السبت 27 ابريل 2024

فقه الاختلاف ومحنة الإمام الطَبري

فن31-10-2020 | 17:32

بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وما عانته الأمة الإسلامية في أعقابها من حروب وخراب وشقاق, بدلًا من التنقيب عن دوافعها لدرء تكرارها أسدل عليها الستار وتركت بذورها تنمو, لتقع بعد قرابة ثلاثة قرون حادثة مأساوية ألا وهي محنة الإمام محمد بن جرير الطبري، تكاد تتطابق أسبابها المؤلمة مع مأساة عثمان بما تزخر به من تعصب أعمى وإقحام المصالح الشخصية وأهوائها في مقاصد الدين الحنيف. 


وفي أرض العراق كانت مأساة الإمام الطبري، اعتدى عليه عوَام الحنابلة في المسجد أثناء تدريسه المذهب الشافعي بعدما اتهموه - وقتها - في دينه وعقيدته حين خالف الإمام أحمد بن حَنْبَل في بعض من آرائه, رفضوًا فكرة أي اختلاف عن المذهب الحنبلي, لم يراعوا علمه وفضله على الإسلام ولا عمره الداني من التسعين, بإيعاز وتحريض من رءوس الحنابلة في العراق حاصروه في داره لمدة تقترب من العام، ولما توفي الإمام في بيته كمدًا، لعنوه وحرّموا دفنه في المقابر, فدفنه تلاميذه في ساحة بيته سرًا !

  

*الحنابلة فوق أنقاض المعتزلة :

في عهد الخليفة العباسي المأمون راج فكر المعتزلة (فرقة إسلامية تنادي بإعمال العقل في الدين) واعتبروا أن القرآن الكريم مخلوق, وهو ما يسمى في التاريخ باسم "محنة خلق القرآن" واقتنع الخليفة المأمون بهذا الفكر وعزل وحبس كل من يخالف آراء المعتزلة، وكان الإمام أحمد بن حنبل المتصدي الأكبر لهذا الفكر, فتعرض للحبس لمعارضته الخليفة, ولكنه ظل ثابتًا على موقفه رغم تعرضه للتعذيب, حتى جاء الخليفة المتوكل بعد المأمون وأنصف الإمام أحمد وأنهى أي وجود للمعتزلة؛ وبعد صمود الإمام أحمد أعجب به الناس واتبعوه, لينتشر المذهب الحنبلي في العراق كلها.


وفي أواسط العصر العباسي الثاني عاش الإمام الطبري (224-310 هجرية) ببغداد، واتسمت تلك الحقبة بالريبة تجاه فلول المعتزلة أو الشيعة أو الرافضة, وامتد الترهيب تجاه كل من سعى - ولو انتمى إلى الأشاعرة السنة - نحو أي محاولة للتجديد أو الإضافة داخل المذهب الحنبلي نفسه أو أي مذهب آخر. 


* لأهواء شخصية أم لصالح الدين :


كان على رأس الحنابلة في العراق أبو بكر بن محمد أبي داود, لم يتبوأ مكانته من علمه قدر ما استمدها من حب جماهير الفقهاء والعوام الحنابلة لأبيه الحافظ الكبير أبي داود تلميذ الإمام ابن حنبل والمقرب منه, اشتبك أبو بكر مع الطبري فكريًا فيما تعلق بمناقشة بعض الأمور العقائدية أهمها رفض الإمام الطبري لعقيدة " الإقعاد" التي كان يروج لها أبو بكر بن أبي داود، ومفاد هذه العقيدة أن بعض الحنابلة ومنهم أبو بكر يفسرون "المقام المحمود" بإجلاس المولى - جل وعلا- للنبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش يوم القيامة، وكتب الإمام الطبري جزءاً بيّن فيه بطلان هذه العقيدة والحديث الذي ورد في شأنها، وكان أبو بكر عدو الطبري نفسه من رواة هذا الحديث، مما زاد من كراهية أبي بكر وحزبه له.


لم يتفق الرجلان أبدًا, وذلك أمر متصور بين كل الأقران في كل العصور, غير أن الخلاف نزل من منصة الجدل الفقهي إلى العداء الشخصي, ولا سيما أن الإمام الطبري كان في ذروة مجده وقد اجتمعت عليه كلمة الأمة الإسلامية، وراجت كتبه وآراؤه بين الكافة ولعلها صادفت قبولا عند الحاكم، إذ عرض على الإمام ابن جرير الطبري منصب القضاء في بغداد مرارا ورفضه على الرغم من بريقه، وهنا قد أضمر أبو بكر السوء للإمام الطبري واستغل تعصب الحنابلة لمذهبهم، وقال إن الطبري ينكر الإمام أحمد إذ أنه - الطبري - قام بتأليف كتاب في اختلاف العلماء والمذاهب في الأمصار، وكان كتاباً ضخماً وحافلاً إلا أنه لم يذكر فيه المذهب الحنبلي، حيث كان يرى أن الإمام أحمد معدود من جملة المحدثين وليس من جملة كبار الفقهاء، ولا شك أن هذا الصنيع منه فيه شيء من التحامل على الإمام أحمد، فمذهبه الفقهي معروف ومدون، وتلاميذه كانوا يملئون العراق، غير أن الإمام الطبري ربما كان معذوراً بأن المذاهب الأخرى كانت أقدم وأكثر شهرةً ورواجاً في العالم الإسلامي، ومذهب الحنابلة كان قاصراً على العراق فقط .


خطيئة التجديد : 


سرعان ما أُلقيت في وجه الطبري التهم الجاهزة لكل زمان ومكان: التكفير والإلحاد والزندقة، توجه لكل من يطرح شيئا حداثيًّا في الدين، ومن يخالف الفقه السائد أو ربما اعتبارات ومصالح القائمين عليه، ثارت بعدها جموع الحنابلة, وأقحم العوام الجهلاء أنفسهم في قضية الحكم على مدى مصداقية إسلام وإيمان الإمام وشيخ الإسلام ابن جرير الطبري وتداولها كل لسان, وقد انتهوا - العوام - وكأنهم شقوا عن ما في صدره أنه شيعي وملحد ومن الرافضة، وكل تهمة تناقض الأُخرى.  


فيما وقف فقهاء الحنابلة وكبيرهم أبو بكرٍ يتفرجون على ما حاق بالإمام الطبري من سوء أدب واعتداء عليه ومنعه من الخروج من بيته دونما تدخل من جانبهم, بل راحوا يشعلون نار العامة من الناس ضد سائر الشافعية، وفي ذلك المقام نجد أن الحنابلة قاموا تجاه الإمام الطبري والشافعية بالدور نفسه الذي قام به المعتزلة تجاههم في عهد الخليفة المأمون من عنف وإقصاء ورفض.  


ليذكُر ابن الأثير في مؤلفه (الكامل في التاريخ) عن الطبري قائلًا: وفي هذه السنة  - يقصد 310 هجرية - توفي محمد بن جرير الطبري ببغداد ودفن ليلا بداره لأن العامة من الحنابلة اجتمعت ومنعت دفنه نهارًا وادّعوا عليه الرفض - أنه من الرافضة - ثم ادّعوا عليه الإلحاد، وكان علي بن عيسى يقول "والله لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه".   


حنابلة بغداد فكرة مستمرة : 


يتربع الإمام الطبري على قمة تصنيف علماء الأمة علمًا وفقهًا وغزارة في المعرفة، فهو رائد علم التفسير بمؤلفه المعروف بتفسير الطبري (جامع البيان في تفسير القرآن), (تاريخ الرسل والملوك)، الذي افتتح مدرسة المؤرخين المسلمين, وعشرات الكتب التي أسست لعلوم محدثة, وفتحت آفاق المعرفة مثل (المحاضر والسجلات, ترتيب العلماء, التبصير)، وقد قال أهل العلم والمعرفة بفضله في شتى المناسبات وذكروه بالصدق والورع والتقوى, وأكدوا بفضله على الإسلام وانتفاع الفقهاء به وسائر المسلمين. 


ورغم كل هذا القدر السامق بين العلماء والإنتاج الفقهي الكبير نفى التعصب وعدم قبول الآخر تلك القيمة, وربما لو امتد العمر بالإمام لخرجت دعوات بحرق كتبه وإعدامها ومنع تداولها بين الناس مثلما حدث مع غيره من الأئمة والأدباء والفلاسفة, وما كانت وصلت إلينا كل تلك الدُرر الفكرية من الإمام الجليل وفاتت على الأمة الإسلامية بأسرها, وفضلا عن أنه من المؤكد أيضًا أنه كان هناك من بين تلاميذ الطبري المعاصرين القدرة على التطوير والتجديد اقتفاءً لأثر أستاذهم، كما فعل الطبري مع أستاذه الإمام الشافعي, ولكنهم تراجعوا هم ومن جاء وراءهم خشية أن يلقوا مصير إمامهم بسبب الترهيب الفكري في ذلك الوقت من حنابلة بغداد لمن يخالفهم الرأي والمذهب.   

التعصب والجهل بفقه الاختلاف لحنابلة بغداد عصف بالدين وأهدر العلم، ومأساة الإمام الطبري ليست بجديدة على أمثاله من العلماء والفقهاء والاُدباء, وكذلك فهي ليست قضية الحنابلة والشافعية والمعتزلة، إنما جريرة غلق مبدأ الحوار والنقاش العقلاني، وستظل تحدث كل وقت طالما آفة التعصب ورفض الآخر كامنة في النفوس وتتحكم في العقول.


 

    Dr.Randa
    Dr.Radwa