الأحد 29 سبتمبر 2024

«أنا ومبارك».. ننشر فصلًا جديدًا من كتاب «هيكل.. المذكرات المخفية»

فن29-10-2020 | 10:33

تنشر بوابة "الهلال اليوم" فصلاً جديداً من كتاب "هيكل.. المذكرات المخفية" للكاتب الصحفي محمد الباز، والذي جاء تحت عنوان "أنا ومبارك".


قليل من الثقة.. كثير من الريبة

(1)

كانت علاقتى بالرئيس حسنى مبارك محدودة وفاترة، وفى كثير من الأحيان مشدودة ومتوترة، وربما كان أكثر ما فيها – طولا وعرضا – لقاء واحد تواصل لست ساعات كاملة، ما بين الثامنة صباحا إلى الثانية بعد الظهر يوم السبت 5 ديسمبر 1981، أى بعد شهرين من بداية رئاسته، وأما الباقى فكان لقاءات عابرة وأحاديث معظمها على التليفون، وكلها دون استثناء بمبادرة طيبة منه.

ورغم ذلك فإن الحوار بيننا لم ينقطع، وكان صعبا أن ينقطع بطبائع الأمور طالما ظل الرجل مسيطرا على مصر، وظللت من جانبى مهتما بالشأن الجارى فيها

 وعليه فقد كتبت وتحدثت عن سياساته وتصرفاته، كما أنه من جانبه رد بالتصريح أو بالتلميح وبلسانه أو بلسان من اختار للتعبير عنه أو تطوع دون وكالة.

(2)

بدأت متابعتى للرئيس حسنى مبارك من بعيد بالمسافة، من قريب بالإهتمام، عندما ظهر على الساحة العامة لأول مرة قائدا لسلاح الطيران فى الظروف الصعبة التى تعاقبت بعد أحداث سنة 1967، ولم يخطر ببالى وقتها لحظة واحدة أن هذا الرجل سوف يحكم مصر ثلاثين سنة، ويفكر فى توريث حكمها من بعده لابنه.

وعندما أصبح مبارك رئيسا بعد اغتيال الرئيس أنور السادات فى أكتوبر 1981، رحت ونحن لا نزال فى سجن طرة، أذكر نفسى وغيرى بالمثل الفرنسى الشائع الذى استخدمه الكاتب الفرنسى الشهير " أندريه مولر عنوانا لإحدى رواياته، وهو أن "غير المتوقع يحدث دائما".

كنت أعرف أن جمال عبد الناصر هو الذى نقل اللواء محمد حسنى مبارك من موقعه فى كلية الطيران إلى رئاسة أركان حرب الطيران، وأنا حضرت جلسة كان جمال عبد الناصر يريد لموقع ما قيادة ووصف مبارك أنه وطنى.

وللأمانة فقد سمعت الفريق محمد فوزى وزير الدفاع يقدم مبارك عند جمال عبد الناصر عندما رشحه له رئيسا للأركان فى سلاح الطيران أثناء حرب الاستنزاف، وكانت شهادة الفريق محمد فوزى تزكية لما رشح له.

ثم كان أن أصبح الرجل بعد أن اختاره الرئيس السادات قائدا للسلاح، موضع اهتمام عام وواسع، لأن سلاح الطيران وقتها كان يجتاز عملية إعادة تنظيم مرهقة، وكانت هذه العملية تجرى بالتوافق مع قيام السلاح بدوره فى حرب الاستنزاف.

أول ما التقيت بمبارك كان لقاء مصادفات عابرة، فقد كنت على موعد مع وزير الحربية، وهو وقتها الفريق محمد أحمد صادق، وعندما دخلت مكتبه مارا بغرفة ياوره – كان بعض القادة فى انتظار لقاء الوزير وكان بينهم مبارك وأتذكره جالسا وفى يده حقيبة أوراق لم يتركها من يده، حين قام وسلم وقدم نفسه، وبالطبع فإننى صافحته باحترام، قائلا له فى عبارة مجاملة مما يرد على أول لقاء: إن دوره من أهم الأدوار فى المرحلة المقبلة، والبلد كله ينتظر أداءه.

رد: إن شاء الله نكون عند حسن ظن الجميع.

سألت الفريق صادق عن مبارك وهل يقدر؟

قال لى: إنه الضابط الأكثر استعدادا فى سلاح الطيران الآن بعد كل ما توالى على قيادة السلاح من تقلبات.

وقال أيضا: أول مزايا مبارك أنه مطيع لرؤسائه، ينفذ ما يطلبون، ولا يعترض على أمر لهم.

(3)

المرة الثانية التى قابلت فيها مبارك كانت أثناء معارك حرب أكتوبر 1973، وكانت هى الأخرى لقاء مصادفات عابر، فقد ذهبت إلى المركز رقم 10 وهومركز القيادة العامة للمعركة، وكنت هناك على موعد مع القائد العام الفريق أحمد إسماعيل، وكنا فى اليوم الخامس للحرب (12) أكتوبر، وكان اللواء مبارك قائد سلاح الطيرن هناك.

أقبل نحوى بخطى حثيثة، وعلى ملامحه اهتمام ملفت يسألنى: كيف عرف الأهرام بتفاصيل المعركة التى جرت فوق قاعدة المنصورة، وكان هو موجودا فى القاعدة، وقابل طيارا إسرائيليا أسقطت طائرته، وجئ بالطيار الأسير لمقابلة قائد الطيران المصرى، ودار بينهما حوار، قال فيه مبارك للطيار الأسير: إنه تابع سربه أثناء الاشتباك، ولاحط أخطاء وقع فيها، وسأله ماذ جرى لكم؟ كنا نتصور الطيارين الإسرائيليين أكفأ... فهل تغيرتم؟

ورد الطيار الإسرائيلى قائلا: لم نتغير سا سيدى ولكن أنتم تغيرتم.

سألنى مبارك وهو يمشى معى فى الممر المؤدى إلى مكتب الفريق أحمد إسماعيل بإلحاح: كيف عرفنا بهذه الحكاية؟ مع أن المعركة جرت فى المساء أول أمس، وهو نقل تفاصيلها على التليفون للرئيس السادات أمس، ثم قرأها كاملة فى الأهرام، وهو لم يحك إلا للريس وحده، فكيف عرفنا إذن؟

قلت: سيادة اللواء أليست المسألة واضحة؟ عرفنا من الرئيس نفسه.

رد ودرجة الدهشة عنده تزيد: من الرئيس نفسه؟ كما نقلتها لها بالحرف؟ ... ياه ده أنتم ناس جامدين أوى.

فى أحد أيام شهر مارس من العام 1975 قضيت مع الرئيس السادات الصباح بأكمله فى استراحة القناطر، ومن الساعة العاشرة إلى الساعة الثالثة بعد الظهر، وكان مبارك موجودا على مجرى الحوار، وليس فقط على شاشة الرادار.

قال لى الرئيس السادات فجأة أنه يجد نفسه حائرا بشأن منصب نائب الرئيس فى العهد الجديد بعد أكتوبر، وأن الحاج حسين ( يقصد حسين الشافعى والذى يشغل بالفعل منصب نائب الرئيس) لم يعد ينفعه.

أضاف السادات: بصراحة جيل يوليو لم يعد يصلح، والدور الآن على جيل أكتوبر، ولابد أن يكون منه ومن قادته اختيارى لنائب الرئيس الجديد.

وقال أيضا: جيل أكتوبر فيه خمسة من القيادات، أولهم وهو أحمد اسماعيل منوفى، والآن أمامى الجمسى وكان مديرا للعمليات أثناء الحرب، وأصبح وزيرا للدفاع بعد أحمد إسماعيل، ثم محمد على فهمى قائد الدفاع الجوى، ثم حسنى مبارك قائد الطيران، ثم قائد البحرية ( أشار إليه دون اسم) وهو يقصد الفريق فؤاد ذكرى.

وأضاف : لابد أن يكون اختيارى ضمن واحد منهم.

رددت عليه بعفوية متسائلا: ولماذا يحشر نفسه فى هذه الدائرة الصغيرة؟

رد بطريقته حين يريد إظهار الحسم: أنت تعرف أن الرئيس فى هذا البلد لخمسين سنة قادمة لابد أن يكون عسكريا وإذا كان كذلك، فقادة الحرب لهم أسبقية على غيرهم.

وقلت والحوار تتسع دائرته: إن أكتوبر حرب كل الشعب، ثم إنك قلت لى الآن اعتزامك تكليف وزير الداخلية اللواء ممدوح سالم برئاسة الوزارة، وأخشى أنك تكون قد بولست " من البوليس" الوزارة، ثم إنك بمبارك نائبا لك تكون قد " عسكرت" الرئاسة، وربما يصعب على الناس قبول الأمرين معا فى نفس الوقت.

رد قائلا: أنا مندهش لترددك فى إدراك أهمية أن يكون رئيس مصر القادم عسكريا.

وسألنى: ألست تعرف أن ذلك كان رأى المعلم -  يقصد جمال عبد الناصر -  أيضا؟

قلت: إن الظروف ربما تغيرت، وليس لدى تحيز ضد رئيس عسكرى، لكنه مع ضابط بوليس فى رئاسة الوزارة، وضابط طيار فى رئاسة الجمهورية، فإن صورة ما بعد الحرب سوف تبدو تركيزا على الضبط والربط لا تبرره الأحوال، وأما فيما يتعلق برأى جمال عبد الناصر، فإن مسئوليات الحرب وبالتالى منجزاتها تغيرت كثيرا عندما التحق شباب المؤهلات بجيش المليون على الجبهة.

شعرت أنه متمسك برأيه، واقترحت عليه بمنطق حجته: ليكن... لماذا لا تفكر فى الجمسى مثلا؟

رد بسرعة: لا... الجمسى لا يصلح للرئاسة... فلاح وهو ليس من نحتاجه فى منصب نائب الرئيس الآن.

أدركت أن لديه مرشحا، وسألت فيمن يفكر، ورد على الفور على السؤال: بسؤال كما كان يفعل أحيانا: ما رأيك فى حسنى مبارك؟

قلت: إن اسمه لم يخطر ببالى، إنما خطر ببالى مع إصراره على عسكرى من جيل أكتوبر، أن يكون نائبه الجديد إما الجمسى أو محمد على فهمى، فإذا أراد غير هؤلاء، فقد يفكر فى واحد من قادة الجيوش.

ورد: لا... لا أحد من هؤلاء يصلح، مبارك أحسن منهم خصوصا فى هذه الظروف.

سألته بالتسلسل المنطقى للحوار: أى ظروف بالتحديد؟

راح يشرح ويستطرد ويقاطع نفسه، ثم يعود إلى سياق ما يتكلم فيه، ثم يبتعد عنه، وكنت أشعر به كما لو أنه متردد  فى الإفصاح الكامل عن فكره، وإن كانت بعض العبارات قد لفتت نظرى.

قوله مثلا: إن هناك قيادات فى الجيش لم تفهم بعد سياسته فى عملية السلام ومقتضياتها.

وقوله: إن هناك عناصر فى الجيش لا تزال مشايعة لمراكز القوى أو متعاطفة مع سعد الشاذلى.

وقوله وهو يستدعى تجربة شاه إيران محمد رضا بهلوى الذى وصفه بأنه سياسى عقر، وهو فى رأيه أوعى سياسى فى المنطقة، بحكم تجربة طويلة وراءه استفاد منها كثيرا.

سألنى الرئيس السادات: ألا يلفت نظرك أن الشاه عين زوج شقيقته فاطمى " الجنرال محمد فاطمى" قائدا للطيران؟... عنده حكمة فى هذا الاختيار، لأن الطيران يستطيع أن يتدخل بسرعة وبقوة نيران كثيفة لمواجهة أى تمرد أو عصيان أوحتى محاولة إنقلاب.

سألته: هل هذه نصيحة من شاه إيران؟

ارتفع صوته محتجا يسأل: هل هو فى حاجة إلى نصيحة يقولها له الشاه، أليس يكفينا أن نرى ما نرى، ونفهم منه ما نفهم، ثم سألنى كمن يريد إفحام محاوره: جرى لك إيه يا محمد؟

لفت نظرى قول الرئيس السادات: إن مبارك منوفى مثلى وله فى الطيران مجموعات من الضباط مسيطرة على السلاح، والتأمين قضية مهمة فى المرحلة القادمة، بكل ما فيها من تحولات قد لا يستوعبها كل الناس بالسرعة الواجبة.

قلت له: لكن الشاه عين زوج شقيقته قائدا للطيران، وليس نائبا لرئيس الدولة، ومبارك فيما أتصوره لا خبرة له بشئون الحكم فى سياسة كل يوم، خصوصا ما يتعلق منها بمطالب الناس ومشاكلهم.

وسألته: لماذا لا تتيح له فرصة التجربة وزيرا لإحدى وزارات الإنتاج حتى يتفهم الرجل أحوال الإدارة المدنية، وحتى يحتك ولو من باب الإنصاف له بمطالب الناس وحاجاتهم.

رد على: لا... لو فعلت ما تقترحه فسوف أحرقه، الإنجاز السريع فى الوزارات التنفيذية مسألة فى منتهى الصعوبة.

 عدت بالذاكرة إلى تقرير كتبه سامى شرف مدير مكتب الرئيس عبد الناصر للمعلومات بخط يد عن مبارك وما أثير حوله فى مهمة بعينها فى السودان.

قلت للرئيس السادات: لكن مبارك دارت حوله إشاعات فى قضية إغتيال الإمام الهادى المهدى وسوف تعود القضية كلها إلى التداول فى الخرطوم فور إعلان تعيينه نائبا للرئيس.

ورد السادات بطريقته: مشكلتك يا محمد أنك مصدق الإشاعات، ويظهر إن فترة الشهور التى انقطعت فيها عنى قد أبعدتك عن مصادر الأخبار الصحيحة.

قلت بأدب: إن الأخبار الصحيحة متاحة فى كل مكان لمن يبحث عنها.

تصور الرئيس أنه بملاحظته ضايقنى، وإذا بإبتسامة عريضة تملأ شفتيه مرة واحدة كما يفعل حين يريد إظهار سماحته، وأضاف بنبرته الودود المشهورة عنه: المسألة أنك بغريزة الصحفى يشدك أى خبر مثير.

قلت: أى خبر مثير؟ ... أنت بنفسك رويت قصة مبارك كلها على التليفون، وسامى شرف سجلها بخطه لعرضها على جمال عبد الناصر، وما كتبه سامى شرف عندى فى أوراقى التى تفضلت وأعطيتها بنفسك لى.

بدأ أنه فوجئ وأول ما قاله فى التعبير عن مفاجآته: آه... وعندك الورقة التى كتبها سامى ... أريدها... أريد أن أراها.

قلت إن الورقة ليست موجودة ولكنها ليست هنا، وذكرته بأننى أستأذنته فى إخراج بعض أوراقى الخاصة بعيدا عن مصر، خوفا عليها من تربص صراعات السلطة التى لاحت نذرها بعد رحيل جمال عبد الناصر.

وقلت: إننى سوف أجئ له بها فى أول سفرة إلى أوربا، لكنى ذكرته بضرورة أن يتصور أن الأمريكان سجلوا مكالمته الأصلية مع سامى وكذلك السوفيت، وربما أيضا إسرائيل، وإذن فهناك من يعرفون القصة، وربما يحتفظون بتسجيل كامل لحديثه مع سامى بصرف النظر عن أى ورقة مكتوبة.

أخذتنا بعد ذلك تطورات الحوادث، فلا الرئيس السادات عاد إلى طلب الورقة، ولا أنا عدت بها معى من سفر.

لكن المسألة الأهم بعد هذا الحديث أننى خرجت من استراحة القناطر يومها مدركا.

أن اختيار مبارك لمنصب نائب الرئيس لم يكن اختيارا بسيط بل مركبا، حكمته اعتبارات أخرى، فهو لم يكن اختيارا من بين الرجال الذين ظهروا فى حرب أكتوبر، على أساس دور متفوق على غيره فيها، وإنما كان اختيار مبارك شيئا آخر إلى جانب أكتوبر يقدمه ويزكيه.

إن الرئيس السادات اختار رجلا يعرفه من قبل، وقد اختبر قدرته على الفعل واستوثق منه.

إن اختياره للرجل وقع فى ذهنه قضية حيوية بالنسبة له ولسياساته هى قضية تأمين النظام فى ظروف تحولات حساسة.

إن الرجل من قبل اختياره أظهر استعدادا يجعله مهيأ للمضى وراء حدود الواجب على حد التعبير المشهور فى العسكرية البريطانية، أى المضى بتنفيذ الواجب حتى بالزيادة عليه بما ليس منه إذا  قضت الأسباب.

(4)

وأنا فى السجن جاءنا أحد مشاهير المحامين، وطلب لقاء ثلاثة من المعتقلين، كل منهم على انفراد: فؤاد سراج الدين، وفتحى رضوان، وكنت أنا الثالث.

فى غرفة المأمور العقيد محمود الغنام التقى المحامى بكل منا على انفراد، وكان طلبه أن يسلمه المعتقلون السياسيون فى طره بيانا بتأييدهم لانتخاب مبارك رئيسا، والإيحاء فيما يطلب أن ذلك يسهل خروجهم من السجن دفعة مقدمة لحسن المقصد.

والمدهش أن الثلاثة – وكل منهم مع الرسول على انفراد – أبدوا نفس الرأى بما معناه: أنه لا يليق بسجين الرأى أن يؤيد مرشحا فى انتخابات الرئاسة، خصوصا إذا كان المرشح هو نفسه نائب الرئيس الآن، فذلك ليس مشرفا للسجين، وليس مشرفا للمرشح، لأن حرية الإختيار لا تمارس من خلف القضبان، كما أن ممارسة الحرية من داخل زنزانة سجن لا تنفع صاحبها، ولا تنفع المقصود بها، لأنها معرضة للظنون والشبهات.

وتم الاستفتاء وجرى انتخاب مبارك وتلقيت بعدها بأيام رسالة عنه نقلها إلى على تليفون مكتب مأمور السجن الدكتور أسامة الباز وهو المستشار الأول للرئيس الجديد مؤداها: أنه تقرر الإفراج عن المعتقلين السياسيين على دفعات، وأن ذلك سوف يبدأ تنفيذه بعد مرور الأربعين يوما من وفاة الرئيس السادات، والرئيس الجديد يرجو أن نتحمل البقاء حيث نحن فى طرة حتى تنقضى الأربعون.

سألنى زملائى عن رأيى فى خطابيه الأول والثانى.

قلت: هذا الرجل يريد أن يعطى نفسه بداية جديدة، وواضح فى كلامه أنه رجل رأى الحقيقة بنفسه، فقد أعيدت ولادته مرتين خلال عاصفتين من الدم والنار.

 مرة فى دراما حرب أكتوبر.

 والمرة الثانية فى المأساة الإغريقية التى وقعت على المنصة يوم 6 أكتوبر. 

غضب منى بعض إخواننا فى المعتقل، كان الرئيس مبارك قد قال فى خطابه الأول: البرئ حيطلع.

 كانوا يعتقدون أنه لا يصح أن نبقى تحت التحفظ حتى تثبت براءتنا.

 وكنت أقول لهم: لاحظوا أن قرارات التحفظ كانت قبل توليه المسئولية، ونحن الآن نمثل إحدى المهام المعلقة فى جدول أعماله خصوصا وأن الواقع السياسى له أحكامه.

وعندما تحدث فى خطابه الثانى فى افتتاح الدورة البرلمانية، لمحت إيماءات اجتماعية واضحة، وأنا واحد من الناس ممن يعتقدون أن مشكلة مصر بالدرجة الأولى اقتصادية اجتماعية.

حين انقضت الأربعون بدأ الإفراج عنا، وارتأى مبارك أن يكون إطلاق سراحنا بعد لقاء معه فى قصر العروبة، وفى الطريق إلى هذا اللقاء عرضت على أصدقاء المجموعة الأولى من المفرج عنهم أن يتولى أحدنا الحديث نيابة عنا، حتى نحافظ خلال اللقاء على إطار الإحترام اللازم للمناسبة ولأنفسنا، واقترحت أن يكون المتحدث باسمنا فؤاد سراج الدين باشا، لأنه أكبرنا سنا، وأقدمنا عهدا بممارسة السياسة، ووافق الجميع.

كان عددنا " الدفعة الأولى من السياسيين المفرج عنهم" حوالى الخمسة والعشرين، وحملتنا سيارة نقل كبيرة من سجن طرة إلى قصر العروبة، مارة على عنبر المستشفى المخصص للمعتقلين بالقصر العينى، حيث كان بعض من تقرر الإفراج عنهم تحت العلاج فيه.

صافحنا الرئيس الجديد واحدا واحدا، بينما وقف إلى جواره رئيس وزرائه الدكتور فؤاد محيى الين، وعندما جلسنا حوله للحوار لاحظت أن الرئيس الجديد يبدى اهتماما بمعرفة رأيى، وقد وجه إلى الخطاب بوصفى محمد بيه، مضيفا: تفضل وأشرت إلى فؤاد سراج الدين الذى فوضناه بالحديث عنا، وكان ذلك السياسى المخضرم ممتازا فى عرضه وفى شرحه، وأظنه كان موفقا فيما تقتضيه المناسبة.

لكن مبارك التفت نحوى يسألنى إذا كنت أريد أن أضيف شيئا، وشكرته معتبرا أن فؤاد باشا قال كل ما يريد أينا قوله، مع أن ذلك لم يمنع رغبة الكلام لدى آخرين، وبالفعل تكلم بعضهم وحدث شئ مما تمنيت تجنبه، ومما يفعله الساسة أحيانا عند لقاء الحكام، خصوصا إذا خطر لهم أن يقدموا أنفسهم تعريفا وربما تمهيدا ولزمت الصمت مؤثرا الاستماع.

عندما خرجت تكون لدى شعور أن الرئيس مبارك يتحدث بطريقة مباشرة وصريحة وواقعية، ولابد أنه يمتلك قدرا كبيرا من الشجاعة الأدبية ومن القدرة على الإدراك الشامل.

على باب القصر سألنى مراسل الجارديان: ألا ترى أن ذهابكم إلى القصر الجمهورى بهذا الشكل فيه عنصر مسرحى؟

قلت: لا أتصور ذلك لسبب واحد، وهو أننى أعتقد أنه فوق ما فيه من صدق النوايا ذكاء سياسى، لأن الرئيس السادات حاول إبعادنا أو ابعاد بعضنا بالقوة، لكن الرئيس مبارك نزع سلاحنا جميعا باللطف والحوار واقدامه على فتح صفحة بيضاء.

سألت مراسل الجارديان: هل تعرف ماذا يعنى هذا اللقاء فى قصر العروبة بالنسبة لى؟

وقلت: لقد أغلقت صفحة الماضى ولن أتحدث عما حدث فى تجربة 90 يوما فى السجن، ولكننى أسأل نفسى هل كان فى وسعى أن أكتم تجربتى لو لم يكن قد قابلنى؟ وقال علينا جميعا أن نطوى صفحة لنبدأ صفحة أخرى. 

كان ما سمعته من الرئيس مبارك يدعو للثقة، وقد قلت للصحفيين الذين كانوا ينتظرون أمام باب الخروج: سأؤيد الرئيس مبارك بكل قواى.

سألنى أحد الصحفيين: إلى أين ستذهب؟

قلت له: أعتقد أننى أستطيع أن أذهب إلى حيث أريد... أنا حر اليوم.

سألنى صحفى آخر: هل صحيح أنك ستتولى منصبا رسميا؟

قلت له: لا لا... أنا صحفى وسأبقى صحفيا.

سألنى صحفى ثالث: هل عوملت معاملة حسنة فى السجن؟

قلت: لن أتحدث عن ذلك.

ثم قلت للصحفيين: نحن اليوم نواجه رجلا جديدا، فعندما يقوم رئيس دولة بمواجهة المتحفظ عليهم سياسيا، فإن ذلك يقتضى شجاعة أدبية كبيرة، هذه حالة نادرة فى العالم الثالث وحتى فى العالم الأول، خاصة إذا أخذنا فى الاعتبار الصورة التى نقلت عنا سواء كانت خطأ أم صوابا.

(5)

مضت خمسة أيام ثم تلقيت مكالمة من مكتب الرئيس يقول فيها سكرتيره الخاص السيد جمال عبد العزيز، أن سيادة الرئيس يدعوك إلى الإفطار معه فى الساعة الثامنة صباح بعد غد، وقد اختار موعدا مبكرا لأن معلوماته أنك تستيقظ مبكرا، وهو فى ذلك مثلك يحب أن يبدأ النهار من أوله.

أضاف محدثى: إن سيادة الرئيس أمر بإبلاغى أننى المدعو على الإفطار وحدى.

وزاد محدثى بسؤال: إذا كان يستطيع الاتصال بمكتبى ليحصل على رقم سيارتى حتى يسمح لها الأمن بالدخول إلى حرم البيت.

عندما تلقيت دعوة الإفطار مع الرئيس الجديد، كان فى زيارتى بمصادفة صديقان قديمان، وهما الدكتور أسامة الباز والأستاذ منصور حسن، وكلاهما يعرف مبارك معرفة دقيقة.

 فأسامة الباز أقرب المستشارين إليه.

ومنصور حسن زامله وزير دولة لشئون الرئاسة فى السنة الأخيرة لحكم السادات، وكان مبارك نائبا للرئيس، وبين الاثنين نائب الرئيس ووزير الدولة لشئون الرئاسة علاقات ملتبسة كثرت حولها الأقوال والروايات.

وقلت للاثنين: يظهر أننى سوف أقابل الجديد بعد غد، وهذا رجل لم أره إلا فى مصادفات على عكس كليكما، فكل منكما عمل معه عن قرب، وتعرف على جوانب شخصيته.

وأضفت: أننى لا أريد علاقة وثيقة مع رئيس دولة آخر فى مصر، فقد أخذت نصيبى من هذه العلاقات مع جمال عبد الناصر من أول يوم إلى آخر يوم من دوره السياسى، ونفس الشئ طوال السنوات الأربع الأولى من رئاسة أنور السادات حتى اختلفنا فى إدارته السياسية لحرب أكتوبر، وأنا لم أعد أريد لا صداقات ولا عداوات مع رئيس دولة جديد فى مصر، وما أريده هو أن أحتفظ بحقى فى إبداء رأيى، ومن موقع الصحفى والكاتب وليس أقل ولا أكثر.

وقلت لهما: هذه فرصة أسألكما: كيف أتعامل مع صاحبكما فى هذه الحدود، خصوصا وأننى كما قلت أعرف دواعى التزامه بسياسات لا أعتقد فى صحتها، ومن ناحية ثانية فإننى أراه أمامى شخصية أعقد بكثير من انطباع عام لدى الناس أشاع عنه نكتة " البقرة التى تضحك" بينما هو فى ظنى شخصية أكثر تعقيدا.

رد أسامة الباز على الفور بأننى على صواب فى طرح حكاية البقرة التى تضحك جانبا، لأنها بالفعل تبسيط لشخصية مركبة.

واستطرد أسامة قائلا إنه يعرفنى جيدا، وقد كان فى هيئة مكتبى عندما كنت وزيرا للإعلام ووزيرا للخارجية، ثم اختار أن ينتقل معى إلى الأهرام بعد انتهاء مهمة وزارية محددة المدة والهدف، ثم ظل معى فى الأهرام حتى تركته بعد الخلاف مع الرئيس السادات، فعاد إلى الخارجية مستشارا فى مكتب وزيرها إسماعيل فهمى.

وقال أيضا: إننى عملت معك وعملت مع الرئيس مبارك أيضا، منذ كلفنى الوزير إسماعيل فهمى، لأكون مستشارا منتدبا من وزارة الخارجية معه كنائب للرئيس، خصوصا أن السادات راح يكلفه بمهام فى الإقليم وفى اتصالاتنا الخارجية، هكذا فإن لى معه الآن أكثر من اثنى عشر عاما... وإذن فأنا أعرفك... وأعرفه.

ومضى أسامة: أكرر أنه من الصواب أنك استبعدت تماما حكاية " البقرة الضاحكة"... وإذا طلبت رأيى بعد ذلك فلدى أولا ملاحظتين فى المنهج:

أولهما: لا تتطرق فى الحديث معه إلى أى قضية فكرية أو نظرية، فهو ببساطة يجد صعوبة فى متابعة ذلك، لأنه أقرب إلى ما هو عملى منه إلى ما هو فكرى أو نظرى، وإذا جرت معه محاولة للتبسيط بالشرح، فإنه سوف يشرد من محدثه، ويتوقف عن المتابعة.

والثانية: أننى أعرف أسلوبك فى الحديث، تستطرد فيه أحيانا، ثم تذهب إلى خاطر يلوح أمامك، ثم تعود إلى سياقك الأصلى بعده، لكن مبارك لن يتابعك فى ذلك، كلمه فى موضوع واحد فى المرة الواحدة، ولا تدع الموضوعات تتشعب وإلا فسوف تجد نفسك تتكلم بعيدا وهو ليس معك.

وأضاف: تذكر أنه سمع كثيرا – أكثر مما تتصور – عنك من الرئيس السادات وكثيرا ما سألنى: كيف كانت صداقتك مع الرئيس السادات بهذا القرب، ثم كان خلافكما إلى هذا الحد؟ وذلك موضوع أثار فضوله، خصوصا وأنه كان يعرف عمق صداقتك مع الرئيس عبد الناصر، وكانت درجة هذه الصداقة تبهره، وقد حكى لى أنه تابعك أثناء عملية تحريك حائط الصواريخ إلى الجبهة، عندما كنت وزيرا، وأنه أحس من كل ما تابعه أنك تتصرف دون أن تنظر وراءك، وهذا يعنى أنك تقف على أرضية جامدة جدا.

ثم وصل أسامة ثانيا إلى ملاحظتين فى الأسلوب إضافيتين: هو رجل يعرف قوة السلطة حيث تكون، وهذا مفتاح ثالث لشخصيته، ومفتاح آخر قدرته على الاحتفاظ لنفسه بنواياه، ولذلك أرجوك أن لا تحاول استكشاف فكره، لأنك سوف تستثير حذره، والحذر غريزة عنده مرتبطة بفهمه لقوة السلطة.

التفت ناحية منصور حسن وكان يتابع الحديث باهتمام وبإبتسامة زاد اتساعها عندما جاء الدور عليه أسأله، وكان رده: كل ما سوف تسمعه لن يهيئك لما سوف تراه، والأفضل أن ترى بنفسك.

(6)

صباح يوم موعدنا السبت 5 من ديسمبر 1981، وصلت إلى بيته فى الموعد المحدد، وعبرت باب البيت من ردهة إلى صالون فى صحبة ضابط برتبة عميد، ولم أنتظر أكثرمن دقيقة فى الصالون، حتى دخل مبارك مادا يده ومرحبا بإبتسامة طيبة وملامح تعكس حيوية شباب وطاقة.

قال على الفور وهو مازال واقفا: لابد أنك جائع فأنا أعرف أنك تستيقظ مبكرا.

وقلت: بصراحة سيادة الرئيس إننى أفطرت فعلا، ولكنى سوف أجلس معك وأنت تتناول إفطارك.

ضحك قائلا: الحقيقة أننى أكلت شيئا خفيفا.

قلت له: إذن فلا داعى لإضاعة وقت على مائدة الإفطار، فلدى الكثير أريد أن أسمعه منك.

أبدى موافقته بعد تكرار سؤاله عما إذا كنت لا أريد أن آكل أى شئ مما جهزوه لنا، وكررت الشكر.

قال: إذن نطلب فنجانين من القهوة ونجلس.

قلت للرئيس مبارك فور أن جلسنا: إننى فكرت بالأمس أن أطلب مكتبه راجيا تغيير موعدنا، لأنى قرأت فى الصحف عن مشاورات يجريها لتعديل وزارى أعلن عنه، وقد خطر لى أن موعدى معه اليوم قد يحدث التباسا وخلطا لا ضرورة له، بين لقاءاته فى إطار التعديل الوزارى، وبين لقاءاته العادية الأخرى وضمنها موعدى معه، وأول الضحايا فى هذا الخلط والإلتباس سوف يكون فريق الصحفيين الذين يغطون أخبار رئاسة الجمهورية.

رد مبارك وهو يبتسم بومضة شقاوة فى عينيه: وماذا يضايقك فى ذلك... اتركهم يغلطوا.

لم يتضح لى قصده، سألته، فجاء رده بما لم أفهمه فى البداية حين قال مشيرا إلى الصحفيين: دول عالم لبط.

أبديت أننى لم أفهم المعنى واستنكر بطء فهمى فقال: لا تعرف معنى لبط؟... هل أنت خواجة؟

أكدت له أننى أبعد ما أكون، وراح يشرح معنى لبط، ثم واصل شرحه: اتركهم يغلطوا حتى يتأكد الناس أنهم لا يعرفون شيئا.

مرة ثانية لم يتضح لى قصده، ومرة ثانية سألته، ورد وعلى شفتيه ما بدا لى إبتسامة من نوع ما: إن الصحفيين يدعون أنهم يعرفون كل شئ، وأنهم فالحين قوى، والأفضل أن ينكشفوا أمام الناس على حقيقتهم وأنهم هجاصين ولا يعرفون شيئا.

قلت: ولكن سيادة الرئيس هذه صحافتك، أقصد صحافة البلد، ومن المفيد أن تحتفظ لها بمصداقيتها، ولا بأس هنا من جهد لإبقاء الصحفيين على صلة بالأخبار ومصادرها.

رد بقوله: الدكتور فؤاد " يقصد رئيس وزرائه وقتها فؤاد محيى الدين" يقابل الصحفيين باستمرار، ويطلعهم على الحقائق، لكن بلا فائدة، هم يخبطوا على مزاجهم ولا يسألون أحدا.

قلت: إنه ليس هناك صحفى يحترم نفسه تصل إليه أخبار حقيقية ويتردد فى نشرها.

ظل على رأيه: المسألة أنهم لا ينشرون، إما أن لهم مصالح خاصة وإما أنهم لا يفهمون.

تفضل بعد ذلك بما أظنه مجاملة، قال: محمد بيه أنت تقيس الصحفيين الحاليين بتجربة زمن مضى، ليس هناك صحفى الآن له علاقة خاصة بالرئيس.

كانت الإشارة واضحة.

قلت: إن جمال عبد الناصر كان متصلا بكثير من الصحفيين، ثم إن هذا لا يمنع قيام صداقة مع أحدهم بالذات، ولكن المهم أن يكون اصبع رئيس الدولة على نبض الرأى العام طول الوقت.

انتقل والدهشة عندى تزيد قائلا: على فكرة نحن كنت نتصور أنك تجلس على حجر الرئيس جمال، لكن ظهر أن الرئيس جمال كان هو الذى يجلس على حجرك. 

واستطرد: أعرف أن العلاقة بينكما إلى هذا الحد حتى شرحها لى أنيس منصور.

استهولت ما سمعت وبان ذلك على ملامحى، وربما فى نبرة صوتى، حين قلت له: سيادة الرئيس أرجوك لا تكرر مثل ها الكلام أمام أحد، ولا حتى أمام نفسك.

 أولا: لأنه غير صحيح.

 وثانيا: لأنه يسئ إلى رجل كان وسوف يظل فى اعتقادى واعتقاد كثيرين فى مصر وفى الإقليم وفى العالم قائدا ورمزا لمرحلة مهمة فى التاريخ العربى.

وأضفت: فيما يتعلق بى فقد كان يمكن أن يرضى أوهامى أننى كنت كل شئ وقت جمال عبد الناصر، ولكن ذلك غير صحيح، لأن جمال عبد الناصر كان هو جمال عبد الناصر، وقد أسعدنى – ولا يزال – أننى كنت صديقا له وقريبا منه ومتابعا لدوره وهو يصنع للأمة كلها تاريخا يمثل علىى الأقل لحظة عزة وقوة لها فى عالمها وعصرها، وأنا أقول ذلك بعيون مفتوحة، مدركا أن تجربة عبد الناصر كانت إنسانية قابلة للخطأ أحيانا كما للصواب، كما أنها ليست أسطورية معصومة بالقداسة، لأن ذلك غير إنسانى، وهذه هى الحقيقة.

قاطعنى: أنا أعرف كم كان الرئيس جمال شخصية عظيمة، وما قلته لك كلام أنيس منصور، وهو لم يقله لى فقط، وإنما نشره أيضا، أما أنا فلم أقل من عندى إلا ما قلته أنت فى وصف علاقتك به، من أنك كنت صديقا له وقريبا منه، هذا ما قصدته، وقصدت أنك تعرف كل شئ، بينما الصحفيون الآن لا يعرفون.

وقلت: إن علاقته بالصحفيين فى عهده اختياره، وله أن يوصفها كما يرى، لكنى أتمنى لو استطاع أن يسهل على الصحافة أن تعرف أكثر، لأن تلك مصلحة الجميع وأولهم هو شخصيا.

وظل على رأيه لم يغيره وأكثر من ذلك فإن رده على كان بقوله: أنه إذا عرف الصحفيون أكثر فسوف يتلاعبون به.

قلت فى شبه احتجاج: سيادة الرئيس أنت تسيئ الظن بإعلامك، وأنا أعرف بعضا من شيوخ المهنة وشبابها، وأثق أنهم لن يتلاعبوا فى أخبار، فضلا عن أسرار.

(7)

انتقل مبارك إلى خلافى شخصيا مع الرئيس السادات.

قال: كثيرا ما استغربت، فانا أعرف أتك وقفت معه جامد فى أول ولايته، ثم وقفت معه أجمد فى معركة مراكز القوى، وكنا جميعا نعرف أنك موضع ثقته، وقد رأيت ذلك بنفسى فى القيادة أثناء الحرب.

وأضاف أنه عرف أننى كاتب التوجيه الإستراتيجى الذى صدر للمشير أحمد إسماعيل بتحديد أهداف حرب أكتوبر، وهذا فى رأيه قمة الثقة، ولهذا فاجأه خلافى مع الرئيس حول فك الارتباط، لكنه لم يقرأ ما كتبت عنه، هو يعرف أن الخلاف وقع، لكنه لا يعرف لماذا؟

استدرك ضاحكا: لا تزعل يا محمد بيه، إذا قلت لك إننى لم أكن أقرأ مقالاتك رغم أننى أسمع أن كثيرين يقرأونها، ولا أخفى عليك أننى كنت أمنع ضباط الطيران من قراءتها.

قلت بعفوية: ياه... لعل السبب خير.

قال: ما كان يحدث أن مقالك بصراحة ينشر فى الأهرام يوم الجمعة، ثم يجئ الضباط يوم السبت وقد قرأوه، وكلهم متحفزين لمناقشته، وكثيرا ما كانوا يتخانقون وأنا لا أريد فى السلاح خناقات ولا سياسة.

وأضاف: أما عنى أنا، فقد كنت لا أقرأ مقالاتك لأنى عندما حاولت لم أفهم ماذا تريد أن تقول فى نهاية المقال، وبصراحة ( على رأيك)... مقالك دائما ينتهى دون أن نرسى على بر ولا نعرف بعده نتيجة.

قلت: سيادة الرئيس هناك مدرسة فى الكتابة لا ترى أن النتيجة فى المقال واجبة، وإنما واجبه معلومات صحيحة واجتهادات فى التحليل واسعة، واختيارات فى المسالك المتاحة للحل مفتوحة، ثم يكون للقارئ أن يختار ما يقنعه، بمعنى أننى لا أريد أن يكون ما أكتبه مقفولا على نتائج معلبة، وإنما أفضل أن أترك للقارئ حريته بمعنى أن تبدأ علاقته بالمقال بعد أن ينتهى من قراءته، وليس حين يهم بقراءته، لأن هدفى تحريضه على التفكير وهو يقرأ، ورجائى أن يصل بتفكيره إلى حيث يقتنع.

قال: يا عم ما الفائدة إذن أن يقرأ الناس لكاتب كبير؟ لابد أن يرسيهم على بر.

قلت: أنا أريد للقارئ أن يرسو على بره هو وليس على برى أنا.

علق بإبتسامة مرة أخرى قائلا: يعنى عاوز تدوخ الناس يا أخى، قل لهم وريحهم.

اختصرت قائلا: على أى حال هناك مدارس متعددة فى الكتابة.

عاد مبارك إلى سؤاله عن العلاقات بين الرئيس السادات وبينى، فقال: الغريب جدا أننى أحسست أن علاقته بك كانت عقدة محبة وكراهية فى نفس الوقت... هو بالحق كان يتحدث عنك بالتقدير، لكنه يأخذ عليك أتك تريد أن تفرض عليه رأيك.

قلت مستغربا: سيادة الرئيس كيف لصحفى أن يفرض رأيه على رئيس الدولة، رئيس الدولة عنده السلطة كلها، وأدواتها تحت يده، فكيف أستطيع أنا أو غيرى من الكتاب والصحفيين أن نفرض شيئا عليه، ربما يفرض عليه قائد جيش لديه سلاح أو رئيس حزب لديه تنظيم، أو وزير داخليه عنده بوليس، أما الصحفى فلا يملك غير عرض وجهة نظر ولا أكثر، وهو يضعها أمام الرأى العام إما أن يأخذ بها أحد أو يعرض عنها، فتلك مسألة أخرى خارج قدرة أى صحفى.

ثم قلت: العكس هو الصحيح فيما أظن، فرئيس الدولة هو فى العادة من يريد فرض رأيه على الصحفى وهنا المشكلة.

(8)

على مقربة من نهاية اللقاء قال الرئيس مبارك: هناك موضوع كنت أريد أن أكلمك فيه، ثم استطرد قائلا برقة بادئا بكلام كريم، لكن نبرة العتاب تشيع فيه: الرئيس أنور تعب معك حتى تتعاون معه.

وسألته: كيف يستطيع أحد أن يتعاون فى سياسة لا يؤمن بها؟

قال: تستطيع أن تساعد دون أن تتعامل مع إسرائيل.

وقلت: إن منصب الوزارة عرض على من سنة 1956، وكنت ما أزال شابا قد تغريه المناصب، وقد تكررت بعد ذلك عروض الرئيس عبد الناصر، وتكرر اعتذارى حتى اضطررت أوائل عام 1970 إلى القبول لمدة محددة ومهمة معينة، ثم أن الرئيس السادات عاد بعد ذلك فعرض على منصب نائب رئيس الوزراء، أو رئيس الديوان السياسى.

وقال: أعرف ذلك... ولم أقصد أن أحدثك عن منصب.

أسألك سؤالا صريحا ومحددا – قالها وهو يتطلع إلى مركزا -: ما رأيك أن تدخل الحزب الوطنى؟

وبدا أننى أصبت برعب، وقلت له: إننى لم أدخل الاتحاد الإشتراكى مع جمال عبد الناصر رغم عمق صداقتنا ورغم إلحاحه مرات، لأنى لا أعتقد فى هذا النوع من التنظيمات السياسية التى تقوم فى حضن السلطة، وفضلا عن ذلك فلست من أنصار أن ينتمى الصحفى حزبيا.

سكت قليلا ثم سألنى: إذا لم تكن تفكر فى دخول الحزب، فماذا تنوى أن نفعل؟

أضاف: لا يعقل أنك سوف تجلس فى بيتك ساكتا.

وقلت ضاحكا: إنه ليس له أن يقلق، فأنا لا أنوى الانضمام إلى قائمة المتعطلين الذين يبحثون عن عمل.

وأضفت: لدى عقود لكتب جديدة مع الناشرين فى لندن ونيويورك بعد ستة كتب سبقت، ترجمت جميعا من الإنجليزية إلى لغات كثيرة، وآخرها كان كتاب " عودة آية الله" عن الثورة الإيرانية، وقد صدر لى فى أوربا وأمريكا أثناء وجودى فى السجن، وقد ترجم حتى الآن إلى سبع عشرة لغة، ثم إنه فور خروجى من السجل اتصل بى أندريه دويتش وهو أكبر الناشرين فى لندن، وسألنى إن كان فى استطاعتى أن أقدم لهم بسرعة كتابا عن السبب الذى دعا إلى إغتيال السادات، وهو فى رأيهم بطل السلام، وقد قبلت عرضه وذلك ضمن ما سوف أناقشه فى سفرة قريبة إلى لندن؟

جائنى تعليقه مفاجئا: لم أكن أعرف أن الكتب شغلانة كويسة.

قلت: إننى لا أعرف تصوره ل" الشغلانة الكويسة" لكن الكتابة بالنسبة لى حياتى كلها.

وعاد يسألنى: ولكن ألا تفكر فى العودة للصحافة المصرية؟

قلت: إن ذلك بعيد عن تفكيرى تماما، فقد اعتبرت أن دورى فى الصحافة المصرية انتهى بخروجى من الأهرام، وأؤثر أن أترك المجال لآخرين، وكذلك لأجيال أخرى.

وجدها فرصة يعود بها إلى اقتراحه، فقال: خسارة أن لا يستفيد منك البلد.

سألته: ألا يرى فى وجود صحفى وكاتب مصرى فى مجال النشر الدولى فائدة للبلد؟

شرحت له بعض التفاصيل عن حجم النشر الدولى، سواء فى الكتب أو فى الصحف، وبالتحديد عندما يقع الجمع بين الاثنين، فيصدر كتاب، ثم تنشر فصول منه فى آلاف الصحف على اتساع العالم.

رد بأنه ما زال يرى أن أنضم إلى الحزب الوطنى، والمجال فيه بلا حدود.

قلت: أنت تريد أن تضمنى إلى الحزب الوطنى، أنا وغيرى نريدك أن تخرج منه.

سألنى عن السبب، وهل الأحزاب بعبع أو أنها وسيلة العمل السياسى؟

قلت: الصحفى بصفة عامة يتعامل مع الأخبار، والأخبار لها استقلالها، وتلوينها بظلال التحزب، مخالف لقيمتها ومصداقيتها.

واصلت الحديث: ولعله يتذكر يوم جئناه من المعتقل أنه سمع بعضنا يناشدونه مباشرة لترك رئاسة الحزب الوطنى، وقلت إنه فى العادة وفى النظام الرئاسى بالذات فإن الرئيس حتى وإن كان منتميا إلى حزب، يجمد انتماءه لهذا الحزب فترة رئاسته.

قال بلهجة قاطعة: لو تركت الحزب فسوف يقع.

قلت: إذن فإن الحزب لا وزن له فى حد ذاته، وهو يستمد وجوده من السلطة، وليس من الناس، وهذا هو الخطر.

قال: تخوفك من الحزب الوطنى مبالغ فيه، ووجودى فيه ليس المشكلة، المشكلة فى العمل التنفيذى، فى الحكومة وأنت تعرف حجم المشاكل، وزاد علينا خطر الإرهاب، والناس تطلب لبن العصفور، ولابد من الاستقرار قبل أن نستطيع عمل أى شئ، والجماعات الإرهابية كامنة، وتنتشر تحت الأرض.

بدورى قاطعته: والنظام يساعدها.

استغرب ما قلته وهو يسألنى: النظام يساعدها كيف؟

قلت له: هناك بالطبع المشاكل الإقتصادية والاجتماعية، وهذه مشاكل ثقيلة، لكن هناك أشياء أخرى منها كثرة البرامج الدينية البعيدة عن قيم الدين، وكثرة الفتاوى فيما لا علاقة له بروح الدين، كل هذا يسيئ لكن كله يشحن.

وزدت فقلت: إننى سألت أحد زملائنا القدامى فى مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية فى الأهرام، أن يدرس مساحة البرامج الدينية على الإذاعة والتليفزيون، وفوجئت حين قيل لى إن نتائج بحثه فى الموضوع، أظهرت أن أكثر من 27% من مساحة البرامج – دينية، أو ذات طابع دينى، وأنا رجل من أسرة متدينة، وأعرف قيمة الدين هداية وعصمة، ثم إننى من أسرة كان أول تقاليدها أن يحفظ أبناؤها القرآن، وقد حفظه كله، لكنى لا أستطيع أن أتصور بعض ما يقال فى البرامج الدينية.

أضفت آسفا: إننى سمعت بنفسى من إذاعة القرآن الكريم من القاهرة، وفى معرض برنامج من برامج التواصل مع السامعين، سائلا يستفسر عن كيفية الإغتسال بعد ممارسة الجنس مع بقرة، وبقدر ما أفزعنى السؤال، فقد أفزعنى أكثر أن أحد الشيوخ جاوب عليه، وراح يحدد لسائله وسائل الإغتسال المطلوبة فى تلك الحالة.

وأغرق مبارك فى الضحك، ثم قال: التوسع فى البرامج الدينية ضرورى، لأننا لابد أن نواجه الإرهابيين على أرضيتهم، ونأخذ منهم الناس.

قلت: المشكلة أنك إذا واجهت الإرهابيين على أرضيتهم، وبهذه الطريقة، فسوف تقبل الاحتكام إلى قانون لا تعرف مصدره، ولا تعرف نصه، ولا تعرف قاضيه.

وتوقف عند هذا التعبير وبدت عليه الحيرة: وقال لى: هل يمكن أن تفك لى هذا الكلام الملعبك؟

وحاولت شرح وجهة نظرى بأسلوب آخر: وقال وهو يعاود الضحك: هل على أنا أيضا أن أهتم بالرجل الذى يعشق " استخدم لفظا آخر غير العشق" بقرة؟

وقلت له بسرعة: لا أحد يتصور أن يطلب منك ذلك، ولكن الناس تطلب رؤية للمستقبل مقنعة.

(9)

رحنا نمشى نحو الباب، ولمح مبارك مصور الرئاسة المشهور الأستاذ فاروق إبراهيم، يتحرك من بعيد، والتف نحوى قائلا: دعنا نلتقط صورة معا، وقلت للرئيس صراحة: إننا نستطيع أن نستغنى عن الصورة، وربما كان ذلك أفضل.

ووقف فى مكانه وتطلع إلى وهو يعلق: غريبة – الناس يجئيون إلى مقابلتى وليس لديهم غرض إلا هذه الصورة.

وقلت: إننى كنت أقابل جمال عبد الناصر مرتين وثلاث مرات فى الأسبوع، وكذلك السادات وكانت اتصالاتنا التليفونية عدة مرات كل يوم، ومع ذلك لم تنشر صورة للقاء، ولا خبر عن اتصال تليفونى، وأنا لا أفهم بدعة نشر أخبار أو صور لقاءات الصحفيين مع الرئيس، لأن هذه طبائع أشياء وطبائع الأشياء ليست خبرا.

تدارك قائلا: والله لك حق، إننى أقابل كل الناس ولا يحدث شئ، لكنمه عندما عرفوا أننى سأقابلك، ولعت اللمبة الحمراء فى الصحافة وفى الحكومة وفى الحزب.

لم أملك نفسى، فقلت: سيادة الرئيس هل هناك بالفعل حزب؟

وهز رأسه قائلا: أنت مصمم على رأيك فى الحزب، الحزب مهم فى الاتصال بالناس وفى تمرير القرارات ولفتت الكلمة الأخيرة نظرى.

(10)

فى سبتمبر 1982 تفضل الأستاذ مكرم محمد أحمد وطلب منى أن أكتب للمصور فى إطار مناسبات تجمعت مع بعضها: سنة من رئاسة حسنى مبارك، وسنة من التحولات والتغييرات خلالها، وسنة بعد خروجنا من السجن.

وفكرت ثم اخترت أن أكتب ما أريد على شكل خطابات مفتوحة موجهة إلى الرئيس حسنى مبارك، وكذلك بدأت الكتابة أوائل أكتوبر 1982، وفرغت من ستة مقالات اخترت أن أسلمها للأستاذ مكرم مرة واحدة، مجموعة متكاملة مترابطة مع أوائل نوفمبر 1982.

لكننى وأنا أعرف الأستاذ مكرم وأدرك دقة التزامه المهنى وأقدر تمسكه بالأصول المرعية، رجوته ملحا أن لا ينفرد فى نشر هذه المقالات بقرار، فقد خشيت ان يتحمل بنشرها أكثر مما يلزمه، وأثقل مما ارضى له، ذلك أننى أستطيع عن نفسى قبول مخاطرة الطيران خارج السرب، لكنه من جانيه ليس مطالبا بنفس المخاطرة.

ومضت ثلاثة أسابيع حتى تلقيت اتصالا تليفونيا من المستشار أسامة الباز مقترحا أن يدعو نفسه على العشاء معى أى يوم هذا الأسبوع، وتحمست فالرجل زميل قديم، وبصرف النظر عن الزمالة الطويلة، فإن أسامة الباز ظل رغم تباعد المسافات رجلا قادرا على إقامة علاقات واسعة، محافظا على جسور مفتوحة وطرق واصلة.

اتفقنا بالفعل على موعد للعشاء فى بيتى، وحين جاء لاحظت من أول نظرة أنه يتأبط رزمة كبيرة من الأوراق تعرفت عليها، لأنها كانت نفس الرزمة التى سلمتها داخل مظروف إلى الأستاذ مكرم محمد أحمد أى مجموعة المقالات التى كتبتها للمصور.

وصحبت أسامة الباز إلى مكتبى فى نفس الطابق وهو ملاصق لسكنى، كى يتخلص على الأقل من حمولته، سواء فى ذلك رزمة المقالات التى يحملها تحت إبطه أوأى طلب فى شأنها ينتظر على طرف لسانه قبل أن نجلس إلى مائدة العشاء.

ولم يكن هناك داع لمقدمات، لأن رزمة الأوراق التى استقرت أخيرا على مكتبى طرحت موضوعها وملخصه: أن هناك خشية أن النشر قد يسبب حرجا فى هذه الظروف وقتها، وأن هناك رجاء بتأجيل النشر خارج مصر كما فى مصر أيضا، وأن الأمر فى النهاية متروك لى.

لم ياخذ الموضوع منى تفكيرا يقصر أو يطول، بل صدر ردى عفويا وطوعيا مضمونه: إننى آخر من يريد أن يتسبب فى إحراج من أى مقدار أوأى نوع فى هذه الظروف، بالتالى فسوف تنام هذه المقالات فى درج مكتبى، حديثا مؤجلا إلى يوم آخر، وفى خارج مصر كما فى داخلها.

وأبدى أسامة دهشته قائلا: يظهر أن الرئيس يعرفك أكثر منى، ذلك أننى حين عبرت له بمعرفتى الطويلة لك عن الشك فى قبولك لما نطلبه منك، رد على بقوله "اذهب وانقل عنى واترك الموضوع لتقديره"، والذى أدهشنى أنك استجبت بهذه السرعة، لكنه كما قلت لك يبدو أنه يعرفك أكثر منى.

ومرت الأيام ومضت 25 سنة كاملة.

وفى سبتمبر وأكتوبر 2003 ورد حديث هذه المقالات الستة المحجوبة مع مناسبة " استئذانى فى الإنصراف" عن الكتابة المنتظمة فى ذلك الوقت، ثم تكرر الكلام وزاد وتداولته وتناولته الألسنة – سؤالا وجوابا – فى حوارات صحفية وتليفزيونية.

وخطر لى وقتها أن ذلك اليوم الآخر ربما جاء أوانه.

وبقى ظنى خلال ذلك أننى التزمت بما وافقت عليه إلى الحد الذى كان مرغوبا فيه وزيادة، فلم أكن فى المرتين – عندما حجبت المقالات وعندما نشرتها – أريد إحراجا من أى درجة لأى طرف – ذلك أن محاولتى باستمرار موصولة بالتزام حد الأدب، ومعه حد الواجب، الأول يفرضه شرط الأخلاق، والثانى يفرضه شرط الحقيقة.

(11)

زارنى الأستاذ فؤاد سراج الدين يريدنى أن أسمع شريطا مسجلا وصل إليه لخطاب ألقاه وزير الداخلية وقتها اللواء زكى بدر أثناء مؤتمر شعبى فى قليوب، وسمعت الشريط وإذا بوزير الداخلية يكرس فقرات طويلة من خطابه للهجوم على رئيس حزب الوفد، ثم يتجاوز بالسب والقذف إلى أصول العائلة وجذورها، وكان فؤاد سراج الدين مستفزا وهو يحكى لى وقائع ما جرى.

اتصلت وفؤاد سراج الدين أمامى بأسامة الباز وكان فى مكتبه بوزارة الخارجية القديم، أسأله إذا كان يستطيع أن يمر علينا، وهو على بعد خمس دقائق بالسيارة من مكتبى، وبالفعل جاء أسامة وسمع بنفسه رواية سراج الدين وتعهد بأنه سوف يأخذ الشريط إلى الرئيس، وهو يثق أنه لا يرضى بإهانة أحد، خصوصا رجلا فى مقام فؤاد باشا.

وبعد يومين اتصل بى الرئيس مبارك بنفسه على التليقون، يقول إنه عرف بما وقع وحقق فيه، وأنه طلب من زكى بدر أن يعتذر لفؤاد سراج الدين وأن وزير الداخلية نفذ الأمر، وهو يطلب اعتبار الموضوع منتهيا.

وأضاف مبارك: إن زكى بدر حاول أن يلف ويدور معه، مدعيا أن شريط التسجيل مزور، ولكنه لم يعطه الفرصة، ثم راح مبارك يروى ما جرى بعد ذلك.

وطبقا لروايته: اتصل زكى بدر وأبلغه أنه اعتذر فعلا لسراج الدين وبأمر الرئيس رغم أنه ما زال مصرا على أن الشريط مزور.

وسأله مبارك: هل قبل فؤاد سراج الدين الاعتذار؟

وكان الرئيس مبارك يضحك وهو ينقل لى ما سمعه من وزير الداخلية زكى بدر، الذى ر عليه قائلا: سيادة الرئيس أنت تعرف فؤاد سراج الدين هذا النوع من الناس لا يمكن إقناعهم، فهم (....) وكلها شتائم أقذع مما قال فى الشريط.

واستطرد مبارك: تصور أنه وهو ينكر فى كلامه معى كرر السب والقذف بأشد مما قاله علنا و".....".

ولم أتمالك نفسى فأبديت ملاحظة تساءلت فيها: هل هذا معقول؟

وكانت المفاجأة أن الرئيس مبارك رد بقوله: أنت لا تعرف زكى بدر لسانه مفلوت و"....." وكانت كلمات الرئيس فى وصف وزير داخليته أصعب مما قاله زكى بدر عن سراج الدين، ولاحظ مبارك بسكوتى أننى مأخوذ مما سمعت منه أيضا، ثم كان تعليقه الأخير " لا مؤاخذة يا محمد بك" يظهر أن الكتابة تعلمكم الشعر ولا تعرفكم على الدنيا وما فيها.

(12)

لقيت الملك حسين ملك الأردن فى القاهرة، وكان قد جاء إليها بعد ما بدا من هدوء بعد عاصفة الاغتيال، ولم يدهشى أن الملك أشار بيده إلى سقف صالون القصر الذى ينزل فيه، ويقترح: دعنا نخرج إلى الحديقة نتمشى، فأنا لم أمارس أى رياضة هذا الصباح.

خرجنا وكان الملك يريد أن يفضى إلى بما لم يشأ أن يقوله داخل جدران القصر، ولم ينتظر طويلا عندما وصلنا إلى الهواء الطلق، وراح يتحدث عن مبارك وخشيته: أنه لا يعرف ما يكفى عن علاقات مصر العربية ولا تاريخها السابق أو الجديد، ولم يقرا الملفات، وإذا كان قرأها فهو لم يستوعبها.

وأضاف الملك حسين: إن الرجل لم يتغير منذ رآه لأول مرة وهو نائب للرئيس يحمل إليه رسالة من السادات.

وراح الملك ونحن نمشى بين الأشجار يقلد الرئيس مبارك عندما جاءه أول مرة نائب للرئيس، وبرسالة منه، ويقلده وهو يفتح حقيبته، ويستخرج ملفا منها، وطبقا لرواية الملك، فإن مبارك عند بعض النقط لم يستطع شرح المقصود من الرسالة، ودقق نائب الرئيس فى أوراقه، وبدا عليه الارتباك، ثم قال: لا أعرف.. ولكن هذا هو المكوب أمامى، وعندما أعود إلى القاهرة فسوف أسأل الرئيس السادات عن مقصده، وأرجوه أن يكتب إليكم.

وعقب الملك حسين أنه لم يستطع أن يفهم: هل محدثه نائب لرئيس الجمهورية أو حامل حقيبة يلتزم بأوراق كتبها بخطه، ومع ذلك لا يستطيع شرحها.

وكان ردى على الملك حسين بأن الرجل – أقصد مبارك – ورث أوضاعا معقدة ومعظمها مشاكل عويصة وخطيرة، ومن الحق أن تترك له الفرصة.

(13)

تعرضت سنة 1986 لمشكلة صحية، وعادنى الدكتور عبد الجليل مصطفى، وأبدى رأيه بأننى فى حاجة إلى إجراء فحص طبى على القلب، وأننى ربما أحتاج إلى تغيير شريان أو اثنين من شرايين القلب، واقترح الدكتور عبد الجليل أن أذهب إلى هيوستن – تكساس، حيث أشهر مراكز جراحات القلب، وكان رأى الدكتور عبد الجليل واضحا بأنه لا يقطع ولا يؤكد حاجتى إلى الجراحة، لكن ما يقطع به هو ضرورة الفحص والمراجعة، وبعدها يكون القرار، وبدأت أتخذ إجراءات السفر إلى هيوستن.

زارنى أسامة الباز وعلم منه بنية السفر، وفى اليوم التالى جاءنى اتصال من الرئيس مبارك، وسمعت صوته على الخط يقول بلهجة يشيع فيها الود أن أسامة أخبره أننى أرتب لسفرة علاج، وأنه يخشى أن يكون: أطباؤك خوفوك.

ثم أضاف: تحت أى ظرف من الظروف لا تذهب إلى هيوستن، فهذه المستشفيات فى تكساس سلخانات وليست مستشفيات، وعندما تصل عندهم سوف تجد نفسك على سرير، والسرير فى طابور، والطابور متجه إلى غرفة العمليات، ولن يفحصك أحد، وسوف يجرون لك الجراحة، وبعدها ربما يفحصون، وهذا أسلوبهم، وأنا أقول لك لا تذهب.

وقلت مقدرا للرجل حرصه واهتمامه: أن أطبائى لم يقطعوا بحاجتى إلى الجراحة، لكنهم طلبوا الفحص والمراجعة قبل الجراحة.

وأصر الرئيس مبارك: أبدا أنا أقول لك إنهم هناك لا يفحصون، وإنما كل مريض على سرير، وكل سرير له دور فى الطابور، والطابور كله فى اتجاه واحد إلى غرفة العلميات.

رحت أضحك من الصورة التى يرسمها مبارك، مع إحساس بالعرفان لمشاعره ولاحظ ترددى ، وقاطعنى: إنه يرجو أن لا أقرر الآن شيئا، لأنه سوف يرسل إلى طبيبه الخاص وبعدها نتكلم.

وأعترف أننى وجدت وقتها على مكتبى مشروع مقال كنت أنتقد فيه بعض سياسات مبارك، وبردة فعل طبيعية أزحت الأوراق، وفى شعورى أنه لا يعقل أن أكتب نقدا لرجل يتصرف معى بهذه الرقة.

(14)

 تعاقدت مع دار " هاربر كولينز" لإصدار ثلاثة كتب عن الشرق الأوسط، وسألنى رئيس مجلس إدارتها "إيدى بيل" إذا كنت مستعدا لبدئها عن تلك الحرب فى الخليج، ووافقت، وبدأت العمل، ونشرت بعض الصحف فى مصر وخارجها أننى أكتب كتابا اخترت له عنوان" أوهام القوة والنصر".

وذات صباح فى مكتبى اتصل بى الرئيس مبارك بعد فترة انقطاع طويل، وبادر فسألنى دون مقدمات تقريبا: أنه قرأ فى إحدى الجرائد أننى سوف أذهب إلى عمان لمقابلة الملك حسين لأنك تكتب كتابا عن حرب الخليج.

وقلت للرئيس: إن ما قرأه صحيح.

وسألنى الرئيس: لماذا الملك حسين؟

وقلت: سوف أقابل كثيرين غيره، ولكن المسألة فيما يتعلق بالملك حسين أنه الرجل الذى بقى منذ غزو الكويت حتى ضرب العراق على اتصال بكل أطراف الأزمة، فقد ظل على صلة بصدام حسين وجورج بوش ومارجريت تاتشر دون انقطاع.

وقال الرئيس مبارك معترضا: أنت على خطأ فى ذلك، لأن حسين لم يكن الطرف الذى بقى على اتصال بالجميع حتى آخر لحظة، وإنما كنت أنا الذى ظل على اتصال بالجميع من أول لحظة حتى آخر لحظة.

وواصل الرئيس مبارك كلامه قائلا: والملك حسين سوف يكذب عليك وأنت تعرف ذلك.

ومع أن عبارته أدهشتنى فقد قلت: إنه من حق الملك أن يقول ما يشاء، وعلى أن أفرز ما أسمع وعلى أى حال فإن الملك أبلغنى عن طريق رئيس ديوانه بأنه رغبة منه فى إطلاعى على الحقائق كاملة فسوف يفتح أمامى كل الملفات دون تحفظ أطلع فيها على ما أشاء.

وعلق الرئيس بما يعرف عن اهتمامى بالورق، ثم أضاف: إنه بالقطع لا يعترض حقى فى مقابلة من أشاء.

بعد عودتى إلى القاهرة بثلاثة أيام تلقيت اتصالا من الرئيس مبارك بدأه بغير مقدمات: هل كذب عليك ( الملك حسين) وروى لك ما يشاء لكى يبرر موقفه؟

ولم ينتظر بل استطرد: إنه سوف يفاجئنى بما لم أتوقعه، فقد تأكد له غرامى بالوثائق، أبحث فيها عن صورة الوقائع بنفسى، وقد قرر أن يطلعنى على أوراق الرئاسة السرية، وسوف يسمح لى بقراءة ما أشاء منها، شرط عدم تصويرها،

ثم واصل مبارك: أليس مصطفى الفقى " سكرتير الرئيس للمعلومات" صديقك؟

قلت: صحيح.

قال: سوف أبعث مصطفى الفقى إليك ومعه الملفات، تطلع عليها فى حضوره، وكلما فرغت من جزء منها عاد إليك بجزء جديد، حتى تستوفى ما تريد... ما رأيك؟

شكرت الرئيس مباك بصدق على اهتمامه، ولم يمض نصف ساعة إلا واتصل بى الدكتور مصطفى الفقى ليقول: إن الرئيس أمره بأن يطلعنى على الملفات السرية للرئاسة فى حرب الخليج، واتفقنا على أن يمر على فى مكتبى غدا فى الساعة الواحدة بعد الظهر، ثم ينزل حتى يلحق بالإفطار وكنا فى شهر رمضان.

جاء الدكتور مصطفى الفقى فى موعدنا المتفق عليه، ومعه مساعد له يحمل حقيبة جلدية كبيرة متخمة بالملفات وراح وهو يفتحها جالسا أمامى يقول: إن التعليمات لديه أن أقرأ ما أريد، ولكن لا أصور شيئا.

وبدأ فاستخرج رزمة من مسيرات الرئاسة وهى الدفاتر التى تسجل ضمن ما تسجل اتصالات الرئيس وما يتم تحريره فيها بعد هذه الاتصالات.

وانهمكت فى القراءة، والدكتور مصطفى الفقى جالس أمامى يتابع ملامحى مرات، ثم يقلب ملفات الحقيبة الجلدية مرات أخرى، أو يبدى ملاحظة مرحة سريعة، لكن الرجل بيقظة سياسى خبير أحس بشعور يراودنى، وأنا أقلب أوراق أحد الملفات وأستعرض محتوياته بسرعة، وبدأ ينظر فى ساعته، وموعد المغرب يقترب، وهو مدعو للإفطار على مائدة أحد أصدقائه كمال قال.

وقررت اختصار الطرق، فقلت له بصراحة: إننى أفضل ألا أواصل قراءة هذه الأوراق، وهو يستطيع أن يأخذها معه الآن، وأظننى سوف أكتفى بما قرأت، لا أطلب مزيدا عليها يحمله إلى كل يوم.

بدت نظرة تساؤل فى عينى الدكتور مصطفى الفقى وانعكست بسرعة على ملامح وجهه، وقد أراد استيضاح موقفى، وقلت بصراحة: أن ما قرأت من مسيرات الرئاسة، جعلنى أشعر أن هذه المسيرات مكتوبة بأثر رجعى، أى بعد الحوادث وليس أثناءها، وهذا يفقد المسيرات قيمتها، لأن الأهمية القصوى للمسيرات أن يكون تسجيلها أولا بأول، فإذا وقعت كتابتها – كما أحسست – بعد فوات الأوان، إذن فهى محررة بتوجيه لكى ترسم صورة معينة قد لا تكون موافقة لحقيقة ما جرى.

وسألنى الدكتور الفقى عما يدعونى إلى هذا الشك.

قلت بصراحة أيضا: هذ ما شعرت به كرجل تعود النظر فى الوثائق.

وعاد الدكتور الفقى يسألنى: وماذا أقول للرئيس؟

قلت: إنى أترك المشكلة لحصافته، لكنى أخشى إذا واصلت قراءة كل ما يحمله اليوم من أوراق، أو ما قد يحمله إلى غدا وبعد غد، أن أكون قيدت نفسى بمصدر لا أجده أمامى مقنعا، وأنا أفضل أن أكتب ما أكتب مستندا إلى ما استطيع الوصول إليه راضيا عن مصادره، أما إذا وصلت قراءة ما جاء به إلى ولدى شكوك فيه، فإن قراءتى له سوف تضع على قيدا ربما يلزمنى بما لم أقتنع به.

وأعاد الدكتور مصطفى الفقى أوراقه إلى الحقيبة الكبيرة، ودعا مساعده الذى كان ينتظرنا خارج مكتبى كى يجئ لحملها، ويسبق بها إلى السيارة ومشيت بعدها مع الدكتور مصطفى الفقى إلى باب المكتب، منتظرا المصعد وفجأة وبصدق قدرته له  - قال الرجل: أستاذ هيكل... لا تعتمد فيما تكتب إلا على ما تثق فيه، ولا تسألنى أكثر من ذلك.

وفى اليوم التالى كان هو الذى يتصل بى يبلغنى أن أخطر الرئيس بأننى اكتفيت بما قرات مما حمل إلى من ملفات الراسة، وأن الرئيس سأله، وهو بناء على ذلك يسألنى: هل الكتاب سوف يعكس وجهة نظرنا أو وجهة نظر الملك حسين.

وقلت له بصراحة: لا وجهة نظركم ولا وجهة نظر الملك حسين، وإنما هو مثل أى كتاب يعكس جهد كاتب فى تقصى موضوعه، وهذا كل شئ.

(15) 

كان آخر اتصال مباشر بين الرئيس مبارك وبينى بعد ظهر 2 ديسمبر 2003، وكنت فى بيتى الريفى فى برقاش، عندما قيل لى إن الرئيس مبارك على التليفون يريد أن يتحدث معى، وعلى نحو ما فإن تلك لم تكن مفاجأة لأنه سبقها ما مهد لها.

سبقها أن الأستاذ إبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة دار الشروق، اتصل بى من فرانكفورت حيث كان يحضر المعرض السنوى للكتاب، يقول: إنه يظن أن اتصالا تليفونيا هاما قد يجرى معى الآن.

وتساءلت وكان التفصيل لديه أن وزير الثقافة الأستاذ فاروق حسنى اتصل به فى فرانكفورت يطلب منه رقم تليفون بيتى فى برقاش لأنهم يريدون أن يتصلوا بى.

وزادت دهشتى لأن تليفونات برقاش معروفة فى مكاتب الرئاسة، فإذا كان هناك من يطلبها الآن، إذن فإن الإتصال يجرى من خارج القنوات الطبيعية.

الغريب أنى استبعدت أن يكون الرئيس مبارك نفسه هو الذى يريد التحدث إلى، فقد كنت أعرف أن ضيقه بما أكتب وأقول قد بلغ مداه، ضايقته بشدة رسالة بعثت بها إلى الجمعية العامة لنقابة الصحفيين وهى تبحث مشروع قانون جرى التفكير فيه ومطلبه تقييد حرية الصحافة، وطلبت النقابة حضورى، وآثرت أن أكتفى برسالة إلى الاجتماع موجهة إلى مجلس نقابة الصحفيين، تلاها نيابة عنى السكرتير العام للنقابة فى ذلك الوقت الأستاذ يحيى قلاش، وكان النص يحتوى على ما يمكن اعتباره مواجهة مباشرة.

ورد فى الرسالة تعبير" سلطة شاخت فى مواقعها" وأصبح على كل لسان، بل أصبح شعار كافة المعارضين لسياسة مبارك، وظل كذلك حتى لحقته قضية التوريث، ثم جاءت محاضرة لى فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة نوفمبر 2002، تحدثت فيها عن احتمالات التوريث، ونبهت إلى مخاطره، وثارت عواصف الغضب فى الرئاسة وفى الحزب وفى دوائر السلطة والحكم.

كانت محاضرة الجامعة الأمريكية قد أذيعت على قناة دريم ثلاث مرات فى يومين، ثم تنبه المحتفلون إلى آثارها، فإذا عاصفة الغضب تطيح بكل من كان له دخل فى إذاعتها وتكرار إذاعتها، وتركز الغضب على كل رجل وسيدة كان لهما دور فى تكرار الإذاعة، وهما المهندس أسامة الشيخ مدير قناة دريم وقتها، والدكتورة هالة سرحان منسقة برامجها.

ونجا صاحب القناة الدكتور أحمد بهجت، بشبه معجزة، وقال لى بنفسه بعدها إن إذاعة هذه المحاضرة  كانت على وشك أن تكلفه 2 مليار جنيه لولا أن قدر الله ولطف، واستطاع شرح موقفه لمن يعنيهم الأمر.

فى مثل هذا المناخ فقد استبعدت احتمال أن يتصل بى الرئيس مبارك لأن حديث التوريث سوف يفرض نفسه على أى اتصال... ولكن الرجل خيب ظنى.

فهو لم يتحدث عن التوريث بكلمة، وإنما انصب كل ما قال على موضوع آخر لم أتوقعه.

جاءنى صوت الرئيس مبارك وبدون مقدمات قائلا: يا راجل ماذا تفعل بصحتك؟

كنت قد وضعت ورقا وقلما على المكتب، أحاول أن يكون لدى سجلا حرفيا وضروريا لمكالمة تصورتها سياسية، وتوقف القلم فى يدى، أكرر سؤال الرئيس ولكن موجها إليه: سيادة الرئيس  ما لها صحتى؟

قال: أنت لا تعطى نفسك فرصة العلاج الضرورى... ماذا تفعل عندك؟ لابد أن تسافر فورا إلى أمريكا وتستكمل علاجك، لأن صحتك ليست مهمة لك فقط، ولكن للبلد، فأنت أديت خدمات كبرى للشعب، ودورك فى الحياة العامة يشهد لك.

دهشت حقيقة فقد كنت أعرف ما فيه الكفاية عن رأى مبارك فى مواقفى، وفيما أكتب أو أقول تعبيرا عنها، ولم يكن فى استطاعتى وبظاهر الأمر أمامى دون حاجة إلى استعادة مخزون الذاكرة أو استقراء النوايا غير شكر الرئيس على بادرته، وكان ردى: إننى متأثر بإهتمامه، شاكر لفضل سؤاله.

ثم شرحت: إن أحوالى الصحية والحمد لله الآن طيبة، وهو يعرف أننى أجريت عملية جراحية منذ أربع سنوات، وذكرته بأنه وقتها تفضل وسأل عنى ثلاث مرات فى مستشفى كليفلاند فى الولايات المتحدة، وبعد العملية فإننى عدت إلى كليفلاند عدة مرات وقصدت إلى أوهاما مرة للفحص والمتابعة، والآن فإن ابنى الأكبر وهو أستاذ فى كلية الطب يتابع أحوالى، وهو على اتصال منتظم بأطبائى فى أمريكا، وصحتى والفضل لصاحب الفضل مستقرة لم يطرأ عليها داع للقلق من جديد.

قاطعنى الرئيس بحزم قائلا: لا لا هذا المرض لا يعالج مرة واحدة، واسمع منى.

استطرد يشرح وجهة نظره بأن صحتى مسألة مهمة، ولابد أن أعود إلى أمريكا وأكرر العودة، ثم إن هناك موضوعا يريد أن يتحدث فيه معى بصراحة، رغم أنه يعرف الكثير عما وصفه بالكبرياء، لكنه برغم ذلك مضطر إلى أن ينبهنى إلى أن تكاليف العلاج فى أمريكا نار، مهما كانت مقدرة صاحبه.

ثم يصل الرئيس إلى موقع الذروة فى كلامه: هذه المرة تكاليف علاجك ليست على حساب الدولة، وليست على حساب الأهرام، وإنما من عندى شخصيا، وبينى وبينك مباشرة دون غيرنا.

واعترضت: سيادة الرئيس أرجوك، الدولة لم تتحمل عنى نفقات علاجى فى أى وقت، والأهرام كذلك لم يتحمل مليما من نفقات علاجى حتى عندما كنت لسبع عشرة سنة رئيسا لمجلس إدارته ورئيسا لتحريره، فقد تحملت باستمرار تكاليفى بنفسى، واعتبرت ذلك حقى وحق الآخرين، خصوصا إذا كنت أقدر عليه.

ورد الرئيس أنه يعرف أن  الدولة لم تتكلف بعلاجى ولا الأهرام، لكن ضرورات صحتى تقتضى الآن شيئا آخر حتى لا يعود المرض، وكرر أن المسائل المالية سوف تكون معه شخصيا، ولك أن تطلب بلا حدود وبدون تحفظ، وأنا أعرف الكثير عن عنادك ولكن.

توقف ثم استطرد: محمد بيه... المرض ملوش كبير.

ثم يستكمل العبارة: السرطان ليس لعبة، وعلاجه مكلف وفى أمريكا بالذات تكاليفه ولعة، ونحن جربنا هذه التكاليف فى حالة سوزى" يقصد السيدة قرينته" وكانت هذه الإشارة إلى أقرب الناس إليه دليل حميمة آسرة.

والحقيقة أن إحساسا متناقضا بدأ يتسرب إلى فكرى، من ناحية فإن الرجل فى كلامه يعبر عن اهتمام واضح بأمرى، وهذا يستحق اعترافا بفضله، ومن ناحية أخرى فإن هذا العرض المالى بلا حدود، وبدون تحفظ يتبدى لى غير مريح لا فى موضوعه ولا فى شكله، ولا فى أى اعتبار له قيمة ومعنى، مهما كان حسن النية لدى قائله.

رددت بلهجة قصدتها واضحة لا تحتمل أى إلتباس: سيادة الرئيس أريد أن أضع أمامك موقفى.

العملية الجراحية التى أجريتها قبل سنوات نجحت والحمد لله، وطوال هذه السنوات فإننى تحت رعاية طبية أثق فيها، سواء فى مصر أو فى أمريكا، ومنذ عدة شهور فقد استجد عارض عدت فيه إلى الولايات المتحدة وظهر والحمد لله أنه أهون مما قدرنا.

ولو جد – لا سمح الله – فسوف أذهب إلى حيث ينصح أطبائى، وفق ما يروا من أحوالى.

وإذا حدث ذلك فإننى والحمد لله قادر على تحمل نفقات علاجى، فالحقيقة أن ما كتبت ونشرت من كتبى بمعظم لغات العالم وفر لى ما أحتاج إليه وأكثر.

وأضفت: أننى شاكر لكم كل ما أبديتم من اهتمام وكرم، ولكنى أعتقد أن هناك من يحتاج إلى ذلك أكثر منى، وفى كل الأحوال فإن عرضكم يأسرنى بفضله، وأعد أنه إذا حدث ولم تستطع مواردى أن تواجه ضروراتى، إننى سوف أعود إليكم، معتبرا ما عرضتم على نوعا من الاحتياطى الاستراتيجى ألجأ إليه إذا احتجت، أما الآن فليس هناك ما يدعونى إلى استخدامه.

ورد الرئيس: أنت لا تزال تعاند، وقلت لك أن المرض مالوش كبير، وأن تكاليفه فى أمريكا لا تحتمل، ثم تقول لى احتياطى استراتيجى، يعنى ايه احتياطى استراتيجى.

وقلت للرئيس والحديث كله يصبح محرجا: سيادة الرئيس هل أنا الذى اشرح لك معنى احتياطى استراتيجى، أنت بخلفيتك العسكرية تعرف ذلك أكثر منى أو غيرى معنى احتياطى استراتيجى، وما أقصده أن عرضكم رصيد موجود ماثل فى خلفية تفكيرى، ووجوده فى حد ذاته يطمئننى حتى دون استعماله، وقد أستدعيه لضرورة قصوى، لكن هذه الضرورة القصوى ليست حاضرة فى هذا الوقت.

وقال الرئيس: هذا كلام يمكن أن تكتبوه فى الجرائد، لكنه لا يودى ولا يجيب.

وانتهت مكالمتنا بطريقة حاولت كل جهدى أن تكون ودية، دون أن يضايقه اعتذارى – قاطعا – عن عرضه.

لساعات ظل حديثه يلح على تفكيرى، والحق فقد كنت حائرا فى تأويل مقاصده، فهو لم يذكر بكلمة ما قلته فى محاضرة معارضة التوريث، ولم يشر إليها بكلمة واحدة خلال مكالمة زادت عن عشرين دقيقة.

ثم إنه أبدى حرصا لا يصح لى أن أقابله بشك فى نواياه، لكنى بأمانة تصورت أن المسألة يجب وضعها فى إطارها الصحيح، بمعنى أنه من باب التجنى أن أشك فى النوايا، فإن من باب السذاجة أن لا يرد الشك على بالى، وأن يكون لهذا الشك متنفس.

وعلى نحو ما فقد تصورت أن أسجل الواقعة فى خطاب شكر مكتوب أبعث به إليه من باب الوفاء، وفى نفس الوقت لكى يكون هناك مرجع لا يترك مجالا لسوء فهم، وجلست فكتبت له خطابا مختصرا سجلت فيه ما دار بيننا.

وكان نصه بالحرف: سيادة الرئيس لا أعرف كيف أعبر لكم عن عرفانى بالفضل، وتقديرى لحديثكم التليفونى المستفيض مساء الآثنين 2 ديسمبر سؤالا عن صحتى واهتماما بأمرى، واعتقادى أن نصيحتكم بشأن ضرورة ذهابى لفحص شامل فى الولايات المتحدة الأمريكية نصيحة سديدة النظر، وحقيقية بحكم تقدم العلوم والتكنولوجيا، وبالفعل فإننى كنت فى الولايات المتحدة الأمريكية فى شهر مايو الأخير على موعد مع الدكتور " أرميتاج" عميد كلية الطب فى جامعة نبراسكا ( أوهاما) الذى قيل لى إنه من أبرز الاختصاصيين فى العارض الصحى الذى تعرضت له أوائل الصيف، وسبب ضغطا على القصبة الهوائية، كانت له مضاعفات حتى على صوتى، وقد وضع الدكتور أرميتاج خطة علاج جرى تنفيذها حتى على صوتى، وقد وضع الدكتور أرميتاج خطة علاج جرى تنفيذها فى مصر، ويبدو لى أن نتائجها ناجحة بدرجة كبيرة حتى الآن، وأنوى بمشيئة الله أن أعود إلى الولايات المتحدة لمراجعة أخرى.

إننى لا أستطيع أن أشرح لكم كيف تأثرت بعرضكم الكريم فى شأن تكاليف العلاج، وكانت عفويتكم آسرة حين أشرتم إلى أنكم وليس أى مؤسسة أو دولة سوف تتحملون بها، تقديرا كما تفضلتم لرجل له قيمته، وداعين إلى أن أطلب بغير حساسية وبغير تحفظ، وذلك كرم عظيم، وكان من دواعى تأثرى أنكم تعرفون سيادة الرئيس مما أكتب وأقول إننى على خلاف مع بعض توجهات السياسة المصرية وأن تتجلى مشاعركم على هذا النحو الذى تجلت به، فإن ذلك دليلا على حس صادق، يقدر على التفرقة بين العام والخاص وبين السياسى والإنسانى.

وقد أعجبنى قولكم إن المرض مالوش كبير لأن تكاليف العلاج فى أمريكا مهولة، وبالفعل فإننى جربت ذلك مرتين من قبل، لكن الصحة تبقى أغلى ما يحرص عليه الإنسان.

إننى سوف أحتفظ بعرضكم الكريم معى، وسوف أعود إليكم فى شأنه عند الحاجة، معتبرا أنه احتياطى استراتيجى ( كما يقال) يريح وجوده ويطمئن، وذلك فى حد ذاته فضل لا ينسى، ونبل قصد يستحق كل عرفان ووفاء.

سلمتم سيادة الرئيس مع أخلص الشكر وأعمقه وتقبلوا موفور الاحترام.

محمد حسنين هيكل

القاهرة فى 3/ 12/ 2003 .