كان والدي دائما في صغري ما يصطحبني معه إلى زيارة مقامات آل البيت رضوان الله عليهم .. ربما كانت البداية الحقيقية كي ينغرس داخلي حب نسل رسول الله وذريته.
لكني لم أكن أعلم شيئاً في بداية حياتي عن الطرق الصوفية وحضراتها وأذكارها وخباياها وعلوم الظاهر والباطن، والكشف والإلهام وما تحويه من معرفة روحية تؤثر على سلوك المُريد والشيخ.
ربما كنت فقط أراهم منتشرين في مساجد آل البيت، مثل أي زائر، لكن لم تستقم لي معرفتهم حقيقياً إلا أيام الجامعة، عن طريق صديق اعتاد القرب منهم والانسجام بمددهم.
هنا بدأت عيني تتفتح على عالم آخر، عالم تحيطه الإشارات والخواطر الروحية.. أناس يجلسون لساعات طويلة تتريض ألسنتهم خلالها بمدد الآلاف من الأذكار اليومية والصلاة على سيد المرسلين.
جلسات يتساوى على بساطها العالم المتشرع، والشيخ والمُريد والمحب والدرويش، والمجذوب، جميعهم اجتمعوا على حب آل بيت النبي ومدحهم والثناء عليهم.
فتجد في وجههم وكلماتهم علامات وآيات، بل ومبشرات في الكثير من مناحي حياتك، أحيانا تتساءل كيف عرفوا ما يدور في خاطرك، وكيف اطلعوا على خبايا روحك وخلجاتها، أنَّى لهم قراءة الواقع والمستقبل معاً.
فهناك الكثير من المواقف التي سمعتها وشهدتها بعين رأس كنت في بداية الأمر اسىتغربها واستنكرها وأكاد ألا أصدقها مطلقاً، أو ربما صدقت بعضها ورفضت البعض الآخر، حتى إذ بصوت يقول لي يا بنى لا تنكر شيئا فإنها علوم وغيوب، والغيب الذي هو لك ربما يكون معلوماً لغيرك، فإنه سبحانه وتعالى علام الغيوب، وليس علام الغيب، فلا تنكر شيئا لكن فقط خذ ما يكفي روعك وعقلك .. فربما فتحت لك الشواهد والمشاهد، فترى ما حُجِب عنك.
في صيف عام 2007، كانت أجواء الصراعات بين نظام الرئيس الأسبق الراحل مبارك والمعارضة مشتعلة، لا سيما فيما يخص قضية توريث الحكم لجمال مبارك.
ولم يكن يمر يوم إلا وهناك حادثة أو حديث مرتبط بهذا المشهد العبثي .. كنت حينها ارتبطت ببعض أهل الصلاح الذين أثق في خطاهم وسيرتهم ومسيرتهم، ولم يتركوا جلسة من جلساتهم إلا وألقوا في روعنا الكثير عن هذا البلد الطيب، حاضره ومستقبله، ضعفه وقوته.
كانت جماعة الإخوان الإرهابية في تلك المرحلة على قمة مشهد الصراع بين المعارضة ونظام مبارك، ونشرت حينها مجموعة من التقارير على صفحات مجلة "أكتوبر"، تكشف بعض تفاصيل الكيان الإخواني من الداخل، وبعضها مرتبط بمحاولة اختراقهم للأجهزة الأمنية في مصر، كنوع من الاستعداد للهيمنة على الدولة المصرية ومؤسساتها، في إطار ما يسمى بمرحلة "التمكين".
لم أكن في تلك اللحظات أسعى مطلقا لصناعة كتاب يضم غالبية ما دونته حول الجماعة وتفاصيلها الداخلية، وكنت أرى أنه لا يزال أمامي الكثير لاتخاذ مثل هذا القرار، وأن الوقت لم يحن بعد.
لكن خلال صدفة جمعتني بأحد الصوفيين الذين أظنهم على خير، تبدلت قناعاتي، وكان اللقاء بمثابة نقطة تحول داخلية، كي أتجه لصناعة كتاب يكشف الأسرار الداخلية للتنظيم، تحت عنوان "دولة الخلافة الإخوانية.. أسرار ووثاثق تكشف الجماعة من الداخل"، الذي صدرت طبعته الأولى في يناير 2010، والثانية في 2012، وكانت أكثر ترويجا وتأثيرا حينها.
"يا مولانا مهما اخترق الإخوان مؤسسات الدولة وكياناتها، من الصعب أن يكونوا في قلب المشهد، هما مجرد كومبارس وأداة يحركها نظام مبارك لتمهيد حكم الوريث، فالدولة الآن تتهيأ والمعارضة باطنها يخالف ظاهرها".
قاطعني مستوقفا بيده، "من قالك ذلك"، "اسمع مني ولا تقاطعني فسأبوح لك بأسرار ستسمعها لأول مرة ولن يحدث بها أحد قبلي أو بعدي".
كانت تلك كلمات البداية لحوار بيني وبين الشيخ الصوفي قبل أن يلقي في روعي أسراره التي لا أخفي أنها أخذتني من نفسي وروحي، فلم تستقبلها مسامعي بقدر ما كانت تٌقذف في قلبي.
فقال ليِّ مبتسما:
جمال مبارك لن يحكم مصر، ولن يشم رائحتها..
وسيسقط نظام مبارك بكل أركانه، وسيحكم مصر رجل من الإخوان، اسمه محمد، بل ستسقط أنظمة عربية أخرى، بفعل الإخوان وحلفائهم، فالأمر أكبر مما يتخيله الناس.
بدا على وجهي الاندهاش، وكأني أسمع خيالاً لا ولن أصدقه لو أقسم لي على الماء.
قال ولكن ..
هي بداية النهاية، فلن يحكموا مصر سوى عامٍ واحدٍ، وسيأتي رجل "مؤيد" من داخل الجيش، يقلب عليهم الطاولة، وسيكون سببا في انتزاعهم من المنطقة العربية بالكامل، وسيقضي عليهم نهائيا، وسيعيد لمصر دورها وقوتها داخليا وخارجيا.
(لم يفسر لي معنى "مؤيد".. هل "مؤيَّد" من السماء أم من الأتباع).
قلت له: هما الإخوان هيسكتوا بكل سهولة؟
قال: لالالا هيقلبوها "دم" في كل مكان.. ناس كتير هتموت على أيديهم.
قلت له: وهو حضرتك بتقول إيه أنا مش فاهم حاجة؟
تجاهل فعلي واستكمل قائلا:
- رغم انتصاراته ونقائه سيُحارب من الداخل أكثر من الخارج، لكنه سيستمر في طريقه، وسيجعل مصر نقطة ارتكاز ومحور الهيمنة على الشرق الأوسط.
- ستتبدل الأنظمة العربية، وسيتأخر سقوط البشير، وسيكون للسودان شأن عظيم بعدها، بل وستعود العلاقة بين القاهرة والخرطوم إلى سابق عهدها إبّان الملكية.
(لم يفسر لي هل تتوحد مصر والسودان، أم تتوثق العلاقات اجتماعيا ودبلوماسيا).
كنت منتبهاً وكأني أرى المشهد بعيني ولم أسمعه بأذني.
عندما قال لي ستنتهي أمريكا وهيمنتها قريبا، وسينهار المشروع الصفوي الإيراني، ودولة "الملالي"، وستسقط دولة عربية كبرى كانت سببا رئيسيا في تدمير وعي المسلمين (سماها طبعًا).
وللحديث بقية ...