الجمعة 3 مايو 2024

السخرية عند الشعب المصري

فن31-10-2020 | 21:10

السخرية فى فلسفة الفرنسى هنرى برجسون "محاولة قهر القهر" ومتلازمة مع الأزمات والواقع الإنسانى، أما النكتة فسلاح الصامتين لخلق حالة توازن نفسى ووسيلة تعبير اجتماعى، وذهب فريدريك نتشية إلى أعمق من ذلك والنكتة فى فلسفته "سخرية من موت الشعور"، وأكد سيجموند فرويد فى كتابه "النكتة وعلاقتها باللاوعى" على أهمية النكتة للإنسان باعتبارها نافذة أو وسيلة تنفيس وتفريغ للطاقات الانفعالية وضغوطات الحياة المكبوتة، ووصفها بأنها أرقى الإنجازات النفسية للإنسان لأنها تساعده فى مواجهة الإحباطات والضغوط والغضب.


لهذا فالنكتة والمزاح والتورية والسخرية والتهكم والهجاء و "القفشة" وغيرها من حيل النفس الدفاعية التى يمكن اختزالها تحت مسمى "الفكاهة" تحتل حيزا كبيرا من التراث الإنسانى للشعوب بشكل عام، وللشعب المصرى بشكل خاص.


فى كتابه "الفكاهة فى مصر" أشار الدكتور شوقى ضيف للتدليل على تأصيل الفكاهة فى مصر القديمة إلى مقولة "إنهم شعب ماكر، لاذع القول، روحه مرحة" والجملة قالها ثيوكريتوس الشاعر اليونانى الذى عاش فى الإسكندرية أثناء القرن الثالث قبل الميلاد.


مع توالى الغزاة على مصر برزت من الفكاهة السخرية والتهكم والهجاء ووصل مؤشرها إلى أعلاه حدة، وظهر أدب أطلق عليه - لاحقا - أحمد بهاء الدين أدب التشنيع، وكتب فى روزاليوسف عدد 7 يونيو 1958" إن هناك ولا شك أشخاصًا تغرى صفاتهم وطبائعهم على السخرية بهم، مثل صفات الحماقة أو الغباء أو الادعاء، ويزيد فى إغراء الناس على السخرية أو التشنيع بهؤلاء أن يكون الواحد منهم فى مكان مرموق، وأن يكون فوق ذلك مكروها" والغازى بطبعه مُدعٍ وأحمق ومغرور ومكروه، فاستحق التشنيع شعبيا كنوع من الرفض، فكانت السخرية لقهر القهر".


رفض المصرى الغزو الفارسى والرومانى واليونانى وسخر من رموزه، وكذلك رفض الغزو الفاطمى والأيوبى والمملوكى والعثمانى وسخر من رموزه.


وعن الغزو العثمانى الأكثر ظلاما كتب الدكتور شوقى ضيف "بالرغم من أن مصر أصبحت فى هذا العصر ولاية عثمانية، وأن الظلام خيم عليها فى كل شيء، فساءت أحوالها الاقتصادية والعلمية والأدبية، بالرغم من ذلك تظل لها طوابعها الفكاهية، وقد تلمع فيها السخرية السياسية من حين إلى حين".


وأوضح عبد الرحمن الكواكبى فى كتابه "أم القرى" صفات الحماقة والغباء والادعاء من جانب، والرفض بالسخرية والإهانة من الجانب الآخر.. "المغول الأتراك أى العثمانيين فإنهم بالعكس يفتخرون بمحافظتهم على غيرية رعاياهم لهم، فلم يسعوا باستتراكهم كما أنهم لم يقبلوا أن يستعربوا، والمتأخرون منهم قبلوا أن يتفرنسوا أو يتألمنوا، ولا يعقل لذلك سبب غير شديد بغضهم للعرب كما يستدل عليه من أقوالهم التى تجرى على ألسنتهم مجرى الأمثال فى حق العرب كإطلاقهم على عرب الحجاز "ديلنجى عرب" أى العرب الشحاذين وإطلاقهم على المصريين "كور فلاح" بمعنى الفلاحين الأجلاف؛ والعرب لا يقابلونهم على كل ذلك سوى بكلمتين الأولى هى قول العرب فيهم "ثلاث خلقن للجور والفساد.. القمل والترك والجراد"، والكلمة الثانية تسميتهم بــ"الأروم" كناية عن الريبة فى إسلاميتهم، وسبب الريبة أن الأتراك لم يخدموا الإسلامية بغير إقامة بعض الجوامع".


لم ينخدع المصريون بتدين الأتراك الظاهرى، وكان رد الفعل بحجم المعاناة، المقاومة والسخرية.. فكتب أحمد أمين فى كتابه "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية" "اشتهر التركى بتدينه، ولكن تدينٌ شكليٌ تنقصه روح الإسلام، فهو يُعنى بالأدب أمام تلاوة القرآن، وبإقامته الصلاة أكثر مما يُعنى بتحرى العدل ورفع المظالم وعدم الرشوة، ويعتقد أنه إذا ارتكب هذه الجرائم كلها، يرفعها عنه بناء مسجد أو سبيل أو مدرسة، ومع الأسف لقى منهم المصريون الأمرًين، ومن أمثالهم المشهورة "آخر خدمة الغز علقة" والغز طائفة من الأتراك.


المطلع على كتابات الجبرتى وابن إياس وابن زنبل الرمال وآخرين يعرف تمام المعرفة أن سخرية المصريين وهجائهم لملوك الأمراء "الحكام" والأمراء بدأت منذ بداية اليوم الأول للاحتلال العثمانى، فنالت ألسنة العوام أول ملوك الأمراء خاير بك "كان موالسا للسلطان من الباطن، وهرب من ميسرة السلطان حتى انكسر، ودخل فى طاعة ابن عثمان"، وأطلقوا عليه لقب خاين بك، وذكر المؤرخون "أنه قد حصل له غاية البهدلة من الناس" وبعد وفاته لهجت الألسنة بذمه ولم يترحموا عليه لعظم استبداده،  فكانوا يقولون إنه ينهض من لحده ليلا ويستغفر الله على ما أتاه من الشرور فى حياته، وادعى عوام مصر أنه كانت تخرج من قبره أصوات أنين فى الليالى الحالكة لأنه كان سببا فى دخول مصر آلاف مؤلفة من الجراكسة والأروم.


من كتابات المؤرخين والتى استندت إلى أقوال العوام فى الشارع المصرى يمكننا أن نذكر بعض الألقاب الساخرة والتهكمية على أمراء العثمانيين فى مصر..  


لقب قشطة بيك أطلقته النساء على أمير وتوارثه أمير " وقلدن إبراهيم أغا خازندار وإسماعيل بك الذي زوجه ابنته صنجقية وتلقب بإبراهيم بك قشطة". 


اقترنت بعض الألقاب الساخرة بحيوان الثور"وقلدن كاشفين أيضا لإسماعيل بك يسمى كل واحد منهما بعثمان صنجقين، وسكن أحدهما ببيت مصطفى بك وهو الذى يسمى بعثمان بك طبل، وعثمان الثانى وهو الذى لقب بقفا ثور وسكن بيت ذو الفقار".


والقرد، و"بارم ديله" الخليط من أكثر من حيوان "واستهل القرن الثانى عشر، وأمراء مصر فقارية وقاسمية: فالفقارية ذو الفقار بك وإبراهيم بك أمير الحاج ودرويش بك وإسماعيل بك ومصطفى بك قزلار وأحمد بك قزلار بجدة ويوسف بك القرد وسليمان بارم ذيله ومرجان جوز بك كا أصله قهوجى السلطان محمد قلدوه صنجقا فقاريا بمصر".. "ومات الأمير سليمان بك الأرمنى المعروف بـ"بارم ذيله" تولى الصنجقية سنة اثنتين ومائة بعد الألف وكان وجيها ذا مال، وتولى كشوفيات المنوفية والغربية مرارا عديدة، ولم يزل فى إمارته إلى أن توفى على فراشه سنة إحدى وعشرين ألفا بعد المائة، وورث سليمان ابنه عثمان جلبى، وأصبح فى نظر العوام "ابن بارم ذيله".


وبعض الألقاب كانت هزلية فى لفظها مثل أبو كرش وأبو مناخير"وفى الحادى عشر من شهر شوال أخرج أيضا نحو الثلاثين شخصا من الأعيان، ونفاهم فى البلاد وفيهم ثمانية عشر أميرا من جماعة الفلاح، وفيهم على كتخدا وأحمد كتخدا الفلاح وإبراهيم كتخدا مناو وسليمان أغا كتخدا جاووشان الكبير وصناجقه حسن أبو كرش.. نفوا جميعا إلى وجه قبلى".


"ومات أبو مناخير فضة وذلك أنه كان ببيت أستاذه رضوان كتخدا فى ليالى مولد النبى"

وليس بعد تشبيه شخص بالشيطان من ألقاب حادة "وانفرد أحمد بك بشناق بإمارة مصر نحو سبعة أشهر، فطلع يوم عرفة يهنئ شيطان إبراهيم باشا بالعيد فغدروه وقتلوه بالخناجر أواخر سنة اثنتين وسبعين بعد الألف".


ومن الطرافة مجاهرة الظالم بظلمه، وأن تلقبه العوام صراحة بالظالم"وكان المشارك لأحمد جريجى فى الكلمة على جاويش المعروف بظالم على إلى أن لبس ظالم على كتخدا الباب سنة ثمان ومائة بعد الألف" انقلب جريجى على ظالم على الذى التجأ لعدد من الأمراء فعاد وضمنوه واستمر فى منصبه إلى أن مات ظالم علي على فراشه سنة خمسة عشرة ألف بعد المائة".


"سافر في أواخر سنة احدى وستين بعد الألف ومائة، كما تقدم إلى ثغر رشيد ولاية أحمد باشا المعروف بكور وزير ووصل حضرة الجناب الأفخم أحمد باشا المعروف بكور وزير" وسبب تلقبه بذلك أنه كان بعينه بعض حَوَل.

ولم ينس المصريون أن يمنحوا ألقابا لغرباء الأطوار مثل أحمد كتخدا والدالى باشا "ومات الأمير المبجل أحمد كتخدا المعروف بالمجنون أحد الأمراء المعروفين.. كان يخلط الهزل بالجد ويأتى بالمضحكات فى خلال المقبضات، فلذلك سمى بالمجنون".


"حسين باشا الدالى الذى حكم مصر عام 1635م فى عهد السلطان مراد الرابع وكانت مدة ولايته سنتين ويذكر عنه أنه كان شجاعا وفارسا يميل إلى القتل فى كل مواقفه وهو أحد أهم الحكام فى تاريخ مصر الحديث وسبب تسميته بالمجنون ذلك لأنه كان يركب خيله ويسير فى شوارع مصر متخفيا ليلا فمن يجده شقيا يقتله بلا أدنى تفكير ويروي أنه قتل فى ليلة واحدة ما يقرب من خمسين نفسا وذات يوم كان متوجها إلى مصر القديمة فرأى الخلق مجتمعين فى خضرة البطيخ فهجم عليهم وقتل منهم 13 نفسا فسُمى بالمجنون، بعد عزله اتضح أنه اختلس من خزانة الدولة قرابة 1242 كيسا.


 وآخر عرف لدى العوام بالجربان"هلك بالطاعون ومات الأمير حسن كتخدا المعروف بـ"الجربان" بالشام أيضا وأصله من مماليك حسن بك الأزبكاوى وكان ممتهنا فى المماليك فسموه بـ"الجربان" لذلك، فلما قتل أستاذه بقى هو شيئا فجلس بحانوت جهة الأزبكية يبيع فيها تنباكا وصابونا".


بخلاف المجنون والجربان وبارم ديله، ذكر لنا الجبرتى وابن إياس والملوانى أمثلة أخرى لأمراء نالت منهم ألسنة العامة سخرية وإهانة وتحقيرا منهم الوزير أيوب باشا الذى حكم مصر عام 1644 وأطلقت عليه العامة لقب خيوب باشا لمحوه إصلاحات سلفه، والأمير أرزمك المعروف بـ "الناشف" لنحافته الشديدة، وابن المكسح، وزلعة السم، وجلب القرد، والخليع، والجزار، وابن قرا جهنم، وقائد نار "مات الأمير قائد أغا وهو من مماليك محمد بك أيضا وكان يلقب أيام كشوفيته بقائد نار لظلمه وتجبره وولى أغات مستحفظان في سنة ثمان وتسعين بعد الألف ومائة، فأخاف العامة وكان يتنكر ويتزيا بأشكال مختلفة ويتجسس على الناس".


تجاوز المصرى الفكاهة السياسية ضد العثمانيين، وأضافوا للفكاهة بعدا آخر يسمى التجريس إمعانا فى الكراهية الشديدة.. حيث أخبرنا الجبرتى فى أحداث عام 1123 اتفق المماليك على "رجب باشا" بعد أن قتل سلفه وأمروه بالنزول، وأنزلوه إلى بيت "مصطفى كتخدا" فاجتمعت عليه ولاد صغار تحت شباك المكان وصاروا يقولون هتاف..

 باشا يا باشا يا عين القملة

مين قالك تعمل دى العملة

باشا يا باشا يا عين الصيرة

من قال لك تدبر دى التدبيرة.


بعد سنوات عديدة من الاحتلال فاض كيل الأمراء من كثرة الإهانة فصرح أحدهم بمحضر السناجق والأغاوات فى الديوان رأيه فى ما يحدث بجملة"إن أهل مصر قليلو الحيا والأدب" وأصر على ذكر أهل مصر من أوضابشى "رتبة عسكرية" ونفر "عساكر" وعامة، وعندما سأله محمد بيك الدالى ابن إسماعيل بك الدالى بلفظ "ليش؟" ومعناها لماذا.


قال: لم يوقروا سنجق ولا أغا.


والمعنى أن كل أهل مصر مِن مَن عاصروا الاحتلال العثمانى وعلى اختلاف أعمارهم ووضعهم الاجتماعى منذ عام 1517 لم يحترموا مديرية عثمانية ولا رتبة عسكرية لمحتل.


المصادر..

النكتة وعلاقتها باللاوعى.. سيجموند فرويد

الفكاهة فى مصر د. شوقى ضيف

مجلة روزاليوسف 7 يونيو 1958

أم القرى.. عبد الرحمن الكواكبى

عجائب الآثار فى التراجم والأخبار للجبرتى

كتاب الدرة المصانة للأمير أحمد الدمرداشى

آخرة المماليك.. أحمد ابن زنبل الرمال

قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية.. أحمد أمين

بدائع الزهور فى وقائع الدهور.. ابن إياس

سخرية الرفض وتهكم الاحتجاج.. د. سيد عشماوى. 


    Dr.Randa
    Dr.Radwa