الثلاثاء 2 يوليو 2024

استراحة الإسماعيلية

فن31-10-2020 | 19:21

لم يكن في بيتي تليفون للاتصال به، فكان يرسل لي أخاه الصغير ليخبرني بأنه جاء من الإسماعيلية ويرغب في مقابلتي، فأذهب إليه مساءً، وأقضي معه الوقت – عادة – في شرفة شقتهم، نتحدث لقرب الفجر، ثم أعود إلى بيتي.


لكن هذه المرة جاءني أخوه، كان حزينا، قال:


أبي يريد مقابلتك.


دهشت، فأول مرة يطلب والده مقابلتي، سرت في طريقي إليه وأنا قلق، ما الذي حدث؟!


دخلت الشقة، فإذ بالصالة مزدحمة، بعض الأصدقاء يقفون في قلق، أذكر منهم محمود عوض عبد العال وعبد الله هاشم، وزميلنا  نائم على الكنبة مغمض العينين، ووالده يجلس على الأرض وهو يبكي ويقبل يديه:

أرجوك يا ابني.


وأمه تقف بعيدا وهي تبكي. 


لقد أرسل والده إلى أصدقائه لكي يقفوا معه في شدته.

قال الوالد: 


الحقوا زميلكم.


كان كالمحموم، يخرج آهة خافتة، وضعت يدي على جبهته، لم تكن حرارته مرتفعة، قال محمود عوض:

تعب، فنقلوه من الإسماعيلية.


حدثته، فأجاب بآهات كثيرة وهو مغمض العينين، قال والده:


مُصِرْ على ترك العمل في هيئة قناة السويس.


وقالت أمه: قدم استقالته قبل أن نأتي به إلى هنا.


بعد أن أفاق حكي لي ما حدث، كان في الفيللا - السكن الإداري الذي منحته إياه الهيئة - فدق التليفون، حدثه رئيسه       في العمل:

قابلني في استراحة مرشدي القناة.


اليوم جمعة، إجازة، كانت لحيته كبيرة، لم يفكر في أن يحلقها، ارتدي ملابسه، أكيد هناك مشكلة بسيطة في مواسير المياه هناك    -  فهو المسئول عن مياه مدينة الإسماعيلية-، سيأمر عماله بإصلاح العطل، ويعود إلى بيته. 


دخل الاستراحة فأحس بأن شيئا غير عادي قد حدث، حراسة زائدة، فتشوه وهو داخل، لقد دخل هذه الاستراحة كثيرا للقاء أصدقائه مرشدي القناة.


وجد رئيسه يقف مع ضابط وأربعة شبان، والمهندس المسئول عن كهرباء مدينة الإسماعيلية-  هو – مثله – تابع لهيئة قناة السويس -حياهم، ووقف بجانب رئيسه، كان الضابط الشاب يتحدث مع رئيسه في كبرياء وهو ممسك بورقة.


نريد تغييرات في الاستراحة كلها، توصيل المياه في كل الأركان، وتركيب الكهرباء هنا وهنا......

تابع الضابط وهو يشير إلى أماكن كثيرة في الاسترحة، كان الشبان يتحدثون وكأن الأمر لا يعنيهم.

ابتسم رئيسه في العمل، وقد أمسك الورقة من الضابط قائلا في ود:


سأوصل لك المياه وعواميد الإنارة  في كل مكان في الحديقة، لكن بعد أسبوع. 


وتغير وجه الضابط فجأة، شد الورقة في عنف قائلا:


لا أريد منك شيئا، سأتصل بعثمان أحمد عثمان ليأمر المقاولين العرب بفعل ما أريد.

أحس رئيس زميلي بالخوف، فاقترب من الضابط، وأمسك الورقة       منه ثانية وقال:

اِهدأ سيادتك، سأحقق لك ما تريد. 


ابتعد الشبان الأربعة، داروا في الحديقة، أشاروا إلى الجدران العالية، وابتسموا.

نظر الضابط إلى زميلنا، وقال له في جفاء:


تعال أنت.


فذهب إليه، قدم له ورقة فاضية، قائلا له: 


- أكتب اسمك وعملك وتليفونك، واسم زميلك ورئيسك. 


كان يحدثه بعنجهية، أمسك – زميلنا – الورقة، ووقف بجانب زميله المسئول عن الكهرباء، ليسأله عن قلم ليكتب به.


ظن أن رحلته إلى هذه الاستراحة لن تزيد على ساعتين، فإذ بالعملية كبيرة جدا، فالاستراحة كانت مخصصة للرئيس السادات، كان يقضي فيها الكثير من وقته، فقد أحب الإسماعيلية وارتاح إلى رفقة صديقه عثمان أحمد عثمان، لكن بعد موته في عام 1981، رفض مبارك هذه الاستراحة، مع استراحات كثيرة للسادات، فخصصوها لمرشدي القناة، لكن بعد سنوات قليلة أخرى، رغب مبارك في استردادها، فجاء هذا الضابط مع ابني الرئيس - علاء وجمال-  ومعهما ابني خالتهما لإعداد الاستراحة للإقامة.


ظل زميلنا يعمل هو ورجاله في توصيل المياه لكافة أركان الحديقة الكبيرة، وعمل زميله – مسئول الكهرباء – أيضا، ورئيسهما يشرف على عملهما، كانوا في حالة خوف وقلق، لقد طلب الضابط  تركيب ملعب كرة سلة في الحديقة، كيف سيتم هذا في هذه الساعات القليلة؟!، فاضطر رئيسهما في العمل، أن يتصل برئيس الهيئة واستأذنه في  نقل ملعب كرة السلة من نادي القناة إلى الاستراحة، وسوف يعدون ملعباً آخر للنادي في وقت آخر. 


عملوا في الحديقة حتى الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي، فلابد أن يسلموا الاستراحة كلها قبل العاشرة صباحا، لتقوم القوات المسلحة بتأمين المكان بالمجسات التي تكشف عن المفرقعات، خشية أن يكون أحد قد وضع شيئا منها.


بعد أن انتهى العمل وتسليم الاستراحة، وصل زميلنا إلى فيلته وهو متعب تماما، ما أن رأي زوجته حتى بكى بحرقة، وظل نائما كالمحموم. في الصباح ذهب إلى الإدارة وأصر على تقديم استقالته. فانتقلوا به إلى الإسكندرية. 


رفضوا في الإدارة قبول الاستقالة، وأقنعوه بأن يكتفي بالحصول على إجازة عام بدون مرتب.