ليل شتوي برده قارس يفرض على الناس أن يلزموا منازلهم، الأبخرة العالقة في جو الطرقات الضيقة تحجب الرؤية، يد تمتد نحو جسدي تتحسسني من جبيني وبطني، وبعدها هرولت صاحبة اليد نحو منزل جدي طلباً للنجدة فلم تجده (كان مسافراً) وعمها كان ينام بجوار ماكينة الري الجديدة والطريق صعب للوصول إليه.. عادت يدها تربت على ظهري ثم حملتني على كتفها نحو سبعة كيلومترات (هى المسافة من قريتنا وصولاً لمدينة نجع حمادي) على الرغم من أن والدتي تعاني حساسية الصدر وكنت أسمع صوت تنفسها العالي جراء سرعتها في المشي حتى تلحق بالأطباء في منتصف الليل كي يتم الكشف عليّ في مستشفى المدينة بعدما قطعت الطريق للوحدة الصحية ووجدتها خاوية من الأطباء إلا من غفير رد علي صرخاتها ليقول لها: "محدش موجود من الدكاترة.. روحى بيه النجع" يقصد نجع حمادى، ومازالت تحملني على كتفها بعد الكشف عليّ بحثاً عن الدواء الذي كتبه الطبيب، ووجدت الدواء بعد مشقة وكانت هذه الأجزاخانة كما هو مكتوب عليها متخصصة في تركيب الدواء، وبعد أن نظر الطبيب في الروشتة وقام بتركيب الدواء جلست والدتي على الرصيف وأعطتني الدواء، وبدأت رحلة البحث عن سيارة خاصة للرجوع، ورفض السائقون التحرك في منتصف الليل في الطريق غير المعبّد الملآن بالطمي الذي خرج لتوه من الترعة بعد تطهيرها السنوي في موسم الجفاف في شهر يناير من كل عام، وقررت العودة ومعنا خالتي الصغيرة التي قامت بحملي على كتفها قدر استطاعتها لمساعدة أمي.
مرت الساعات الأولى من النهار ولم تفارق والدتي فراشي ولم تفارق نظراتها حركة التنفس، وكأنها كانت تخشى أن تتوقف حركة التنفس لو غابت بنظرها عن وجهي.
بين الحين والآخر تمتد يدها تتحسس جسدي الذي كان بدأ يهدأ وبدأت أساريرها في الانفراج وكانت تتسع وتضيق ابتسامتها طبقاً لحالتي حتى أتم الله شفائي وسمعت ضحكتها مرة أخرى.
علمتني والدتي كيف أكون مسئولا عن البيت، فوالدي الغائب للبحث عن "لقمة العيش" في الخليج ترك خلفه رجلاً يتحمل المسئولية.
كعادتنا عندما تحدث حالة وفاة في العائلة لابد لكل أفراد العائلة أن تقوم بإعداد الموائد لمدة 5 أيام (غداء وعشاء) وكان موعد الغداء هو صلاة الظهر وموعد العشاء صلاة المغرب، وهذه المواعيد مقررة حتى المعزين لا يأتون في هذه التوقيتات إلا من كانوا على سفر أو غرباء عن القرية.
كانت " الطبلية أو الصينية" التي تخرج من منزلنا والتي تحمل اسم والدي لا يخرج بها سواي، فكانت أمي ترفض أن يقوم بإخراجها أحد من أبناء عمي الكبار أو حتى والدها - جدي- فكانت تقول لن يخرج بصينية الحاج ناجح سوى ولده.
رغم أن حمل الصنية كان ثقيلاً وكنت في الصف السادس الابتدائى إلا أنها كانت تقوم بإعطاء أولاد عمي الصغار بعض قطع اللحم كي يساعدوني في حمل المائدة حتى باب "المندرة" التي يقام فيها العزاء، وتوصيني أن أحرص أن يكون أقرب أهل المتوفي على مائدتى وكانت تقول لي "لا تجعل أحد يستصغرك وأثبت لهم أنك أهم وأقوى من أكبر كبير في العائلة".
كنت أتحمس مع الكلمات حتى أننى ذات مرة طلبت أن يجلس كل الغرباء على مائدتي، ولصغر سني واندفاعي أقسمت على كل الموجودين إذا لم يأت فلان وفلان على مائدتى سآخذ المائدة كما هى ولن يأكل أحد عليها، وبالطبع أنا لن أدخل هذا العزاء حتى انتهاءه، وعلى الرغم من أننى كنت أصغر من يقومون بهذا نظراً لأنني كنت أمثل والدي إلا أن الجميع كان يحترم ويقدر ذلك.
عندما أقسمت في المندرة على الغرباء استحسن أهل المتوفي ذلك واعتبروه نوعاً من الجرأة والكرم، وكانوا متفهمين لذلك كان لي ما أردت حتى أن بعض الموائد كان يأكل عليها أصحابها ومائدتي عليها أربع أو خمسة أشخاص، كانت والدتي تجعل المائدة عامرة وتقول لي حتى تكون مائدتك أفضل الموائد على الإطلاق وحتى إذا كانت هنا غرباء تكون أنت "السند" لأولاد عمك من أهل المتوفي.
كانت الأفراح وطقوسها أيضا في الصعيد تجعل مني "كبيراً" وسط أولاد عمي وأهلي رغم صغر سني وحجمي بينهم، فكنا إذا ذهبنا وهممنا بالدخول قدموني في الصفوف وحجزوا لي مكاني في المقدمة، بالطبع كان لأمي الفضل في تعليمى فكانت تجتهد وتقتصد حتى أحصل على الدروس، وأعتقد أننى كنت الوحيد الذي كان لديه مكتب وأباجورة للمذاكرة كما كنا نشاهدها في الأفلام والمسلسلات.
عندما مرض والدي كانت والدتي بمثابة أمه وزوجته، تحملت ما لا يطيقه بشر وكانت تتحمل ألم مرضها ومرارة مرض زوجها وكانت تقوم على رعايته، وأشهد الله أنها لم تضبط مرة متأففة أو حتى غاضبة من مرض والدي بل كانت دائماً هى "الضهر والسند" لنا جميعاً.
هي من علمتني المسئولية والرجولة والحرام والحلال والعادات والتقاليد، وأعلم أننى مهما كتبت أو حكيت فلن أوفيها حقها أو جزءاً منه، فكل كلمات الدنيا وكل حروف اللغة مهما بلغت الكلمات والحروف لن تفيها حقها أو تعوض لحظة ألم عاشتها.. أعطاكي الله الصحة ومتعك بالعافية يا أمي يا كل شيء في حياتي.