تنشر أضرحة الأولياء في كل القرى المصرية تقريباً، وارتبطت هذه الأضرجة بـ "الموالد"، حيث عشرات الطقوس التي تبهج الأطفال، وتشغل الكبار وتمتعهم، فمن ألعاب السيرك والمراجيح، إلى حلقات الذكر وإنشاد المنشدين، وقدرتهم العجيبة في السيطرة على وجدان وعقل من يسمعهم، ولأن قريتنا حتى سنوات قليلة جداً مضت، كانت بلا مقابر لأسباب يطول شرحها وليس مكانها الآن، فلم يكن لدينا ضريح لواحد من الأولياء، حيث كان ضريح جدنا الأكبر وسط مقابر القرية التي كان أجدادنا يسكنونها منذ مئات السنين، ورغم ذلك كانت "نداهة الموالد" تجذبنا نحن الأطفال إلى القرى القريبة والبعيدة سيرًا على الأقدام، ومنذ ذلك الزمان، الذي صار بعيداً جداً بعدد سنوات العمر، ربطتني أواصر الإعجاب إلى حد الافتتان بعالم الصوفية والمتصوفين، والغريب أن ذلك الإعجاب ارتبط بنوع خاص من" الشغب الحميد" مع المتصوفة، وخاصة من يبتعد منهم عن النهج القويم للصوفية ويعمل على تحويله من تربية النفس والقلب إلى مجرد طقوس وحركات لا معنى لأغلبها من الإعراب، فالصوفية الحقة تضع صاحبها في مقام الإحسان، ذلك الإحسان الذي يجعلنا نعبد الله وكأننا نراه، فإن لم نكن نراه فإنه يرانا.
والصوفية ليست حكراً على المسلمين، ولكنها موجودة في الأديان الأخرى سواء منها السماوية أو الأرضية، فكثير من ملامح التصوف موجود في الرهبنة البوذية والكهانة المسيحية والطقوس الهندية، ويختلف الباحثون في أصل كلمة "صوفية" فالبعض يرجعها إلى كلمة "سوفيا" اليونانية والتي تعني "الحكمة"، والبعض يرجعها إلى أهل "الصُفّة" من رقيقي الحال، الذين لجأوا إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة المنورة، والبعض يرجعها إلى "خشونة الصوف"، والبعض يرجعها إلى "الصفاء"؛ ولُب كل هذه الأوصاف يكمن في الزهد والتجرد، أو بتعبير الصوفية، الانسلاخ من الكل إلى الذوبان في الواحد.
وقد انتشرت حركة التصوف في العالم الإسلامي كنزعات فردية مع بداية القرن الثالث الهجري من خلال دعوات إلى الزهد في مباهج الحياة، مع الاستغراق في العبادة الخالصة لله، ثم تطورت هذه النزعات الفردية لتصبح جماعات، وكل جماعة تحولت إلى طريقة تسير على درب واحد من كبار الأولياء : مثل "الرفاعية" أحمد الرفاعي،" الشاذلية" الحسن الشاذلي،" القادرية" عبد القادر الجيلاني،" الأكبرية" الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي؛ وقد توالدت تلك الطرق الكبرى إلي تفريعات أصغر حتى صارت الطرق الصوفية الآن أكثر من 70 طريقة تنتشر في كل العالم الإسلامي، وهنا تكمن بؤرة الشغب في نفسي، حيث جاء في الحديث الشريف، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على نيف وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قيل ومن هي يا رسول الله ؟ قال : من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي". رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم.
.
وعندما وضعت هذا الكلام في صيغة سؤال وجهته إلى الراحل الكبير الدكتور أبو الوفا التفتازاني، شيخ مشايخ الطرق الصوفية محاولا إسقاط هذا الحديث الشريف على عدد الطرق الصوفية في العالم الإسلامي، غضب الرجل، وكاد أن ينهي الحوار - رحمه الله.
والدكتور التفتازاني صاحب علم وصاحب طريقة أيضًا،
فقد وُلد في قرية الغنيمي في الشرقية 14 أبريل 1930 ، وكان والده الشيخ محمد الغنيمي التفتازاني مدرسًا للغة العربية، وشيخا لطريقة صوفية، وصديقا لشيخ الأزهر الدكتور مصطفى عبد الرازق، الذي نصح الفتى أبو الوفا بأن يلتحق بقسم الفلسفة في كلية آداب القاهرة، ليتخرج في عام 1950، ويتخصص في الفلسفة الإسلامية، حيث حصل على رسالة الماجستير في عام1955 عن ابن عطاء الله السكندري وتصوفه، ثم حصل على رسالة الدكتوراه في عام 1961 عن ابن سبعين وفلسفته الصوفية، وتواصلت مؤلفاته عن التصوف وأعلامه، ومنها ابن عباد الرندي - حياته ومؤلفاته مدخل إلى التصوف الإسلامي - الاسلام والفكر الوجودي المعاصر - المنهج الإسلامي في تدريس الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة، "علم الكلام وبعض مشكلاته" الإنسان والكون في الاسلام ، إلخ ، ليجمع الدكتور أبو الوفا التفتازاني بين التصوف علمًا وطريقاً، وكان رجلاً لين الجانب، بشوشا، حُلو الكلام، وقد تدرج في السلك الجامعي من معيد في آداب القاهرة- إلى عميد لتربية الفيوم، ثم نانباً لرئيس جامعة القاهرة لشؤون الدراسات والبحوث - كما كان عضوًا بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وعضواً في مجلس الشورى وتولى مشيخة الطرق الصوفية لأكثر من عشر سنوات 1983 وحتى 1994
وحصل على العديد من الجوائز والأوسمة مثل جائزة الدولة التشجيعية عام 1975 - ، وسام العلوم والفنون من الطبقة الثانية عام 1983، جائزة الدولة التقديرية عام1985 ، وسام تمغة امتياز أرفع وسام باكستاني من رئيس باكستان عام 1989.
وقبل ما يقرب من الثلاثين عامًا أتيحت لي فرصة التحاور مع الدكتور التفتازاني - رحمه الله وكان اللقاء في مقر المشيخة بالقرب من مقام الإمام الحسين، وكان الدكتور التفتازاني قد خرج لتوه من وعكة صحية صعبة جدا "جلطة"، تركت أثرًا كبيرًا على حركته، ورغم ذلك وافق على استقبال صحفي شاب غير معروف في أوساط الطرق الصوفية، وعندما أستعيد الآن أحداث وذكريات هذا اللقاء، أجد العديد من الدروس والعبر التي تعلمتها، وأفادتني في مشواري الصحفي، حيث يجب ألا ننساق وراء "نزق الشباب"، والسعي إلى الحصول على "حوار ساخن"، يجذب القارئ، بغض النظر عن أي أخطاء يمكن ارتكابها في سبيل هذا الحوار، فقد كان الرجل - رحمه الله - في مرحلة النقاهة من وعكته الصحية الكبيرة، ولكني ارتكنت في حواري معه إلى صفة "العالم"، وابتعدت عن أي صفة أخرى سواء الدرويش، أو الشيخ، إلخ، ولذلك انهالت أسئلتي تحمل الكثير من الشغب، ورغم أقصى درجات الأدب والاحترام التي كنت أوجه بها أسئلتي، إلا أني أراها الآن قاسية، خاصة في ظل الظروف التي كان يعاني منها العالم الكبير د.التفتازاني.
بدأت بسؤال حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن تفرق الأمة على نيف وسبعين فرقة، ثم توالت الأسئلة عن التوريث في الطرق الصوفية، فالشيخ يورث ابنه رغم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن ذلك صراحة، ثم سؤال عن هالات التوقير والتعظيم والاحترام المبالغ فيها من المريدين للشيخ، رغم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام - لا تعظموني ولا تسيّدوني كما كانت تفعل الأعاجم، ثم سؤال عن ذلك الإسراف إلي حد التُخمة، رغم أن لُب التصوف وقلبه هو الزهد والتجرد، ثم سؤال عن تلك الطقوس التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي يؤديها غالبية المتصوفة، مما جعل دعاة التشدد السلفي يتهمون المتصوفة بـ "الكفر"، وغير ذلك من الأسئلة التي كان الدكتور أبوالوفا التفتازاني يجيب عنها بكثير من الحِلم، وقليل من الغضب، مما جعله يؤكد بأن كل سؤال، من هذه الأسئلة يحتاج إلى كتاب كامل للإجابة عنه، وأن كتبه تحوي الكثير من هذه الإجابات، وكنت قد قرأت بعضها، وربما غفر لي عند الرجل أنه وجدني أتحدث بكثير من الحب، بل والعشق والتوقير، عن كثير من رموز التصوف مثل الحلاج، الشبلي ، محيي الدين بن عربي، ابن عطاء الله السكندري، الإمام الغزالي، شمس الدين التبريزي، جلال الدين الرومي، عمر بن الفارض إلخ.
وبعد نهاية الحوار الرسمي مع شيخ مشايخ الطرق الصوفية الدكتور أبوالوفا التفتازاني، راح الرجل يتحدث بكثير من الحِلم مع ذلك الشاب المشاغب عن الصوفية كفكر وسلوك، أنها نسعى فى مراتبها العليا إلى قتل الشهوات أو حتى تحجيمها، وأن التصوف الحقيقى يقوم على الزهد والتأمل والحب والتوق للمحبوب، وعندما وجدنى الرجل أستنكف أن أسير خلف شيخ الطريقة بلا رويّة أو بصيرة ، بل زدت على ذلك قائلاً ما الفرق بين من يسير مغيبا خلف "شيخ الطريقة" ، ومن يسير مغيباً خلف "أمير الجماعة المتطرف" ، ورغم أن المقارنة قاسية ومزعجة ، إلا أن الرجل رحمه الله قال بكل الود إن الفروق كثيرة وأكثر من أن تحصى ، فنحن فى التصوف نسعى إلى الحب الإنسانى ، وتقوم دعوتنا على التوادد والتراحم ، واحترام الأئمة والسير على نهجهم ، فى وسطية الدين ودعوته إلى المحبة والسلام ، وسألنى الدكتور التفتازانى عن أكثر ما لفت نظرى فى قراءاتى للصوفية ، فقلت له أشعار الحلاج وعمر بن الفارض ، وكتاب "المواقف" لمحمد بن الجبار النفّرى ، الذى امتلك عليّ فؤادى ، وخاصة جملته البديعة "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" ، وأضفت أن الدكتور مصطفى محمود قد نجح فى تحليل بعض "مواقف النفّرى" ، بطريقة سهلة وميسرة فى كتابه المهم "رأيت الله" ، فابتسم الدكتور التفتازانى رحمه الله ، وقال إن الصوفى الحقيقى يرفض تلك الطقوس والأفعال التى ترفضها أنت ، ولكن الطرق الصوفية في العالم الإسلامى ، تضم عشرات الملايين من المسلمين ، وكل واحد فيهم لا يتعمد أبداً إتيان تلك الأفعال ، والكثيرون يقلعون عنها عندما نلفت نظرهم لذلك ، وبين تلك الملايين الكثيرة من المتصوفة ، يوجد الكثير من البسطاء الذين يعيشون على الفطرة و"تجذبهم الحالة الصوفية" ، ولكن لعلك لاحظت وجود الكثير والكثير من صفوة المجتمع ونخبة المثقفين والمفكرين ، موجودين معنا فى الطرق الصوفية ، ولعلك رأيتهم وهم يخدمون إخوتهم بعيداً عن بهرجة المناصب والألقاب ، وكأنهم بانخراطهم فى النشاط الصوفى يعودون لفطرتهم الإنسانية ، التى فطرهم الله عليها.
وبعد أن أثقلت على العالم الكبير الدكتور أبوالوفا التفتازانى ، وبعد أن تعلمت من حوارى معه الكثير والكثير من الدروس الإنسانية والمهنية مازلت حتى الآن ورغم مرور السنين أتذكر ذلك الحوار ، الذى جعلنى أكثر عشقاً ومحبة للصوفية ولأعلامها الكبار ، أصحاب المنتج الفكرى والشعرى العظيم ، وأردد فى نفسي كلماتهم البليغة "من ذاق عرف" ، فربما إذا ذاقوا حلاوة الوجد والصبابة ، عرفوا وارتقت معارفهم ، فصاروا أكثر حباً وذابوا عشقاً ، وصاروا فى "المعيّة" ، يرون ما لا نراه ، أو كما قال شاعرهم "
قلوب العاشقين لها عيون ، ترى ما لا يراه الناظرون
وأجنحة تطير بغير ريش إلى ملكوت إله العالمين
.
ورغم تقدم العمر وثقل السنين أجدنى مازلت ذلك العاشق المفتون بالصوفية وبأعلامها الكبار ، ومازلت فى ذات الوقت ذلك المشاغب ، الذى مازالت أسئلته القديمة تطارده حتى الآن ، ولكنى أواجه تلك الأسئلة بكلام المتصوفة "كلنا إما معافى أو مبتلى ، فاحمدوا الله على العافية ، وارحموا أهل البلاء" فكلنا أمام البلاء والعافية ، لابد وأن نسعى ما بين الحمد والرحمة ، لعلنا نقف فى "مقام الإحسان" ، لنربى النفس والقلب ، نجلو عنهما الرذائل ، لنغترف بهما الفضائل .