الجمعة 29 نوفمبر 2024

فن

مساومة التاريخ الكبرى

  • 31-10-2020 | 21:21

طباعة

الرابع والعشرون من شهر أغسطس لعام 1516 بعد الميلاد؛ يوم لا يأتي مثله إلّا مرة كُلَ ألف عام , اعترض مجرى التاريخ الدافق , قيدهُ الزمانُ بمِدَادِ الدَمْ وابتلعه في جوفه معجونًا بطعمِ الخيانة ، المعركة التاريخية بين المماليك والعثمانيين في سوريا في سهل "مرج دابق". كان اليوم مُخزيًّا مثل مقتل نبي الله يحيى بن زكريا لأجل سالومي الراقصة ، حزينًا مثل اغتيال يوليوس قيصر بخنجر صديقه بروتوس ، مروعًا كما لم تصفه تراجيديا أساطير الإغريق ؛ احتلال مملكة طروادة وقتل النبيل "هيكتور" وموت الفارس الشجاع "أخيل" بسهام "باريس" الرعديد.


* يوم أوجع التاريخ: 


يوم مرج دابق؛ لم يُبَارح مؤشر الزمن قبة السماء العملاقة وتعلّق شاهدًا بصيرًا ؛ يرصُد في تأنّ الأحداث المفجعة ، حائرًا فيما سيتلوه عنه ويكتبه ، لمّا تمالك زمام أمره امتشق قلمه وكتب في خانة الأحداث الكبرى أنه يومئذ : أشرقت الشمس من باطن الجحيم ، انبرت تقذف كرات اللهب فوق أرض الشام المملوكية ، وتحت بطش أشعتها السالخة انتصب سلطان دولة المماليك "قنصوة الغوري" فوق فرسهِ الأسود ، شامخًا في عبائته الزرقاء المحزّمة ببلطة الحرب ، ومِنْ حولهِ حاشيته تؤازره وتؤيده ، على امتداد البصر يرقُب بطمأنينة وامتنان خيرة فرسان دولته الأشاوس ؛ عشرون ألف فارس مملوكي يحتلون أرض "مرج دابق" خارج حلب ، عيونهم الصَقرية تلمع أسفل خوذاتهم متقنة الصُنع ، يتحسسون سيوفهم في مغامدها تأهبًا لملاقاة جيش "سليم العابس" بن عثمان التركي ، لسحقه ثم الزحف ومطاردة فلوله نحو معقل حكمه والاستيلاء عليه في آسيا الصغرى ثم اعتلاء هضبة الأناضول ، فهم لا يقيمون له وزنًا لأنهم "المماليك" ؛ أعتى إمبراطورية عسكرية في العالم القديم ، اسم مرهوب ومجبول في صدر التاريخ بالقوة والبأس .


جوارح الطير تحوم فوق الجيشين ، تسِّن مناقيرها المعقوفة ، اشتهاءً للحم آلاف الجثث الطازجة ، لا أثر لنسمة هواء واحدة ، ورنين الصمت يطغى على الجو الخانق يُنذر بعاصفة هوجاء. وفي اللحظات الأولى للمعركة شنّ المماليك هجوما خاطفا ، نجح في زلزلة جيش العثمانيين وأنزلوًا به خسائر فادحة اقتربت من ربع قوام الجيش ، حتى  أن "العابس" فكر في عقد هدنة مع "الغوري". غير أن جيش المماليك تشتت بأثر خيانة قائد جناحه الأيسر"خاير بك" الذي انسحب بشكل مفاجئ دعمًا للعثمانين ، وأشاع أن السلطان قد قتل فانطفأت الروح المعنوية ، ثم انهار الجيش المملوكي حينما انتفضت مدافع العثمانيين تدوي ، وبنادقهم الحديثة هادرةً بالرصاص الكثيف ، يحصد أرواح المماليك المتدثرين بشرف الفروسية إذ لم يحملوا غير سيوفهم البدائية ؛ يعتبرون أن البنادق سلاح الجبناء . وقف "الغوري" يرقب بفزع وحسرة هزيمة جيشه العرمرم ، استدّار صوب الشرق وفي حسرة ألقى نظرة أخيرة على مُلكهِ الزائل ، باغتته سكتة دماغية فسقط من أعلى فرسه فتمزقت جثته تحت سنابك الخيل المفزوعة. 


مضى "سليم العابس" بجيشه الكبير إلى حلب "الشهباء" ، قزمًا حاد المزاج ، مدكوك القامة ، فوق رأسه عمامة ضخماء تقارب نصف طوله تكاد تسقط به أرضًا وهو يقتحم بجيشه سهول الشام الخصيب ، كل خطوة يتقدمها يطوي خلفها صفحة من سجل حُكم المماليك ، احتل "دمشق" عاصمة دولة المماليك الثانية بسهولة وبقي أمامه القاهرة ، بلغ وادي النيل وقرع أبواب القاهرة محاربًا جيش تفكك فِي صحراء الريدانية تحت إمرة السلطان المملوكي الأخير"الأشرف طومان باي" ، وعلى باب زويلة ؛ شنق "العابس" ، السلطان "طومان باي" ، ومن أسفل جثته المتأرجحة ، انطلق بهمجيته المتأصلة ينهب في جعبته العثمانية المسعورة ثروات وكنوز مصر، اقتاد خيرة صنّاعها وحرفييها عائدًا بهم الأستانة ، تاركًا خلفه مرثيّة معلقة على أبواب الفسطاط الخَربة ، تحكي في أسى قصة صعود العرب ثم انهيارهم ، وتحوُّل عواصم دول الإسلام الكبرى من مدن عربية مستنيرة (دمشق ، القاهرة ، بغداد) إلى بلاد فقيرة ومظلمة ، منكوبة ومستباحة. 



* سلطان الماخور الأعظم 

حقيقة المسألة العثمانية المحيرة أنه ؛ حينما استعادت القوى الأوروبية توازنها بعد فشل الحملات الصليبية على عدوها التاريخي - الشرق العربي ، عثُرت على ضالتها في جالد جديد للعرب ، وغازي لبلادهم لا يستفز المسلمين ويوحدهم كونها "حملات صليبية" . حبذّت الصراع بين الدولتين في اتفاق غير معلن جاش واعتمل في النفوس ، أراح الصدور من هزائم صلاح الدين الأيوبي لهم وشفا غليل العجز. فهكذا اتفقت جميع قوى الزمن الوسيط على تدمير بلاد الشرق العربي بلا رحمة ، وأوكلت تلك المهمة إلى دولة بني عثمان الهمجية ؛ عرق تتاري قادرًا على نسف وتجفيف منابع الحضارة . وفي اللحظة التي تمكن فيها الجهل والتخلف من بلاد العرب منارة العالم القديم ، كان الصعود الأوروبي مكوكيًا ، والتراجع العثماني بات حتميًا ؛ بذور النهاية يحملها ويغرسها كل سلطان جديد للدولة في حديقة قصره ، يسقيها بالعنصرية والعنف والصلف والجهل والتجهيل ، ثم يأتي بزرّاع محترفين يحصدوا ما زرعه السلاطين فيجنوا أفكار جاهزة ومكتملة وعلى أهبة الانتشار والتمدد في كافة ربوع العالم باسم الإسلام عن : معاداة الفن والثقافة والتجديد ، فتتمخض عن نظريات الإبادة العرقية والتهجير القسري ثم موالاة الطرد والاضطهاد والتشريد ؛ وكلٌ ممهور بخاتم خليفة المسلمين الشرعي !


واقع الأمر؛ أنّ أي مدقق عابر لا مؤرخ ألمعي يدرك أن دولة الخمسة قرون العثمانية ما هي إلّا منحى تدليس وافتراء ؛ فقد توهج النجم العثماني قرنًا واحدًا من الزمان مثل رجل شاخ في عز شبابه ، ثم استمر بعدها مسلسل التردي أربعة قرون لصالح جاره الأوروبي ، الذي أطلق عليه بتهكم خرق أسماع السلطان المهيض " الرجل الأوروبي المريض" . اتفقت القوى الأوربية على ترك الدولة الشايخة مثل ماخور(بيت دعارة) فسيح فوق سطحه القبة العثمانية ، والسلطان مثل ستارة مزركشة لا ينكشف معها الداخل والخارج ، كي لا تنفضح سوءة الأطماع الأوروبية في الأراضي العثمانية أمام بعضها البعض ، والأنكى أن السلطان - المؤمن - ارتضى ذلك الوضع بل ووقف ينظم دخول العاهرات ، ويبيع تذاكر البغاء بلا حياء. 


وتحت مظلة العدالة الربانية ، يرد المصريون على "مرج دابق" بدل الصاع صاعين بموقعتي " قونية" 1832 ، "نصيبين" 1839 ، حينما اندفع "إبراهيم باشا الفاتح" بن "محمد علي" يقود ألوية الجيش المصري عابرًا السهول السورية ، وانتزع حكم سوريا ، ثم مضى نهر الساجور ووقف على هضبة الأناضول بجيشه المصري المظفر، وسمع الفاتح اصطكاك أسنان الخليفة من قصره ، سارع يخلع عمامته الضخمة ، ويقطع على نفسه أمام القوى الأوروبية عهودًا أكثر مجونًا وتنازلات جديدة تتعلق بإدارة الماخور الأوروبي العثماني ، فانطلقت القوى الأوروبية سعيًا وصلحًا تجبر "محمد علي" في مؤتمر لندن عام 1840 أن يعفو عن السلطان حتى يتمكن من إدارة الماخور ، والإمساك بدفتر تذاكر العشق والهيام الملوّن. ثم لا يقنع السلطان ببيع التذاكر إزاء خزانته الخاوية فيسارع بالاتفاق السري مع القوى الأوروبية على المقايضة بأراضي إسلامية يحيمها باسم الشرع والدين الزائف ، مقابل أن تترك لها الأراضي القريبة من الأستانة حفاظًا على جيفة الدولة المتعتقة في تابوت التاريخ ، أو سدادًا لديون ترف السلاطين المنفقة على بناء القصور، وشراء الجواري وتربية الغلمان.  


* هدايا السلطان المبهجة   


هكذا في القرن التاسع عشر، استنفد العثمانين صلاحيتهم الافتراضية في أوروبا ، وأصبحوا عالة حتى مركز الدولة في الأستانة ، وجدوا أنفسهم بحكم موضعهم في التاريخ ، دولة محكوم عليها بالفناء ، ولا تملك غير التظاهر بالقوة ، والتشدق بالدفاع عن الإسلام ، لتسقط ورقة التوت من على مؤخراتهم في الحرب الإيطالية العثمانية ، بعدما تنازل السلطان الهزيل طوعًا في اتفاقية سلام عن ليبيا لصالح إيطاليا عام 1912، بعد وعد ألا تؤلب عليه الألبان في منطقة البلقان. ثم يأتي الخوار الأخير للثور الأعجف في الحرب العالمية الأولى، وقتما ظهر الخليفة ينادي المسلمين - في دعوة قوبلت بالفتور- إلى حرب دينية إسلامية إلى جانب الألمان المسيحين ضد باقي أوروبا المسيحية ! ظهر فوق القبة العثمانية المقامة فوق الماخور التركي وفي يده دفتر التذاكر الذي صار أكثر بهجة وإثارة ، لجمهرة الشعوب الإسلامية هزليا وضيعًا ناهبًا لأموالهم ، عمامة عملاقة مطرزة بألماظ وجواهر مدفوعة الثمن من الضرائب ، يلبسها مهرج يضع له الألمان - حلفاؤه في الحرب - الأصباغ الرخيصة بشكل فج ومزري.


 ثم يتقرر بعد الحرب العالمية الأولى هدم الماخور العثماني ، ليشيد مكانه آخر"أتاتوركيًا" يتمظهر أمام العالم كونه أكثر عصرية وأقل كذبا من سلفه ، لا يتشدق بالدين ستارًا لدعارته بل يجاهر بفجوره وعلمانيته ، ثم يأتي العصر المتأسلم "الأردوغاني" نسخة طبق الأصل من سلاطين العمامات الكبيرة في دولة تقنين البغاء الحديثة ، ليتفق مع أسياده - الأوروأمريكيين - على الولوج إلى العالم العربي بموجب اتفاق جديد ابتعثه من التابوت السلطاني القديم ، وأعاد باحترافية طباعة دفتر تذاكر ماخور البغاء القَديم ، ووزع بعض أوراقه على سبيل تقديم الهدايا المبهجة من السلطان للأسياد كفروض الولاء والطاعة ؛ فسمحوا له بتحريك قطع جيشه لنهب ثروة العرب لصالحهم من جديد ، مقابل عمولة سمسرة الحرب .

    الاكثر قراءة