فى كل مادة من المواد عوضاً عن الامتحانات التى تم إلغاؤها بسبب الظروف الراهنة، بعد أن تم تعليق الدراسة بجميع المدارس لأجل غير مسمى.
لم يتعود أطفالنا على هذا المناخ أبداً، لا هم ولا أسرهم، ولكنهم يسعون جاهدين للتأقلم مع الوضع، والذى تم بشكل سريع.
لذلك ونتيجة لهذه الظروف المتلاحقة تم إلغاء الدروس الخصوصية هذه القضية التى أرقت الأسرة المصرية لسنوات طويلة، ولم يكن لها حل لا من قريب أو بعيد.
كما أغلقت كل "المراكز التعليمية" أو –"السناتر"– والتى كانت جنباً إلى جنب الدروس الخصوصية تستنزف الجزء الأكبر من ميزانيات الأسرة المصرية بلا رحمة.
فلا مجال للدروس الخصوصية أو الذهاب إلى "السناتر" فالدراسة أصبحت رقمية، والثقافة والفنون التى ترفه عن الطفل، أصبح الطفل يتلقاها أيضا عن طريق النت، ومواقع التواصل الاجتماعي.
فالطفل يجلس فى بيته مع أفراد أسرته، ليستذكر دروسه، ويؤدى اختباراته وأبحاثه، وإذا أراد أن يرفه عن نفسه فإنه قد يشاهد فيلما أو يقرأ كتابا أو مجلة، أما إذا أراد أن يزور متحفاً، فإنه لن يذهب لزيارته فعلياً بل سيزوره ويتجول فى ردهاته افتراضيا.
فلابد إذن أن يقدم له الكبار الثقافة الممتعة التى يحتاجها سواء بالنسبة للبرامج التليفزيونية أو الأفلام أو الكتب أو المجلات أو الأنشطة بوجه عام، وقد كان هذا الأمر من الأمور المهمة التى ناقشتها مؤخراً لجنة ثقافة الطفل بالمجلس الأعلى للثقافة، التى أدركت أن طفل اليوم سيكون مختلفاً تماماً عن ذى قبل، فأطفالنا شهدوا أزمة كورونا بكل تفاصيلها، وتأثروا بها تأثرا مباشراً سواء فى حياتهم الأسرية والاجتماعية والصحية والدراسية والثقافية.
فاجتمعت الأسرة كما لم تجتمع من قبل، وأصبح الطفل يطبق العادات الصحية السليمة بحذافيرها، وبقى فى المنزل ليستذكر دروسه، ويؤدى اختباراته "أون لاين" دون الحاجة لدروس خصوصية استنزفت أسرته مادياً وصحياً كما امتنع الطفل عن مصافحة أصدقائه منعاً لنقل أى عدوى، وامتنع أيضا عن مصافحة الجد والجدة لأنه أدرك أن كبار السن هم الأكثر عُرضة للمرض.
لقد أدرك الطفل أن العالم كله أصبح كالقرية الصغيرة، فأصبح مُلمّاً بما يحدث فى كل بلاد العالم بخصوص أمر الكورونا، وأن ما يحدث فى بلد ما، يؤثر بالقطع على كل بلاد العالم، كما أدرك الطفل أيضا أن بيته وأسرته نعمة من نعم الله عليه، وأن هناك أناساً عليه أن يفكر فى مساندتهم، قد لا يكون لهم بيت آمن مثله.
أما من الناحية البيئية، فقد عرف الطفل، وأدرك معنى "الهدوء" الذى يسود الشوارع بعد الساعة السابعة مساءً، وحتى صباح اليوم التالى، كما عرف أيضاً ما يعنيه ذلك من انخفاض نسبة ثاني أكسيد الكربون الناجم عن عدم وجود سيارات بالشوارع، ولم يعد يسمع الطفل صوت آلات التنبيه، ولا مشاجرات الشارع، وما قد تحويه من ألفاظ نابية كانت تخترق أذنه، وتستقر فى أعماقه منذ سنين... وهذا الهدوء والرفق بالبيئة امتد ليشمل العالم أجمع، فبدأت الطبيعة تعود إلى سابق عهدها، فلم تعد المصانع تلوث مياه الأنهار والبحار، وكف الإنسان عن تقطيع أشجار الغابات، وقلت نسبة العوادم بشكل ملحوظ، فبدأت الحيوانات تعود للاستمتاع ببيئتها الطبيعية التى خلقها الله لها، وكان الإنسان يتفنن فى إفسادها.
أما الحيوانات الأليفة التى قد يربيها الطفل فى منزله، فقد زاد ارتباطه واهتمامه بها، وخاصة بعد أن انتشرت إشاعة تفيد بأن الحيوانات الأليفة لها دور فى نقل الفيروسات، ونتيجة لتصديق البعض لهذه الإشاعات التى نفاها الأطباء –جملة وتفصيلاً – قام البعض بالتخلص من حيواناته الأليفة بإلقائها فى الشارع بلا ذنب – فارتفعت عدة أصوات وحملات مناديةً بالرفق بالحيوان، أدركها الطفل جيداً، وتمسك بها.
فالحفاظ على البيئة، والرفق بالحيوان، والحفاظ على النظافة العامة، وإعلاء قيمة العلم والعلماء، والانتماء للوطن كانت كلها عناوين لدروس درسها الطفل فى المدرسة نظرياً، ولكنه لم يكن ليطبق كل ما جاء بها – أما اليوم، فقد عاش الطفل كل تفاصيل الأزمة التى عاشها مجتمعة، فأصبح الطفل مشاركاً رئيسيا فاعلا فى صنع ثقافته، لأنها تعايش مع كل تفاصيل الأزمة التى تمر بها مصر، ويمر بها العالم أجمع.
وعلى الرغم من أن أزمة كورونا، بدت لنا بوجهها القبيح المخيف، إلاّ أن الوجه الآخر لها قد يبدو مُشرقاً، وذلك بما اكتسبه الطفل المصرى من عادات صحيحة، وتغيير جذرى للمفاهيم الخاطئة التى كانت سائدة ومترسخة فى نفسه، والتى لم نكن نستطيع أن نغيرها أبداً، فتبدلت للأفضل بين ليلة وضحاها.