عرف المصري القديم جميع وسائل النظافة، فلقد كانت من أول الأشياء التي تلقى اهتماما من المصري القديم، حسب ما قاله هيرودوت عن النظافة عند المصريين القدماء " إنها قبل أن تكون سبيلاً للصحة العامة فهي عقيدة وشرط أساسي لدخول الأماكن المقدسة ".
فالتطهر عُرف معنويا وعملياً ولغوياً في الحضارة المصرية القديمة، وصاحبة منظر صب الماء دليل على النظافة ومثل المصري القديم معنى كلمة تطهر بهذا الشكل " - " وتنطق "wcb"" وعب " – حيث إن حرف " c" ينطق "ع" في الخط الهيروغليفى - وهى تعنى يتطهر أو طاهر، ونلاحظ وجود عنصر الماء في الكلمة من تلك الجرة التي ينسكب منها الماء على القدم وهى تحديد دقيق جدا من المصري القديم، حيث اختار القدم عن باقي أجزاء الجسد في التعبير عن معنى التطهر، حيث إن القدم هي التي كانت أول شيء تطأ الأماكن المقدسة في مصر القديمة كالمعابد وغيرها ، كذلك صور في الشكل الثاني الرجل الجالس وفوق رأسه جرة الماء تنسكب على يديه دليل على تمثيله في وضعية التطهر، بل زاد على هذين الشكلين علامة الماء بهذا الشكل كمخصص – مخصص عبارة عن علامة توضع في نهاية الكلمة لتوضيح المعنى ولا تنطق – بهذا الشكل - وأيضاً تنطق " وعب" وهنا تدل على الماء وهى عبارة عن ثلاث موجات من المياه وضعت فوق بعضها لتعبر عن أمواج المياه دليل على الطهارة. ومن الجميل في الكتابة الهيروغليفية أنه استخدم العلامات في أماكن مختلفة، فهذه العلامة إذا جاءت لوحدها تنطق " mw" "مو" بمعنى مياه، وسنلاحظ أن نطقها عند المصري القديم لم يبعد عن نطقها الحالي فهي أصل الكلمة ( مو– مياه).
ومن ثراء اللغة المصرية القديمة أيضاً أنه استخدم نفس الكلمة " وعب" ولكن هذه المرة بمخصص رجل جالس هكذا " وأيضاً تنطق " وعب" ولكن بمعنى الكاهن أو الكاهن المطهر، ويدل ذلك على أن أهم أعمال الكاهن هي الطهارة سواء كانت الشخصية لنفسه، أو طهارة المعبد وتمثال المعبود والتطهر في البحيرة المقدسة قبل الدخول للمعبد.
إذن من كل لك نرى أن الطهارة أصبحت شيئا رئيسيا عند المصري القديم شملت جوانب الحياة كافة عنده لتدل على النظافة سواء كانت طهارة شخصية أو طهارة ملابس، أو طهارة المنزل، أو المعبد، أو أي مكان.
حرص المصري القديم أن تكون الطهارة الركن الأساسي في حياته، لأنها نابعة من المنطلق الديني، فالطهارة والنظافة ليست له فقط وإنما كانت له وللمعبود والذي كان يمثله في رمز التمثال للمعبود، والذي كان يتعرض ذلك التمثال من ضمن شعائر المعبد اليومية إلى عملية الغُسل صباحاً ومساء، فيقوم الكاهن بغسل وتنظيف تمثال المعبود.
لقد حافظ المصري القديم على نفسه من الأمراض والأوبئة وسلك منهج التطهر الشخصي والعام، وخصص في بيته ركناً للحمامات، وزاد عليه البحيرة التي كانت تصاحب المعابد التي كان يطلق عليها البحيرة المقدسة للقيام بمراسم الاغتسال والتطهر، ووجدنا الكثير من المناظر التي تعبر عن صب الماء لتكون دليلاً على التطهر، ولا يدهشنا أن نرى المنظر المعتاد في القرى والريف من استخدام الطست والأبريق في غسل اليدين والنظافة، إنما ما هي إلا عادة مصرية قديمة.
غسل اليدين
هذا التطهر قد نشأ عن فكرة دينية جعلته مقدساً، فقد كان هنا كطهارة لليدين والقدمين وسائر أعضاء البدن. وهنا كنظافة خاصة للجسم تميز بها أفراد الشعب المصري القديم. وعرفت هذه الطقوس وسجلت على القطع الأثرية منذ عهد الملك نعرمر حيث يقف الملك حافي القدمين وخلفه يقف رجل يحمل له الصندل الملكي وإناء الماء دليل على الطهارة، حيث إنه عندما كان يحارب الشمال ويسعى للوحدة فهو في عمل ديني مقدس، ويقف أمام المعبود حورس رمز الشمال، أي أنه في حضرة المعبود، فقام بخلع صندله واغتسل وتطهر من أجل الحرب ، فلم تقف النظافة عند حد النظافة الشخصية بل تعدت كل مناحي الحياة. إذن ففكرة النظافة والتطهر نجدها تظهر عند المصري القديم منذ بداية عصر الأسرات، ولعل نموذج صلاية نعرمر دليل تاريخي مهم في الحرص على التطهر والنظافة.
صلاية نعرمر ويقف الملك حافى القدمين وخلفه حامل النعال وإناء الماء
فلم تقتصر النظافة والطهارة عند المصري القديم عند حدود الجسد فقط، بل تخطته إلى طهارة وصفاء ونقاء الروح، تلك الروح التي سوف تصعد للعالم الآخر التي لا بد وأن تكون نقية طاهرة صافية مما يمكن أن نصفه بطهارة النفس، وهى طهارة معنوية حرص المصري القديم عليها، ولعل مشهد محاكمة الموتى في العالم الآخر ومرور المتوفى في قاعة المحكمة وقيامه بعملية الإنكار السلبي للأفعال السيئة خير دليل على هذه الطهارة المعنوية للروح، والذي يتمثل في عدد من الاعترافات السلبية يحاول فيها الميت وهو يرجو ويتوسل أن يعلن براءته أمام المحكمة حيث يقول " أنظروا لقد جئت إليكم، طالباً العدل، رافضاً للظلم، أنى لم أسئ إلى أحد، أنى لم أجرم في مكان العدالة،
أنى لم أقتل، أنى لم أحرض على القتل، أنى لم أخالف أوامر الإله، لم أسرق ، لم أزنِ، لم أشهد زورًا، لم أتفوه باللعنات، لم أغش في الموازين، لم أخدع أحدا ، لم أتكبر على أحد ، لم أرتكب خطيئة تجاه أحد أو أتسبب في شر لأحد، لم أقم بالتصنت على أحد، لم أتدخل في شؤون الغير، لم أغضب بلا قضية عادلة، لم أتسرع بلا ضرورة، لم أعارض عائلتي، لم أسبب الألم أو الخوف لأحد، لم أتسبب في بكاء أحد، لم أتسبب في جرح أحد، لم أقم بإشعال فتنة أو نزاع، لم أستولِ على أملاك مسكين، لم أقتطع من أرض جاري لأضيف لأرضى، لم أطرد الماشية من مراعيها، لم أبعد اللبن عن أفواه الأطفال، لم أقطع مجرى مائيًا أو قناة، لم ألوث مياه النيل، أنا طاهر طاهر طاهر.
صب الماء على الملك برمز علامة العنخ (الحياة)
وهكذا لم تكن الطهارة في فكر المصري القديم طهارة شخصية فقط، بل طهارة دينية معنوية شملت أيضا، كما أشرنا، طهارة المعبودات وتنظيف رموزها وتماثيلها داخل المعبد وتزيينها وتبخيرها لتخرج إلى جموع الشعب المنتظر ظهور المعبود في الاحتفالات والمراسم نظيفاً في أبهى حِلة، كذلك، كما أشرنا، شملت تطهر الملوك في كل عمل يقوم به الملك من مراسم وبناء المعابد وتشييدها والدخول للمعبد، وحتى في تنصيبه لابد أن يتطهر في البحيرة المقدسة.
كاهن يقوم بتطهير مومياء المتوفى
حتى الأموات حرص المصري القديم على استخدام الماء كقربان وشعيرة من شعائر التطهر، حيث يقوم قبل عملية تحنيط جثة المتوفى بغسلها بالماء وملح النطرون وتطهيرها واستخراج الأحشاء منها، ووضع ملح النطرون داخل الجثة لمدة أربعين يوماً، ولا ندهش عندما نعرف أن ذكرى الأربعين للمتوفى الآن جاءت من عند المصري القديم الذى كان يترك الجسد به الملح لمدة أربعين يومًا، بل أكثر من ذلك ما نقوم به الآن في عيد الأضحى بحفظ جلود الأضاحي بوضع الملح عليها لتمتص الماء، جاءت من الموروث المصري القديم بامتصاص الماء عن طريق الملح من داخل الجسد.
وعلى نطاق النظافة الشخصية للفرد العادي داخل المجتمع المصري القديم، فكما أشرنا، حرص على النظافة الشخصية بدءًا من غسل اليدين، ولقد خصص لها طقسة سُمّيت بطقسة "سكب الماء" وجاءت في العديد من النصوص الشخصية والدينية، ولعل أشهرها ما جاء في قصة الملاح الغريق عندما كان يتحدث لمندوب الملك ويوجه له الكلام قبل أن يذهب ويخبر الملك ويقول له " اغتسل – تطهر، ضع الماء على أصابعك" دليلٌ على أنه قبل أن يذهب للملك عليه أن يكون طاهرًا. كذلك حرص المصري القديم على النظافة الشخصية في المراحيض والحمامات، سواء الحمامات الشخصية أو العامة، وحرص أن يكون في أبهى حِلة ومنظر، فنجده يهذب شعره ويحلق ذقنه، ووجدت فئة الحلاقين في مصر القديمة وصورت مناظرها على العديد من الجدران لتدل على النظافة.
حلاق يقوم بقص الشعر
كذلك حرص المصري القديم على الوقاية من الأمراض المُعدية عن طريق مجموعة من الوصفات المختلفة لإبعاد الحشرات الضارة عنه وعن منزله، وتجنب الأمراض التي تسببها تلك الحشرات، كالبعوض والذباب والثعابين والفئران، وذلك بإطلاق البخور وحرق مجموعة من الأعشاب، ولعل ما يستخدمه الإنسان المصري الحديث في إبعاد الثعابين عن المنزل يعود إلى عادة مصرية قديمة وهى أننا نجد في القرى والأرياف يحرقون الشيح أو يضعونه في قطعة شاش لما لرائحته النفاذة من القدرة على طرد الثعابين، ولعلها عادة مصرية قديمة، بل أكثر من ذلك، فنجد في قرانا المصرية ومدننا الحديثة نستخدم ما نسميه الناموسية لإبعاد الناموس وعدم لدغه للإنسان وهو نائم، وهى عادة مصرية قديمة، حيث إن المصري القديم كان يستخدم شباكه للصيد في الصباح ثم يستخدمها في عمل ناموسية له حول سريره بالليل أثناء النوم لتقيه شر لدغات الناموس.
وكانت النظافة والزينة وجهين لعملة واحدة عند المصري القديم، فلقد حرص على التزين والظهور بمنظر نظيف في الحياة العامة والاحتفالات، حتى أن أدوات الزينة كانت تخصص لها حقيبة مستقلة، وحرص الملوك والملكات على الظهور بأبهى حِلة، ولعل من أجمل المشاهد في ذلك منظر تصفيف الشعر من قبل الخادمة للأميرة "كاويت" من عصر الدولة الوسطى، ونجد فيه قمة الروعة والجمال الفني من تمثيل رقة ودقة الشكل والتزيين وتصفيف شعر الأميرة، ونجد أحد السقاة يصب لها مشروبًا.
تصفيف شعر الاميرة كاويت
كذلك حرص المصري القديم على العطور وأن يظهر برائحة جميلة، فلقد عرف العديد من الدهانات والزيوت العطرية التي تبعث لديه روح السعادة، حتى في احتفالاته العامة كانت الفتيات تجلس وتضع فوق رأسها قمعًا من الدهن العطري تفوح منه رائحة عَطِرة تملأ المكان، وليس غريبًا أنها الفكرة التي نراها الآن تحت ما يسمى بـ"الفواحة".
فتيات على رؤوسهن اقماع العطور
كذلك كانت العطور تستخدم في العلاجات، وحرص الأب عندما كان ينصح ابنه بأن يتزوج أن يهتم بزوجته وكسوتها وعطورها، وها هو الحكيم بتاححوتب من عصر الأسرة الخامسة ينصح ابنه عندما يقبل على الزواج أن يهتم بالعطور لزوجته فيقول له " إن العطر دواء لجسدها " أي أنه شيء أساسي للمرأة.
وبناء على ما تقدم لم تشهد مصر القديمة ما يسمى بالوباء كالطاعون والكوليرا وغيرها، ومردود ذلك أن النظافة كانت هي الأساس والخط الدفاعي الأول منذ ظهور تلك الأوبئة التي لم تعرض المصريين القدماء إلى تلك الأوبئة، وإنما ظهر في مصر حالة أخرى وهى المجاعة التي تمثلت في انحسار نهر النيل وامتناعه عن الفيضان، فقلت الأطعمة، ولكن لم ينتشر الوباء، أشهر تلك المجاعات التي حدثت في عهد الملك زوسر من عصر الأسرة الثالثة، عندما امتنع النيل عن الفيضان ولم يقف الملك عند هذا الحد، بل تقصى عن الأمر بنفسه وتحرى السبب عن طريق وزيره إيمحتب الذى قال له إن الذى يتحكم في منابع النيل هو الإله خنوم، وهو غاضب، وأمر الملك بتقديم القرابين له.
وقوة مصر القديمة في محاربة الأمراض ظهرت جليًا في تفوق المصري القديم في الطب، فلدينا العديد من البرديات الطبية التي تقدم الوصفات العلاجية لأى مرض ظهر في مصر القديمة، ومن هذه البرديات الطبية نذكر منها على سبيل المثال بردية كاهون التي كانت متخصصة في أمراض النساء والطب البيطري، والتي عثر عليها العالم فلندرز بترى بمدينة اللاهون، وبردية إدوين سميث وهاريس وايبرس الطبية وغيرها، تلك البرديات الطبية التي عالجت كل الأمراض العادية والمستعصية سواء بطريقة علمية أو سحرية .
جزء من بردية ايبرس الطبية
كانت كل وصفة جديدة في البردية تبدأ بكلمة " كت " وتعنى " أخرى " أي وصفة طبية أخرى جديدة لعلاج مرض جديد، هذه البرديات هي التي شكلت بعد ذلك علم الأدوية والعقاقير على مر الزمان في مصر، فلقد عنونت ودونت البرديات بطريقة رائعة شملت نوع المرض- طريقة الفحص- التشخيص - وصف العلاج - طريقة التحضير- طريقة تعاطي الدواء، فلم تترك شيئا طبيا عن المرض المحدد إلا وتناولته بالتفصيل.