(آسيا المائدة الباذخة)()للكاتب إبراهيم المليفي()،واحدة من الكتابات الإبداعية في أدب الرحلة المعاصر،عرض فيها للنماذج الآسيوية، وتجاربها في النهوض، وعرَّفنا عليها من خلال رحلاته في القارة الآسيوية، والتي لقبَّها بالمائدة الباذخة، ورحلاته الواردة في هذا الكتاب توزَّعتْ على ست رحلات: ثلاث رحلات منها إلى دول جزيرية، هي ماليزيا، وتايوان، سيريلانكا، وثلاث رحلات إلى تايلند، وفيتنام، وإيران.
وسواء كان الهدف من الرحلة هو الرحلة ذاتها، أو كان لغرض نقل الخبرات والاطلاع على ثقافة الغير، أو لأي سببٍ آخر، فإن ترجمة الرحلة عبر الكتابة؛ يتخلق عنها طرف آخر هو المتلقي، وهو في بؤرة اهتمام الكاتب، وموجود بين السطور كلما انتقل من حدث إلى آخر؛ فجاءت الكتابة معنيَّةً بإسداء بعض الرسائل الموجهة،المعلن منها، أو الضمني مثل: استظهار الشرق كنموذج غني، ودرء مثالية الغرب طول الوقت، العلاقة الدينية القائمة على الشفافية، وقد حرص إبراهيم المليفي على رصد مظاهر التسامح على طول رحلاته.وفيما يلي سوف نقف على عتبات النص الرحلي في (آسيا المائدة الباذخة) لإبراهيم المليفي، وهي (العنوان، والمقدمة، والبداية)؛ بوصفها "علامات، ومسارات، ومشاهد لتفكيك بنية موازية للنص الرحلي، وتشغل فضاء مرآتيا."()
العنوان:
عمل المليفي على وضع عناوين لرحلاته، فقد اعتمد عنوانًا لكل رحلة، عنوانًا رئيسًا وعناوين فرعية في الموضوع ذاته، وجاءت العناوين الرئيسة والفرعية سطورًا مختصرة، ومفاتيح وإشارات دلالية موحية، فالرحلة الأولى :(بوكيت رأس مال تايلاند السياحي ... وابنها البار)، والثانية:(ماليزيا ... التسامح جوهر الحداثة)، والثالثة:( فيتنام.. انفتاح حذر وازدهار ينتظر)، والرابعة:(أصفهان درة التاج الصفوي)، وهكذا...، ويعتمد في صياغتها على الإدهاش والتشويق، ثمَّ إنك إِذا ضممت هذه العناوين إلى بعضها، وقمت بالربط بينها؛ فإنك سوف تخرج بترجمة مختصرة للشفيرة الأولى (آسيا ..المائدة الباذخة).
كذا الحال مع العناصرالتي تندرج تحت كلّ عنوان،كما في الرحلة الثانية على سبيل المثال:(ماليزيا ... التسامح جوهر الحداثة)، يندرج تحته عدد من العناصر، مثل:(نهوض وطموحات)، و(لحظة تاريخية)، و(وطن يتسع للجميع)، و(ملقا بوابة الإسلام إلى ماليزيا)، و(ماليزيا والأزمة المالية)، و(البديل السياحي)، فضلا عن إيحائية كل عنصر ودلالته، فإنها تثير قضايا تاريخية، وجغرافية، وسياسية، واقتصادية، واجتماعية، مما يكوِّن لدى القاريء ثقافة حيَّة عن هذا المكان، ويريد أن يلفت انتباه القاريء إلى خط سير الرحلة، فيقول:(من كولومبو) إلى (بيروالا)، ويزيد من التعبير عن امتداحه للرحلة بقوله:(جوامع وجامعات)؛ فيعطي المتلقي انطباعًا مسبقًا عن أهمية المكان.
المقدمة:
في(آسياالمائدة الباذخة) قَدَّم إبراهيم المليفي للرحلة الأُولى (بوكيت رأس مال تايلاند السياحي ... وابنها البار)، بقوله: " لم يكن يدري الملك التايلاندي راما الثاني الذي يمثل روح أو أحد أرواح المستنير (بوذا)، عندما فوَّض البرتغاليين عام 1518 بالتنقيب عن النحاس في إحدى الجزر التابعة لمملكته، أنه وضع تايلاند وتحديدًا جزيرة بوكيت الغنية بالنحاس على خريطة العالم لاحقًا..." ()، فكانت هذه المقدمة بمثابة لمحة سريعة وخاطفة؛ استدعتْ التاريخ بملامحه القديمة، وفسَّرتْ به حاضرًا قائمًا، بالإضافة إلى أنها منحتْ المتلقي فرصة القراءة للآتي، وما تحمله السطور القادمة في المتن الرحلي من دلالات، كما أنها أفرجتْ عن الإلغاز في العنوان.
البداية:
والمليفي في (آسيا المائدة الباذخة)، يبدأ رحلته الأولى (بوكيت رأس مال تايلاند السياحي ... وابنها البار)، بقوله: "حملتنا الطائرة متثاقلة بركابها الثلاثمائة نحو الشرق الأدنى، والذهن مليء بالصور المستنسخة الجامدة من عيون الآخرين عن تايلاند" ()، فجملة: (حملتنا الطائرة متثاقلة)؛ تمثل بداية الكتابة الخطية في الرحلة الأولى، والمشهد الأول فيها، وهي جزء لا ينفك عن النص الرحلي.
عناصر السرد في (آسيا المائدة الباذخة):
كتابة الرحلة لا تخلو من (السرد)، حتى وإن كان كاتبها لم يقصد إليه. ولم يلجأ كل كُتَّاب الرحلة إلى ممارسة الكتابة الفنية الإبداعية، فمن " الكُتَّاب من يكتفي بعرض المعلومات التي يشاهدها في رحلته، دون تدخل بلاغي... ومنهم من ينقل الصور، والمشاهد على نحو يحقق التأثير الوجداني... وهذا البعد هو الذي يملأ النفس متعة وتأثيرًا، ويجعل للرحلة سمة أدبية بدلاً من أن تقف عند حد التسجيل والتدوين والجمود"()، وفي (آسيا المائدة الباذخة)، يعتمد المليفي على السردآليةً للكتابة، ويتخذ من الحدث، والزمن،والمكان، والشخصيات، والوصف عناصر أساسية لإتمام هذه السردية، ويتجاوز رتابة المتن الحكائي، الذي لا يحفل سوى بحقيقة القصة إلى المبنى الحكائي، القائم على مستويات فنية (كسر نمطية الحكي)، وفيما يلي سوف نقف على عناصر السرد في (آسيا المائدة الباذخة) .
الراوي:
الراوي في (آسيا المائدة الباذخة)، هو الكاتب(الرَّحَّالة)، ويمثل الشخصية المركزية في الرحلة. وقد استخدم المليفي للسرد في أغلب كتابته ضميرالمتكلم،وهو صورة إقرارية لنقل ملامح الذات للآخر، ومرجعية معرفية للوقوف على معالم الشخصية واهتماماتها، ورغباتها، وانتماءاتها، وجاء في صورة (تاء) الفاعل فيقول مثلاً: " وصلتُ إلى الفندق، أخذتُ مفاتيح غرفتي، دخلتُ وقذفتُ بحقيبتي على السرير، أخرجتُ منها ملابس البحر وخرجت راكضًا نحو البحر والناس متسلحًا بالكاميرا لتسجيل هذه اللحظات النادرة."()،أو(نا) الفاعلين، فيقول: " خرجنا من مدينة أصفهان في رحلة استغرقت يومين متجهين إلى مدينةأخرى كبيرة هي كاشان" ()، وعلى الرغم من استخدام الراوي(الكاتب) لضمير الجماعة الـ (نا) إلاَّ أنه يظل هو الراوي المركزي .
الحدث:
في (آسيا المائدة الباذخة) ست رحلات، كلّ رحلة لها أحداثها، يتجلى الحدث للقاريء في تسلسل وتصاعد متنام، فطريق الرحلة واضح له بداية ونهاية، إلاَّ أنَّ الكاتب يعمد إلى الإفادة من تقنيات السرد، فيبدأ الأحداث في الغالب من مشاهد سابقة على مشهد البداية أو لاحقة به، فهو في الرحلة الأولى يبدأ السرد من نقطة سابقة على الرحلة بعدة قرون : " لم يكن يدري الملك التايلاندي راما الثاني ... أنه وضع تايلاند وتحديدًا جزيرة بوكيت الغنية بالنحاس على خريطة العالم لاحقًا" ()، وكذا الحال في الرحلة الثانية، فيبدأ السرد بتذكُّرِه لرحلته السابقة لماليزيا في أواخر التسعينيات، وكيف كان انطباعه عنها()، وفي الرحلة الثالثة، تبدأ الأحداث من عام 1986()، أي بعد عشر سنوات من قيام فيتنام، ويعطي لمحات سريعة لأحداث وقعت، كان لها الأثر في تكوين ملامح فيتنام الآن كل ذلك قبل الدخول إلى نقطة البداية لرحلته، والتي بدأت من(بانكوك)، ومطار(نوي باي) الدولي في العاصمة (هانوي)().
الزمن:
في (آسيا المائدة الباذخة) يعتمد الكاتب زمنين: زمن القص، وزمنًا قادمًا من الذاكرة، أَيًّا كان قريبًا أو بعيدًا، معتمدًا على آلية الاسترجاع، ويمكن القول :إنَّ الزمن في(آسيا المائدة الباذخة)، يتمثل وفق حالتين: حالة التوازن المثالي، الترتيب الزمني للأحداث، وحالة الانطلاق من وسط المتن الحكائي، والتي تعتمد غالبًا على آلية الاسترجاع "() ، على سبيل المثال في رحلته الأولى إلى (بوكيت)، يعود بالذاكرة إلى الوراء: " أثناء تجوالي بين الناس والدكاكين المتناثرة، تذكرت رغمًا عني حكايات عواجيز الكويت عن الأمان الخرافي الذي كانت تتمتع به أسواق الكويت القديمة، ويومها كان صاحب المحل يكتفي بقطعة قماش لتغطية بضاعته قبل الذهاب إلى المسجد، في أسواق بوكيت رأيت ماسمعته عن أسواق الكويت مع بعض الاختلاف في نوعية البضائع المعروضة..." ()، وهو في رحلته الثانية إلى ماليزيا، يكسر زمن القص برجوعه إلى الأوضاع في ماليزيا أيام الاحتلال الإنجليزي()، ثم يعود مرة أخرى إلى زمن الحكي:" وبالرغم من جولاتنا اليومية على فسيفساء ماليزيا لم نشعر بالارتواء..."(). وقد دمج المليفي باحتراف فائق بين زمن القص وكثير من الأزمنة، أو الزمن المسترجع عبر عملية الارتداد، حتى تتبدى لدى المتلقي شبكة من الأزمنة القريبة والبعيدة.
المكان:
أما المكان في (آسيا المائدة الباذخة)، فكان أكثر اهتمامًا؛ لأنَّه كان الهدف والمقصد، غير أن الأماكن ليست كلها مما تسر العين طلعتها، ولا كلها مما يعلق بالقلب عند مفارقتها، ولا مصادرة على كتابة تفاصيل الرحلة،فكل ما أحبَّهُ الرحالةُ وكلّ ما كرهه،أو كلّ ما استحسنه وكلّ ما استقبحه، كتابة، يقول المليفي:" هانوي التي بخلت علينا ولو بقطرة واحدة من ماء سمائها ودعتنا بساعتين من المطر الكثيف المتواصل ونحن في طريقنا لمطار نوي باي، وهذا ما زاد من حنقي على تلك المدينة التي لم أشعر بحزن وأنا أغادرها وربما لكونها مدينة مغلقة بعيدة عن البحر وأنا من عشاق البحر." () ، وهو انطباع خاص، وهذا طبعًا على العكس من قوله: " ونحن نغادر مدينة أصفهان لا بد أن أذكر أن الصورة التي رأيتها من نافذة الطائرة وأنا قادم قد تبددت سريعًا على مشارف المدينة "()، كما يستدعي (المكانُ) المكانَ لدى المليفي؛ فيأتي بالمكان الغائب من الذاكرة عبر الاسترجاع أو الفلاش باك، أوعلى سبيل الشئ بالشئ يذكر، فتجده حين تعرض لوصف أسواق (بوكيت)؛ يتذكر ما سمعه عن أسواق الكويت القديمة.()، ويعتمد المليفي على الوصف في إظهار ملاح المكان من حيث تاريخه، وموقعه، وأهميته. والأمثلة على ذلك كثيرة، مثل: وصفه لساحة الإمام في أصفهان().
الشخصيات:
مثل أي سرد؛ فلا بد من وجود الشخصية، ولأنَّ كتابة الرحلة تتكأ على (الواقع) كبعد أساسي؛ فإن شخصيات الرحلة شخصيات حقيقية، فهي ليست كشخصيات الرواية متخيلة() . ومن شخصيات رحلات المليفي - وهي كثيرة - التي ذكرها وعرَّف بها، على سبيل المثال: شخصية الدكتور (أحمد الفرا)()، وشخصية (السيد محمد حاجي)()، وشخصية الدكتور (علي رضا ذاكر أصفهاني)، محافظ أصفهان، وشخصية (إبراهيم مهماندوس)، المرجع التاريخي للرحلة، وشخصية (سمير ارشدي)()، وشخصية (فانيسا يوبي شي) نائبة وزير الخارجية التايوانية()، وشخصية (محمد يونس) دليل رحلة سريلانكا()، وشخصية (الشيخ محمد حنيفة محمد)()...، رئيس البرلمان السريلانكي. هذه الشخصيات، وغيرها كان لها دورها على مستوى الحدث، وعلى مستوى القص، ويختزل المليفي كثيرًا من التفاصيل، فيكتفي بذكر الشخصية ووصفها وذكر ملخص لما قدمته خلال الرحلة، وهو ما ينبيء عن كثير من التفاصيل، والأحداث المضَمَّنة.
الحوار:
اعتمد المليفي أكثر على الوصف في الكتابة كآلية أساسية وفاعلة في السرد، على اعتبار مناسبته لفن كتابة الرحلة في سياق أدبي، بينما تراجع الحوار، ومرد ذلك واضح حيث إن أدب الرحلة أو كتابة الرحلة نثرًا فنيًا، وإن تشابه شيئًا ما مع العمل السردي الخالص كالرواية فليس منوطًا بكل عناصر السرد وآلياته، ومع ذلك فقد جاء الحوار في كتابة إبراهيم المليفي، في مواطن كثيرة عبر العمل ككل، سواء كان صريحًا أو ضمنيًّا، على سبيل المثال:" سألت البائع ويدعى محمد (تايلاندي من أصول هندية) عن سعره، فأجاب هذا (بوذا) هل تريده؟ ولكن لكوني أعرف شكل بوذا جيدًا، خصوصًا الموجود في الهند ذي الثعابين، سألت محمد ومن يكون هذا؟ وأشرت إلى الموجود في يدي، قال لي هذا بوذا الصيني." ()...إلخ.
النهايات الفنية (الحبكة):
إذا كانت الحبكة لا تتخلق في العمل الروائي إلاَّ عن تواجد الصراع بين الشخصيات؛ فإنها في أدب الرحلة موجودة؛ لأن الصراع موجود منذ اللحظة الأولى من التفكير في الرحلة، موجود بين الرَّحالة، السارد أوالبطل، وبين ذاته في الاستكشاف والولوج إلى عوالم مجهولة له وغائبة عنه وعن المتلقي. ولم يغفل المليفي أن يضيف إلى الكتابة عنصر الحبكة، أوالنهاية الفنية، كما هو في (مشهد النهاية لزيارة أصفهان)، فيحدد المكان وهو(حديقة فندق عباسي) ويصفه، ويصف احتفالية الشاي والطقوس التي تحدث حال تقديم الشاي للزبائن(). ويربط لحظة الخروج والمغادرة من الرحلة بلحظة الدخول أو القدوم، يقول:(ونحن نغادر مدينة أصفهان لا بد أن أذكر أن الصورة التي رأيتها من نافذة الطائرة وأنا قادم قد تبددت سريعًا على مشارف المدينة) ()، ومشهد النهاية في رحلته الثالثة:" وكنت أُردد على زميلي: الله الدايم هو الدايم ولا دايم غير الله"() يُوحي بعدم الاستقرار، وعدمية دوام الحال، وأن البقاء لله وحده.