افترض الكواكبى فى القاهرة ونظر إليها باعتبارها مناخ الحرية المقبول لاستكمال عمله الذى بدأه بحلب
أفرد الكواكبى فى كتابه فصلا عن نفسية المستبد وكان سابقا لعصره فى هذا الأمروناقش فى هذا الشأن كيف يفكر المستبد وكيف يتصرف وكيف يخاف من أقرب الناس إليه
"هُنا رَجُلُ الدُنيا مَهبِطُ التُقى..هُنا خَيرُ مَظلومٍ هُنا خَيرُ كاتِبِ
قِفوا وَاِقرَؤوا أُمَّ الكِتابِ وَسَلِّموا..عَلَيهِ فَهَذا القَبرُ قَبرُ الكَواكِبي"
بهذه الأبيات نعى شاعر النيل حافظ إبراهيم "الرحالة ك"، أو عبدالرحمن الكواكبى ونُقشت الأبيات على القبر الذى يحمل رفاته بالقاهرة.
هو عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي، ولد الكواكبى ونشأ فى مدينة حلب السورية عام ١٨٥٥ميلاديا التى عانت، ولا تزال تعانى الاستبداد، وتُوفي بالقاهرة فى 15 يونيو 1902م، ويعد الكواكبى أحد أعلام ورواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، والسنوات الأولى من القرن العشرين، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، واشتهر بكتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، والذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي.
درس عبدالرحمن الكواكبى فى المدرسة الكواكبية وهي مدرسة عائدة لوالده، درس فيها الحساب وشيئا من الفلسفة والقانون والرياضيات، وتلقى العلوم الدينية والدنيوية أيضاً مما وسع من مداركه وعلومه، وقام بعد ذلك بالتدريس بالمدرسة نفسها عندما كان يغيب والده أو يمرض.
منذ أن كان صغيراً، أولى الكواكبى اهتماماً بالشأن العام وتمثل فى أنه قام بفتح مكتب لكتابة الشكاوى للناس البسطاء وتوجيهها للوالى (لذلك لُقب بأبو الفقراء) ، محاولا فى نفس الوقت إعطاء هذه الشكاوى بُعدا عاما وليس خاصا بحيث يكون الهمّ عامًا وليس شخصيًا، وهو الأمر الذى عرّضه للكثير من المضايقات من قبل السلطات والوالى على الرغم من عدم تقاضيه أجرا مقابل كتابة تلك الشكاوى.
عُين الكواكبى بعد رئيسًا للبلدية وكاتبا فى المحكمة الشرعية محاولا التطوير وتقويم أوجه الخلل فى الحياة اليومية للناس والدولة بشكل عام، ولكنه واجه مضايقات عديدة ومحاولات لإفشال ووأد مجهوداته وأفكاره الإصلاحية، التى كان يسردها فى جريدة الشهباء، أو الاعتدال آنذاك فى مهدها، من جانب الوالى أو المستفيدين من الفساد أو حتى المتعاطفين مع الاستبداد؛ ووجد الكواكبى نفسه أمام ظروف وعوامل ومعطيات تُجبره على الخضوع للأوامر والإرادة السلطانية وهو الذى كان متمردا على المستبد والاستبداد بطبعه، مما دفعه لترك المناصب الرسمية التى عُين فيها.
وجد الكواكبى فى الكتابة الصحفية المجال الخصب الناشئ الذى يستطيع من خلاله أن يصل بتعبيراته وأفكاره الإصلاحية لأوسع مجال ولأكبر قدر من الناس ويحتك من خلاله بالشأن العام الذى كان يشغل جُل همه وتفكيره.
لذا كان أول عهده بالكتابة الصحفية فى صحيفة "الفرات" وكانت تابعة للدولة، وبعد وقت من عمله بالصحيفة وجد أن كثيرا من مقالاته إما لا تُنشر أو يُطلب منه حذف كثير من أجزائها، وهو الأمر الذى دفعه لإنشاء صحيفة أسماها "الشهباء" عام ١٨٧٧ميلاديًا، وحاول من خلالها توعية الناس بحقوقهم وحرياتهم وكشف الفساد وتخليص الناس من المظالم والاستبداد الذى يعيشون فيه، فلقد كانت حلب فى عصر الكواكبى جزءًا من الدولة العثمانية التى كانت تسمى برجل أوروبا المريض آنذاك بما كانت تعانيه من مشاكل وصعوبات ومحاولات عدة من دول العالم للسيطرة على أراضيها وثرواتها الممتدة شرقا وغربا، تصدر الخميس من كل أسبوع.
قام الكواكبى بنشر خبر على صفحات الشهباء مفاده "بلغنا أن ستة أنفار من مسيحييّ عنتاب من طائفة الأرمن القديم أتوا لمحل استكتاب العساكر المتطوعة بقصد أن يكتبوا أنفسهم فى جملة المتطوعين، فعند السؤال عن أسمائهم طلب منهم تغييرها بأسماء إسلامية، فأبوا ذلك قائلين: إن قصدنا المحاماة عن دولتنا ووطننا، فإن كان لا سبيل لذلك إلا بتغيير أسمائنا، فلا نقبل، كُلما ألزمتنا ظروف الأحوال بالتشبث بأسباب علاقات الود والاتحاد بين سائر التبعية العثمانية، تظهر هكذا حركات تقضي بضد ذلك لغايات بعض المآمير لا يكترثون بلوازم الأوقات، فاللازم على أولياء الأمور أن يصدوا هكذا مأمورين عن غاياتهم "؛ و بناء على ذلك الخبر تم توقيف صحيفة الشهباء من قبل السلطات، وهو الأمر الذى تكرر ثلاث مرات من عمر الشهباء وبعد توقيفها للمرة الأولى قام الكواكبى بإصدار صحيفة" اعتدال" والتى أوقفتها الدولة العثمانية بعد العدد العاشر نهائيًا.
للكواكبى مؤلفان مشهوران وهما "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، والذى كتب الكواكبى رءوس مقالاته في حلب، وكان يعدلها باستمرار، ثم وسع تلك الأبحاث ونشرها في هذا الكتاب، وكتاب"أم القرى" ، وألف كذلك مخطوطتين هما "صفائح قريش" و"العظمة لله"، واختفت بعد وفاته ولم ترَ النور لما يتوقع ما كانتا تحملاه من جرعة كبيرة من النقد للاستبداد العثمانى أو الحميدي، والبعض قال إنهما وُضعتا فى الأرشيف العثمانى وهو ما لم يثبته الباحثون إلى الآن وبنفس القدر من الإثبات رواية حرقهما.
ولقد كتب عن الكواكبي العديد من الكُتاب والأدباء والمفكرين، ولعل أهمهم عباس محمود العقاد الذى كتب "الرحالة ك" ، و"عبدالرحمن الكواكبى..الأعمال الكاملة" للدكتور محمد عمارة وغيرها الكثير.
فى كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستبعاد " يشخص الكواكبى ما يسميه داء الاستبداد السياسي فيقول " أصل الداء الاستبداد السياسي ودواؤه المشورة الدستورية، ولقد استقر فكرى على ذلك بعد بحث ثلاثين عاما".
ويضيف أيضًا" المُستبد يتحكم بشئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المُتعدى فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النّطق بالحقّ والتّداعى لمطالبته ".
" إن الاستبداد داء أشد وطأة من الوباء.. أكثر هولًا من الحريق.. أعظم تخريبًا من السيل.. أذل للنفوس من السؤال.. داء إذا نزل بقوم، سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادى القضاء.. القضاء، والأرض تناجي ربها بكشف البلاء.. كيف لا تقشعر الجلود من الاستبداد وعهده عهد أشقى الناس فيه العقلاء والأغنياء، وأسعدهم بمحياه الجهلاء والفقراء، بل أسعدهم أولئك الذين يتعجلون الموت فيحسدهم الأحياء".
فى صحافته كان يتسم بالبساطة ويتحدث بلسان الناس وهمومهم ومشاكلهم اليومية فى سوء التعليم وتعصب فى الدين ومشاكل اقتصادية جمة.. استفاد من الفلسفة والفكر الغربي وخاصة الثورة الفرنسية.
وكثير من المؤرخين يعتبرون عصره عصر الاستبداد بامتياز، فعهد السلطان" عبدالحميد الثاني" كانت فترة ضغط شديد على الحريات الذى أسس نظام الخفية وهو الجواسيس وراء الجواسيس، فلا أحد يستطيع أن يتحدث أو يكتب كلمة ضد السلطان وإلا تعرض للسجن .
كان الكواكبى كذلك فى خصومه مع الوالى آنذاك "جميل باشا" من خلال حادثة محاميه الأرمينى الذى حاول قتل الوالي وتم اتهام الكواكبي بتحريض هذا المحامي على عملية القتل، وأُتهم الكواكبي أيضًا بأنه يتخابر مع دولة أخرى للاستيلاء على حلب ودُست له أوراقٌ توحي بذلك فى بيته، وحوُكم وحُكم عليه بالإعدام، ولكنه كتب للسلطان عبدالحميد الثاني رسائل عدة لرفع الظلم عنه ونقل المحاكمة لولاية لا تخضع لحكم والي حلب "جميل باشا"، ونتيجة للضغط الشعبى المتعاطف مع الكواكبي فى ذلك الوقت، تم نقل المحاكمة لبيروت وحصل الكواكبي على البراءة نتيجة لخطابه المفوّه أمام القاضى.
بعد تلك الحادثة خرج الكواكبي لمصر، وهجر حلب للقاهرة هربًا من بطش السلطان عبد الحميد الثاني ووالى حلب والعيون الحميدية فى كل أرجاء سوريا.. ففى مصر لم تكن أيدى الدولة العثمانية تصل إليها بشكل واضح كما فى حلب.
افترض الكواكبى فى القاهرة ونظر إليها باعتبارها مناخ الحرية المقبول لاستكمال عمله الذى بدأه بحلب، كما كان جزءٌ كبيرٌ من جالية الشوام فى مصر يعرفونه أو سمعوا عنه حتى، وتعرف الكواكبى إلى الشيخ "على يوسف "، صاحب المؤيد، الذى بدوره كان حلقة الوصل بينه وبين الخديو"عباس حلمى الثانى" (الذى لم يكن على وفاق كبير مع السلطان العثمانى آنذاك) وهو ما حدا بالخديو إلى تشجيع الكواكبى على الاستمرار فى نهج انتقادته للسلطان وسياساته، كما أن الخديو عباس حلمى الثانى ظهر بمظهر المستبد الناعم الذى يتظاهر بدعم الحريات ولا يتدخل إلا فى الخفاء، فهو لم يكن على وفاق كبير مع السلطان، لذا سمح للكواكبى بالاستمرار فى كتاباته على النحو الذى يحبه.
هذا المناخ وذاك التشجيع، حفز الكواكبى فى مصر على نشر أجزاء من كتابه" طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد "وهو ما كان يتم تحت اسم مستعار وهو" الرحالة ك" خوفًا من بطش السلطة العثمانية والسلطة فى مصر بقدر أقل، وهو الأمر الذى دفع الكواكبي للكتابة فى مقدمة كتابه بأنه يشكر الخديو على نشر لواء الحرية على أكناف ملكه.
بشكل عام اهتم وناقش الكواكبى فى كتابه الأمور التفصيلية فى المشهد الاستبدادى، كعلاقة الاستبداد بالتمجد، وعلاقة الاستبداد بالدين، علاقة الاستبداد بالتربية والعلم، وعلاقة الاستبداد بالأخلاق، وكذلك علاقة الاستبداد بالمال.
فيقول الكواكبى بين ثنايا صفحات كتابه " إن بين الاستبداد والعلم حربًا دائمة وطرادًا مستمراً: يسعى العلماء في تنوير العقول، ويجتهد المستبد فى إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام.. من هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا. "
وأفرد الكواكبى فى كتابه فصلا عن نفسية المستبد وكان سابقا لعصره فى هذا الأمر، وناقش فى هذا الشأن، كيف يفكر المستبد وكيف يتصرف وكيف يخاف من أقرب الناس إليه.. وفى نفس الوقت لا يعفي الكواكبى الفئات المستبد بها من المسئولية، فيقول الكواكبي فى كتابه " إن الأمة إذا ضُربت عليها الذلة والمسكنة، وتوالت على ذلك القرون والبطون، تصير تلك الأمة سافلة الطباع.. حتى إنها تصير كـ"البهائم"، أو دون البهائم، لا تسأل عن الحرية، ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة".
ثم يعرض الكواكبى لطرق التخلص من ذلك الاستبداد وحددها فى الآتى :
١- الأمة التى لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.
٢- الاستبداد لا يقاوم بالشدة، إنما يقاوم باللين والتدرج.
٣- يحب قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ما يُستبدل به الاستبداد.
وفيما بعد عندما رأى الكواكبي الوضع فى مصر، قال إن الخديو لم ينشر كتابه دفاعا عن الحرية وعلى أكناف ملكه، وإنما هو يدعى ذلك.. مما دفعه لزيادة صفحات كتابه، وقال فيه إن الخديو "عباس حلمى الثانى" ناشر الأمن على أكناف ملكه وليس الحرية.
بعد رفضه طلب الخديو، اجتمع الكواكبى بعدد من زملائه في إحدى مقاهى القاهرة آنذاك وبعد نصف الساعة تركهم لشعوره بألم شديد فى معدته بعد أن وضع له السم فى القهوة وذهب لمنزله وفى منتصف الطريق قال لابنه "سمونى يا عبدالقادر"،ووافته المنية بعد ذلك، وشيع جثمانه في جنازة رسمية شعبية حضرها مندوب عن الخديو عباس، ودفن بباب الوزير على نفقة الخديو، وأقام له صديقه الشيخ علي يوسف مأتما كبيرًا ثلاثة أيام، وكتب المصريون على قبره "الشهيد".
يظل العلماء دائمًا فى كل العصور نبراسًا لتنوير العقول (والكواكبى أحد هؤلاء) والمحاكم المستبد يسعى لإطفائها، لذا قبل إنهاء الاستبداد يجب التفكير فيمن سيحل محل الاستبداد، وإلا تكون العواقب بنفس قدر بقاء الاستبداد.
صدى أفكار وفكرعبدالرحمن الكواكبى سيظل يتردد كثيرا وحتى يومنا هذا فى نفوس وعقول الكثيرين والطامحين لتغيير عالم يرونه يُساق بسلطة القوة لا بـ "شرعة الحق".