الأربعاء 29 مايو 2024

من بلد حلاوة المولد.. حكايات زمان عن «العروسة والحصان».. فن وصنعة

تحقيقات29-10-2020 | 11:40

برغم انتشار شوادر بيع حلاوة المولد في كل أنحاء مصر؛ إلا أن المولد النبوي الشريف بمنطقة "السيد البدوي" في طنطا له طابعه وروحانياته الخاصة.

 فبمجرد خروجك من محطة قطارات طنطا التاريخية المواجهة للمسجد الأحمدي ترى شتى مظاهر المولد النبوي في كل مكان، تجد الأطفال وقد تزينت أيديهم بحمصية وملبن وعروسة وحصان، فتتذكر سريعًا كلمات عمنا صلاح جاهين والتى غناها محمد قنديل فى الثمانينات "حلاوة زمان عروسة وحصان.. آن الآوان تدوق ياوله"، ولأننا جميعًا متفقين على جمال طعم هذا النوع المميز من الحلوى، فتقدم السطور التالية بعضًا من أسرار صناعتها مبحرة بنا في زمان بعيد يبدأ من الجاما البيضة وينتهي عند حلاوة محمد صلاح.

 البداية عندما التقينا الحاج " العربى عوارة" والذي ينتمي إلى عائلة عوارة صاحبة الباع الكبير فى صناعة حلوى المولد، والذي يعمل فى هذا المجال منذ 65 عامًا، منذ عمر السابعة متوارثًا هذه المهنة من جدود الجدود، حيث ذكر أنهم جاءوا إلى طنطا من المغرب كمريدين للسيد البدوى واشتغلوا بتجارة الحمص وبعدها الحلاوة، ومن هنا يمكن أن نعرف سر ارتباط الحمص بالحلاوة، فيبين عوارة أن حلاوة المولد فى البداية كانت تسمى "جاما بيضة" وكان يتم تكسيرها بالشاكوش وإعطائها للمشتري ومعها بعضًا من الحمص لتصبح مع مرور الوقت الحمصية أشهر أنواع حلوى المولد النبوي الشريف، وعلى غرارها تنوعت الأطعم فتم تصنيع الفولية والسمسمية وباقى الأنواع المشهورة الآن.

وعن طريقة تصنيع الحلوى يوضح "عوارة" أن قديمًا كان العمل كله يديويًا والمكونات كانت عبارة عن سكر من مصانع نجع حمادي وعسل جلوكوز وكنا نحصل عليه من مصنع "كوتسيكا" بسكة حلوان وكان عبارة عن قوالب وليس شراب بالإضافة الى المادة الخام مثل السمسم أو الفول السوداني أو الحمص، فى البداية يتم وضع السكر على النار حت يصبح كراميل ثم وضع عسل الجلوكوز وبعد ذلك يتم أخذ هذه المادة وضربها فى مسمار مسلح مسطح حتى تصبح بيضاء ثم يتم وضع الإضافات مثل الحمص ويتم فردها يدويا وقصها بمقص يدوى فكانت مهنة مرهقة جدا أما الآن فمعظم هذه الأعمال الشاقة تقوم بها الماكينات الحديثة حيث يتم وضع السائل فى "المكد" بدلا من ضربه فى المسمار المسلح ويتم القص بمقص كهربائي وأيضا التغليف الآلى .

  وعن حجم الاستثمارات في هذه الصناعة يشير عوارة إلى أن حجمها يتجاوز 3 مليارات جنيه ويعمل بها حوالى 6000 عامل وعن المنافسة بين طنطا ودمياط قال طنطا تتربع على عرش حلاوة المولد فى العالم ومحلات دمياط تشترى من مصانعنا حلوى العلف تحديدا حتى العمالة التى تعمل هنا فى مصانع حلوى المولد من طنطا.

   وبابتسامته التى لم تفارقه طوال حديثه عن المهنة التى يعشقها وأثناء تدخين بعض الأنفاس من "أرجيلته" المثبتة بجواره بادرنى بالقول حلاوة المولد تتجلى فيها الوحدة الوطنية بوضوح وتؤكد أن مجتمعنا نسيج واحد حيث لدى زبائن كثير مسيحيون يشترون حلوى المولد ولو كان فيه يهود كان اشتروها كمان واستطرد حلاوة المولد طقس مصري أصيل صحيح أنه يخص مولد سيدنا رسول الله، إلا أن إخواننا المسيحيين يشاركوننا الفرحة به.

  وعندما سألته هل مازال هناك من يشترى حلاوة المولد لتوزيعها على الفقراء؟ أجاب أنه كل عام يشترى منه بعض فاعلى الخير حوالى 3000 علبة لتوزيعها على الفقراء حتى يفرحوا بالمولد وأن هذه عادة كل عام.

  وعن التصدير قال إن مصر تصدر حلوى المولد لكل دول الخليج وتباع هناك كوحدات منفصلة وليست في علب.

  وعن الخامات المستخدمة في الصناعة أضاف أنها كلها خامات محلية ماعدا المكسرات.

 ومع اشتداد حركة البيع والشراء داخل المعرض قال لى إنه لم يرفع الأسعار عن العام الماضى على الرغم من ارتفاع أسعار الغاز والخامات إلا أنه مساهمة منه فى محاربة الغلاء قرر بيع الكيلو المشكل علف ومربات بسعر 50 جنيها وهو نفس سعر العام الماضى.

  الفضول دفعنا إلى طلب الدخول إلى المصنع حتى نشاهد طريقة عمل هذه الحلوى التى طالما عشقناها من الصغر، على الرغم من استحالة موافقة أى صاحب مصنع على دخول مصنعه وتصوير العمال والمكن إلا أن الحاج عوارة سمح لنا بالدخول والتصوير فى جرأة يحسد عليها.

 وفى الطريق سألناه عن سر اختفاء عروسة المولد الحلاوة وكذلك الحصان أجاب أنه بسبب تغير عادات الاجيال الجديدة عن القديمة فقديما كانت العروسة والحصان من الطقوس الرئيسية لمولد النبى وأن يتم صبها فى قوالب لتأخذ الشكل المتعارف عليه.

 وأشار إلى أحد الأحصنة الحلاوة الكبير بداخل المصنع وقال أنا أصنع كل سنة لمزاجى لأنى تعودت على ذلك من الصغر ونادرا ما يشتريه أحد الآن ولكن هناك بعض كبار السن يصرون على شراؤه لأحفادهم وعن مكوناته قال أنه يتكون من النشا والسكر والماء ولذلك ممكن عمله مهلبية أو أرز بلبن.

 فى داخل المصنع العتيق والذى يرجع تاريخ إنشائه إلى ما يزيد عن النصف قرن وهو أحد أكبر خمس مصانع لصناعة حلوى المولد بمصر، يقف أحد العمال أمام قدر كبيرة مصنوعة من النحاس وبتركيز شديد يقوم بتقليب اللوز مع السكر والعسل الجلوكوز لصناعة اللوزية فى درجات حرارة عالية غير عابئ بمن حوله حتى يقوم بالتسوية "المظبوطة" وبعد ذلك جاء عاملان رفعا القدر من على النار وقاموا بإفراغ محتوياته على رخامه، بعدها قام عامل آخر بتهوية اللوزية استعدادا لفردها وتقطيعها ثم بعد ذلك الذهاب بها الى خط التغليف.

 "العمل هنا مثل خلية النحل".. يقول محمود عوارة مدير المصنع الذى يحرص على تذوق كل المنتجات للتأكد من جودتها، حيث يرى أن أهم شيء فى الصنعة الحفاظ على الجودة مهما كلفنا، وأضاف أن هذه العمالة الموجودة بالمصنع مستمرة طوال العام وليست موسمية وهم عبارة عن 13 عاملا وفى الموسم ممكن الاستعانة بثلاثة آخرين، ويضيف أن تعمل النساء أيضا في هذه المهنة من خلال التعبئة والتغليف.

 ويصل أجر العامل الشهري حوالى 3000 جنيه في مدة عمل 8 ساعات حيث أن المصنع يقوم بإنتاج حلوى المولد طوال العام ويقوم بتوريدها إلى كثير من المحلات الكبرى وكذلك المحافظات الأخرى، مؤكدًا وجود تفتيش دائم من الصحة والتموين للتأكد من سلامة الحلوى .

 وأكد أحمد السيد أحد العمال في المصنع علي حبه لهذه المهنة لأنها تؤدي الي إسعاد الناس كما أن بها فن وصنعة، مضيفًا أنه تعلمها من والده وأن كل شخص له دور محدد يقوم به في العمل فأي غلطة حتي ولو بسيطة تؤدي إلي تلف المنتج.

  وبجلباب ريفي جميل تقف سعاد على خط التعبئة والتغليف حيث تعمل خلال موسم مولد النبي لتساعد زوجها في مصاريف المنزل وقالت إن عملها لا يحتاج الي خبرة فهي تضع قطع الحلوى علي خط التغليف ويقوم عامل آخر باستكمال المهمة.

 وبعد انتهاء زيارتنا لأحد أقدم المصانع التاريخية للحلوى فى العالم العربى كان لابد من زيارة أحد المصانع الحديثة والمتطورة، وكانت وجهتنا لأحد المصانع والمعارض على أطراف المدينة بجوار شركة طنطا للكتان التى تبكى أطلالها.

 وجلسنا بالمعرض الكبير على الطريق حيث حركة البيع والشراء لا تتوقف سواء من أصحاب السيارات الفارهة أو من راكبى الحمير من لابسى الجلاليب البلدى والبدل الأفرنجى كله يأكل نفس الحلاوة وكله مبسوط عمار يا مصر حتى حضر إلينا الشيف ناصر عويس المشرف على خط صناعة حلوى المولد الذى بدأه حديثه معنا عن الظلم الواقع على شيفات المصنعين لحلوى المولد والاهتمام بشيف الغربى أكثر على الرغم من اعتماد هذه الصناعة على خبرة الشيف فى انتاج منتج عالى الجودة.

 وأضاف أن لكل شيف البصمة الخاصة به فى الصناعة وأنه كل عام لابد من ابتكار منتجات جديدة تضاف الى المنتجات الرئيسية لحلوى المولد فمثلا العام الماضي قمنا بتصنيع حلوي دايت ولكن لم تلقي قبولا كبيرا لدي الجمهور ولم ننتجها هذا العام لتكلفتها العالية وطريقة تصنيعها تختلف عن الحلوي التقليدية وعدم وجود طلب كبير عليها أخبرته أنى شاهدت منتج جديد عند مصانع عوارة يسمي صاروخ عبارة عن حلى بداخلها كسر مكسرات متنوعة يتم الاستفادة منها بدل رميها.

وأكد أن كل شيف له طرقه الخاصة على الرغم من ثبات طريق الصناعة لكن السر فى التسوية وعن المنتجات الجديدة أشار أنهم قاموا بإنتاج "سويس رول" من جوز الهند وقمر الدين وأيضا أنتجنا "النواعم" وهذا منتج جديد يذوب بالفم وهو عبارة عن قطعة من السوداني والحلوى .

  وعن أكثر المنتجات التى يقبل عليها الجمهور أوضح أن المنتجات التقليدية مثل الفولية والحمصية هي الأكثر إنتاجا وكذلك الأكثر مبيعا مؤكدا أهمية انتقاء المواد الخام بعناية خاصة الفول السودانى يجب أن يكون بلدى وكذلك الحمص والسمسم وهذا ما يميز المصانع الكبيرة عن مصانع بير السلم.

 واختتم كلامه بالتأكيد على أهمية تحميص المواد الخام جيدا حتى تتخلص من الروائح وتعطي مزاجًا جيدًا، مضيفا أن المكن الحديث ساعد كثيرا على تطور الصناعة إلا أن العنصر البشرى هو الأهم، وتأتى المعدات في المرحلة الثانية.

 وشهدت عملية التغليف والعبوات تقدما كبيرا وأفكارا غير تقليدية فخلال تجولنا وسط المعارض والشوادر في طنطا لاحظنا اهتمام معظم المعارض أن يكون لديه علب من أشكال وأنواع مختلفة مصنعة من الخشب والبلاستيك والمطلية بالفضة ولكن كانت أحدث التقليعات هى وجود علب باسم النجم العالمى محمد صلاح لاعب نادى ليفربول الإنجليزي وأيضا علب عليها صور فريق النادى الأهلي.. وسواء حلاوة زمان أو حلاوة دلوقتى عاشت الأيادى اللى تسعد قلوب المصريين.