الجمعة 3 مايو 2024

أمى

فن31-10-2020 | 16:55

حين رحلت أمى عن عالمى جفت ينابيع الشوق تجاه مسقط رأسى.. بلدتى الصغيرة.. فقد كانت آخر عناقيد العنب التى تساقطت تباعاً وتشربتها الأرض فسكرت من نشوى هؤلاء الأخيار، الأطهار.. ماتت أمى ولم أكن بعد قد جاوزت حدود الإذاعة عملاً، ماتت وهى تدعو الله أن تشاهد اسمى على شاشة التلفاز مثلما سمعته عبر أثير الراديو، كانت تحلم لى بأكثر مما حلمت لنفسى وكانت فى أيام مرضها الأخير لا تتمتم إلا باسمى، لم يكن عندى وقتها من المال ما يكفينى لحملها وعلاجها عند أمهر الأطباء وأغلى المستشفيات، فالمرض يأتى دوماً بلا إذن منا وهو أبداً لا ينتظرنا حتى نرتب أحوالنا، ماتت أمى جسداً لكنها تعيش بداخلى، يتهادى إليَّ صوتها وهى تتمتم بدعائها لى، لم أرها فى حياتى إلا مبتسمة، فظلت صورتها عالقة فى ذهنى وهى فرحة بعودتى أو بحديثى الهاتفى معها..

ماتت من أفنت عمرها فى حب ولدها فأصبح كل حلمها فى سعادته ونجاحه، وبرغم قلة ما نالته من تعليم كانت تملك منهجاً فى الحياة.. سلاحه الحب والتحفيز، أمى لم تزعق يوماً فى وجهى، لم تضربنى فى طفولتى، كانت حنونة وحكيمة، حتى وهى تدفعنى لاستذكار دروسى بحكايات شعبية وأساطير متوارثة، وكانت تحدثنى عن ناصر والسادات وكيف تحديا واقعهما بالتعليم، فرسخت فى وجدانى أن الحراك الاجتماعى لا يحدث إلا بالتعليم.. وعندما شددت الرحال إلى القاهرة لاستكمال دراستى فى المعهد العالى للفنون المسرحية كانت أول من دعمنى، ووقفت إلى جانبى حين واجهت رفضاً من الأهل الذين يظنون أن الفن هو اللهو والضياع والفساد، كانت مؤمنة بى منذ طفولتى، وكنت أقرأ لها محاولاتى الأدبية الأولى فتهدينى آذانها لوقت طويل دون سأم منها، وكانت شريكتى فى سماع الراديو فأصبح عندى مخزون أفكار مما سمعت، واتسعت آفاق خيالى من قصص العفاريت وعروس البحر التى كانت تحكيها لى..

 رحمك الله يا أمى.. يا أكثر امرأة فى الوجود أحبتنى.

    Dr.Randa
    Dr.Radwa