بعيداً عن القراءات المتشنجة أو المباركة لتاريخ إسلامي يحاول البعض أن يجعله تاريخا ورديا لا نقائص فيه ويسقط عليه قدسية يستمد رؤيتها من القرآن الكريم أو شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما يحاول البعض أن يقدمه هذا التاريخ وكأنه خارج دورات الحضارات التي عاشتها الإنسانية في العالم القديم وتلقي عليه كل الآثام والشرور، وكأن العالم عندما بدأت دورة حضارية شكل الإسلام والعرب أساسها كان يعيش في عصور من السلام والأمن والحرية ولما لا الديمقراطية وحقوق الإنسان.
العثمانيون الذين أقاموا إمبراطورتيهم لم يتسمى أحد منهم بلقب الخليفة بل اختاروا لقب السلطان،في تباعد مقصود مع ثقافة عربية وإسلامية أعطت هذا اللقب لكل من تولى الحكم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن كثيرين يطلقون على حكم العثمانيين لقب دولة الخلافة رغم رفضهم لأية علاقة مع منظومة الحكم التي أقرت إسلامياً منذ الخليفة أبي بكر الصديق ولغاية غزو العثمانيين للدول الإسلامية وإسقاط منظومات الحكم التي تهاوت مع انهيار الدولة العباسية.
المفارقة الثانية الغريبة أن حكمهم الذي استمر لما يقارب أربعة قرون لم يشهد أن أدى أي من سلاطينهم مناسك الحج بينما كان من عادة الخلفاء منذ إقامة الدولة الأموية أن يؤدوا الفريضة باعتبارها واجبا على كل مسلم قادر واكتفى العثمانيون بأن كانوا يشرفون على إرسال محمل الكعبة المشرفة الشامي والمصري والذي كان يجمع من أموال أهالي البلدين وليس من أموال سلاطينهم.
المفارقة الثالثة أن العثمانيين وعلى امتداد سنوات حكمهم لم يبنوا أي مدرسة في البلاد التي خضعت لحكمهم المباشر بل بقيت كل الدول القريبة وخاصة بلاد الشام ومصر مصدراً لجمع الضرائب فقط وباستثناء بعض القصور والحمامات لم يترك هؤلاء أي معلم لمدرسة أو مشفى "بيمارستان"،فمنذ الغزو العثماني لبلاد الشام ومصر ولحين سقوط حكمهم لم تبنى فيهما أي مدرسة على الإطلاق أو مشفى بل كان الولاة العثمانيون يعتبرون أن الصحة مسؤولية سكان تلك الدول والمشافي القليلة التي وجدت قبل ذلك بقيت تمول وتدار بأموال أهل الخير والتبرعات وحتى في مواسم الحج التي كثيرا ما فتكت بها الأوبئة لم يقم العثمانيون بإنشاء أي مشفى في مكة أو المدينة مما تسبب في سنوات عديدة بوقف أداء المناسك وآخرها سنة 1892.
تفنن العثمانيون في إهانة العرب المسلمين وكانت ما سمي "بالسفر برلك" 1914 ـ 1918 أثناء الحرب العالمية الثانية المجاعة الأكثر وحشية التي ارتكبها هؤلاء بعد أن انضمت الإمبراطورية المريضة العاجزة إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى ولم يكتف العثمانيون بإجبارية تجنيد كل الرجال من سن الثامنة عشر وجرهم للحرب بالقوة بل صادروا كل الحيوانات وقطعوا الأشجار ليتمكنوا من تشغيل قطار الحجاز الذي أوهم به أحد المهندسين الألمان آخر سلاطينهم بأنه سيكون مكسباً اقتصاديا وسياسيا يعزز من سيطرتهم على المنطقة وينمي مدخراتهم المالية التي أفلست جراء انغماسهم في مباهج الحياة.
كانت المجاعة التي اجتاحت بلاد الشام على يد العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى ذكرى مؤلمة جسدها الخيال الشعري والغنائي وتحدث عن أهوالها الرواة وساهمت في إفراغ المنطقة وخاصة شمال فلسطين من الرجال والشباب مما فتح الباب لتمدد الهجرة اليهودية حينها وسيطرتها على مناطق كثيرة بعد أن أجبر الفقراء على بيع أراضيهم لكي يتمكنوا من العيش إثر نهب أرزاقهم وأخذ أبنائهم للحرب التي لم يعودوا منها أبدا.
لم يترك العثمانيون غير المآسي والذكريات المؤلمة في عقول من عايشوا ظلمهم وعدوانهم، يبدو تسليمهم لكثير من الدول العربية وخاصة في شمال إفريقيا للمستعمرين الجدد الفرنسيين والإيطاليين دون أن يكلفوا أنفسهم حتى استنكار ذلك، واحدة من وصمات العار التي تلاحق سلطنتهم وتاريخها فعندما احتل الفرنسيون الجزائر عام 1832 كانت تحت حكمهم والداي حسين آخر حكامهم هناك والمولود في أزمير والذي عينه السلطان العثماني محمود الثاني سنة 1818 ترك الجزائر بعد أن احتلها الفرنسيون فغادر الجزائر إلى إيطاليا لتكون أول دولة إسلامية تفرط بها السلطنة دون قتال لصالح المستعمرين الجدد.
انفرط عقد أقاليم السلطنة واحدة تلو الأخرى فسقطت تونس تحت الحماية الفرنسية سنة 1881 وسلم الباي تونس محمد الصادق باي الحكم للفرنسيين وسكتت السلطنة العاجزة وارتضت بما جرى دون أن تعير ذلك اهتماماً سوى نقص الضرائب التي حرمت من جمعها لصرفها على بناء القصور في إسطنبول.
ثم جاء الاحتلال الإنجليزي لمصر سنة 1882 ووقف الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي في وجهه قبل أن يتآمر عليه جيش الخديو توفيق ويشارك القوات البريطانية المعارك ضده.
في 1911 تجرأت إيطاليا على سلطنة آل عثمان وغزت ليبيا لتحريرها من حكمهم وفي سنة 1912 تنازلت السلطنة رسميا في اتفاق وقع في لوزان بسويسرا عن ليبيا للإيطاليين وصدر الفرمان السلطاني الشهير في 16 أكتوبر 1912 والداي أعلن " إن حكومتنا العالية عاجزة عن تأمين الحماية، إلا أنّها مهتمة بازدهاركم في الحاضر والمستقبل، ورغبة منها في تجنّب مواصلة الحرب التي تحمل الهلاك لكم ولأسركم والخطر على الدّولة، وحرصا منها على السّلام والرّفاهية في بلادكم، فإنّني أعطيكم الاستقلال الكامل والشّامل، وستحكم بلادكم وفقا لقوانين جديدة ومن طرف هيئة خاصّـة، وبمشاركة من سكّـان البلاد أنفسهم سيتم تشكيل نظام جديد للإدارة يتّـفق ومتطلبات الأهالي وعاداتهم. وبما أن القانون عندكم سيبقى معتمدًا على الشّريعة فسأواصل تعيين القضاة الذين يختارون نوابهم من بين علماء البلاد".
كان هذا الفرمان هو كل ما خسرته السلطنة على الشعب الليبي الذي ذاق مرارة استعمار وحشي حيث أقام الإيطاليون محتشدات في الصحراء للشعب الليبى مات فيها عشرات الآلاف جوعاً وعطشاً.
الأسئلة المرة
ولسائل أن يسأل، ما هذا الوهم المعشش في عقول كثيرين حول ما سمي بالخلافة العثمانية، رغم أن سلاطينها لم يقولوا عنها ذلك، وهل في عقل المهزومين سعادة البحث عن من يستعبدهم ويوهمهم أنه قادر على الدفاع عنهم وحماية أرضهم وعرضهم الذين عجزوا عن الدفاع عنهم، وهل حقاً عاش المسلمون في عز وكرامة خلال حكم العثمانيين بينما الشواهد التاريخية في كبرى مدنهم وفي ما نقل من تاريخهم لا تتحدث إلا عن مأس وكوارث وجرائم ارتكبها هؤلاء لبناء مدينتهم إسطنبول وتعزيز حكمهم بالحديد والنار في المناطق القريبة منهم التي حكموها بالقوة.
شخصية مازوشية تستعذب تكرار تاريخ يذكرها بمآسيها واحساس بألم الإذلال بدل البحث عن عيش بكرامة.