الأربعاء 26 يونيو 2024

الحجاز وإنقاذ ما يمكن إنقاذه

فن31-10-2020 | 21:25

كان الحجاز يمثل ثقل للدولة العثمانية دينياً لوجود الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، لكن الدولة العثمانية في أخريات أيامها كانت تعيش حالة من الضعف السياسي، كما تراكمت عليها الديون، وتكالبت عليها الدول الأوروبية، ثم كانت الحرب العالمية الأولى، والتي دخلت فيها الدولة العثمانية لاحقاً ظناً منها بأنها ستنقذ دولتها الآيلة للسقوط لكن الأحداث تسارعت ضدها، وما كان ذلك إلا سوء ما مارسه سلاطينها من سياسات متناقضة في إدارة  بلادهم، وقهر الشعوب التي وقعت تحت سيطرتها وأولها العربية، وبضغط من حزب الاتحاد والترقي، انتهت بهزيمتها وتقسيمها.


كانت الدولة العثمانية تحت حكم الاتحاديين لضعفها ونتيجةً لسياساتها(جمعية الاتحاد والترقي) وقد تضاربت الآراء حول أسباب اشتراك الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، فهناك من أيد العسكريون الأتراك دخول الحرب إلى جانب دول المركز بزعامة ألمانيا وعلى رأسهم جمعية الاتحاد والترقي، بينما رأى عامة الشعب بالتزام الحياد لأن الدولة العثمانية من الناحية الاقتصادية والعسكرية لا تستطيع الدخول في حرب ضد دول أوروبا فالأولى بهم أن تهتم لإنعاش اقتصادها وتطوير قوتها العسكرية، بل أكد نهجهم المتخبط، إرسالهم الجنود التركية بعشرات الآلاف، وتوزيعهم في مدن الحجاز وثغوره بحجة الخوف عليه من الدول الأوروبية، رغم شدة حاجة الدولة لجنودها في حربها. في حين أبدى طبقة المثقفين المتغربون الدخول إلى جانب دول الحلفاء وبالذات الذين كانت تربطهم علاقة حميمة مع بريطانيا وفرنسا والذين درسوا في أوروبا وتشبعوا بالثقافة البريطانية والفرنسية، وبرغم محاولات الحلفاء لإبقاء الدولة العثمانية على الحياد بإغرائها ببعض العروض مثل إلغاء الامتيازات الأجنبية، وتقديم القروض لها مقابل تسريح البعثة الألمانية، وإعادة بحارتها إلى بلادهم، ولكن الاتحاديين دعاة الطورانية رفضوا العروض، وألغوا الامتيازات الأجنبية في سبتمبر 1914م. وأغلقوا مضيقي البوسفور والدردنيل في وجه السفن الأجنبية. ثم حصل الصدام المسلح بين الأسطول التركي وبين الأسطول الروسي في البحر الأسود من نفس العام، فعندها أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية وتبعتها دول أوروبا. وكان الأمر أن انضمت الدولة العثمانية إلى دول المركز.


لم يعد للدولة العثمانية هيبة السيطرة وفرض القوة في تعاملاتها والنابع من أيديولوجية متجذرة في أصول الحكم وأنظمته غير المعهودة بالنسبة للعرب وما وصلت إليه الدولة العثمانية من فقدان للثقة في أن تُسمع أو أن يَهُب العرب لمؤازرتها كان نتاج لاستبدادهم، وما عانوه من جور وظلم - العرب -  من تراجع حضاري، وإهمال شديد لكامل المرافق الحيوية الإنسانية، وهي أبسط الحقوق على النظام الحاكم لشعبه، وأخص بالذكر التعليم والصحة ناهيك عن الاستقرار الأمني وحفظ النفس، وفي كامل مناحي الحياة.


لم تكن النواحي الأمنية في الحجاز قبل حكم الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود على حال واحدة، إلا أنها في الجملة تميل للاضطراب، وللازدواجية، ففي عام 1322هـ/ 1904م تواترت الأخبار تواترًا حقيقيًا أصوليًا باختلال الأمن في بلاد الحجاز، وبأن حكومة الحجاز التي ألقى زمامها بيد أمير مكة ووالي الحجاز قد كانت من عوامل ذلك الاضطراب وذلك الخلل.


إن من أهم أسباب سوء الإدارة العثمانية وجورها الاستبدادي للحجاز :


- الطمع في مال الحجاج الذي كان يؤخذ باسم إعانة سكة الحديد الحجازية، أو باسم زيادة أجرة الجِمال، وبأسماء أخرى.


- بإيعاز من الأستانة، تم منع حج كثير من المسلمين ومنهم السعوديين - الحجاج القادمين من نجد - وأن الغرض من ذلك المنع، منع الحجاج الذين تمسكوا بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية, ومنع خواص المسلمين وعلمائهم من زيارة البلاد المقدسة وإقامة شعائر الدين الخالية من المظاهر الدينية المتعثرة والمتأثرة بشوائب طوائف وفِرق منحرفة.


- سوء الأحوال السياسية في مركز الدولة العثمانية، وكثرة الفتن الداخلية بينهم جعلهم يضعون الحجاز أمامهم، وأن يضيقوا عليه الخناق في التعاملات الإدارية، لئلا يتآمروا، وينصبوا لهم خليفة بالانتخاب الشرعي، وذلك أن الخواص وأهل العلم في الحجاز هم الذين يعلمون أن الفريضة تسقط عنهم عند عدم الأمن على الأرواح أو الأموال، وبالتالي أصبح الطرفان يتربص كل منهما بالآخر، لأن سياسة القمع هي المعهودة لدى الشعوب العربية قاطبة، وداخل الجزيرة العربية على وجه الخصوص ولا سيما بلاد الحرمين.


- لا يبرئ الدولة العثمانية من تلك الجناية الكبرى - وهي تضييق الخناق والشك في التعاملات الإدارية مع بلاد الحجاز - إلا عزل أمير مكة وواليها، ومحاكمتهما، ومجازاتهما، وعزل وكيلهما أيضًا، بل والعمل على التغيير المفاجئ والقصير الأجل بمعنى تغيير الأمير أو الوالي في مدة قد وصلت لأقل من شهر، فإن فعل السلطان ذلك فقد استبرأ لدينه ومنصبه، وذلك الفعل السلطاني مأخوذ من الفتاوى الشرعية التي يستجلبها السلطان لكل فعل أراد أن يبرره شرعاً وباسم الدين.


- وليس أمر العبث بالأمن في الحجاز كأمر العبث بالأمن في بلاد مكدونية أو أرمينية, ولا الإلحاد في الحرم كالإلحاد في بلاد الروم، وأنه ما بقي من ركن من الخمسة تطلب فيه عناية سلطان المسلمين غير الحج؟ وهل يطلب منه في ذلك شيء، بل من أهم ما يمكن أن يقدمه وأقله هو حفظ الأمن؟، ومنع تعدي عمال الدولة العثمانية وأعوانهم من المرتزقة على أنفس الحجاج وأموالهم؟ الممارسات السلطانية في دول وقعت بفرض القوة تحت الحكم العثماني من المفترض ألا ينال ذلك بلاد كالحجاز.


لقد وثق الكثير عن تلك الفترة التاريخية القاهرة وكتب عنها وعن تردي الأحوال واختلال الأمن في الحجاز. إن اختلال الأمن في الحجاز لا يرده خداع جرائد الأستانة وما كُتب فيها من أخبار ملفقة تمجد قدرة سلاطين آل عثمان على إدارة الحجاز والمحافظة على مكانته الدينية، وكذلك جرائد بيروت بقولهم : إن أمير الحجاز وواليه قد حفظا الأمن أتم حفظ، وإن الحجاج كان في غاية الرفاهة والراحة، ولا شغل لهما إلا تكرار الدعاء للخليفة الأعظم والسلطان الأفخم، على أنه في المقابل جاءت الجرائد الحرة في مصر وغيرها وهي أكثر من تلك الجرائد انتشارًا وأصدق أخبارًا، وقد أجمعت على تمثيل فَقْد الأمن في الحجاز وقد استمر أمن الحجاز في اضطراب. 


وإذا ما طرحنا تساؤلات منها، هل السلطان قادر على تأمين الحرمين الشريفين أم لا؟ ولا نجد إلا أحد جوابين : إما أنه قادر ولكنه يريد سلب الأمن، وإما أنه غير قادر، وفي الجوابين سوء عن الآخر، فإن لم يبادر السلطان إلى معاقبة من عمل على الإخلال بالأمن ومتابعة ذلك بصفة شخصية، فلا جدوى من كثرة التولية والعزل، والاهتمام بالموارد المادية لخزينة الدولة، وترك الشعب يعمل على ترقب الأحداث، والوقوع تحت فساد إداري بدى جلياً للجميع.


لقد عانت بلاد الحجاز نتيجة تبعات الإخلال بالأمن أن وصلت لحاجة إنقاذها من المجاعة وهذا نتاج سياسة العثمانيين في أحداث المدينة المنورة -سفربرلك- ، التي أوقعته  فيها الدولة العثمانية نتيجة للحصار البحري أو كاد، فقد امتنع وصول الأقوات إليه من مصر والسودان والهند، وجل قوتها من هذه البلاد، وكان ذلك من أحد أسباب إنقاذ سكان حرم الله تعالى وحرم رسوله من الهلاك، وإزالة الموانع التي منعت أكثر المسلمين من الحج إلى بيت الله الحرام، ولا سبيل إلى هذا وذاك إلا بإزالة الحصار البحري عن ثغور الحجاز، الذي كان سببه وجود الجنود التركية فيها، فإن دولة إنكلترا كانت قد صرحت باستثناء سواحل الحجاز من الحصار البحري الذي ضربته على جميع السواحل العثمانية، وذلك نتاج سياسة العثمانيين في خضم الأحداث الدولية، لقد سمحت بريطانيا بنقل الأقوات من الهند، وغيرها إلى البلاد المقدسة, ولكن نتيجة لما وصل إليها من معلومات بإرسال الدولة العثمانية لكثير من الجنود التركية المرتزقة  إلى الحجاز منعت إرسال الأقوات إليه، لأن الجنود يستفيدون منها وبات أهالي بلاد الحرمين في مجاعة، ونقص حاد في الموارد.


تعدى التعامل الإداري وفساده إلى عدم استتباب الأمن في الحجاز وتضرر الأهالي والحجاج  كنهبهم للأوقاف الأهلية الخيرية، وأخذ العشور عن كل ما يباع في الأسواق، والغرامات والضرائب المقررة على أهله والواردين عليه من حجاج، مع تفشي الغلاء الفاحش وارتفاع الأسعار. وما سبق ما هو إلا سياسة العثمانيين واعتبارهم بأن ذلك موارد اقتصادية مهمة لخزينة الدولة ولا شيء بعد ذلك.


ونتيجة للأوضاع الأمنية المتردية، والأحوال الاقتصادية البائسة، رأت حكومة سلطان نجد عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود أنه من الضروري إنقاذ الحجاز وضمه لينعم بالأمن والأمان والاستقرار، وفي المقابل رأى أهل الحجاز أنه لا يصلح حالهم إلا بحكومة قوية، ولم يكن هناك إلا حكومة نجد التي تقوم بهذا الأمر- لقد عرف أهل الحجاز الحكم السعودي في دوره الأول ومدى الاستقرار الذي تمتعت به بلاد الحرمين من أمن ورخاء اقتصادي-، إن من الأسباب العامة لزحف النجديين لضم الحجاز، أن الدولة العثمانية ولسوء سياستها, ولفساد إدارتها، وما أظهر من مظالم ومنها وضع المكوس على كل ما يرد إلى البلاد من الأقوات وغيرها, واحتكار بعض الأقوات الضرورية كالخبز، وضربه المكوس غير المشروعة على الحجاج باسم جوازات السفر، ورسوم الصحة. ثم الإقدام على منع أهل نجد من الحج، فكبر ذلك في نفوسهم، فما كان من السلطان عبدالعزيز آل سعود إلا أن ترأس أواخر عام 1342هـ/ 1924م, مؤتمراً في الرياض, حضره علماء نجد ورؤساء القبائل والقرى وحصل السلطان عبدالعزيز في هذا المؤتمر على فتوى شرعية، لشن الحرب على أمير مكة لضمان حرية أداء فريضة الحج فصدر عن "مؤتمر الرياض" قرار بضم الحجاز.


ورد في العدد 56 من جريدة (أم القرى) الذي صدر بمكة المكرمة في 8 رجب، سنة 1344هـ، وأكد فيه على لسان السلطان عبدالعزيز - طيب الله ثراه - أن سبب السرعة في تلبية أمر النداء بكونه ملكاً على الحجاز لم يكن إلا لحفظ استقلال الحجاز، ومنع تدخل أي أجنبي فيه، ولتكون كلمة الله هي العليا وليُعمل في هذه الديار بكتاب الله وسنة رسوله، ولتأمين الطرق ومنع الإلحاد في الحجاز، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وصل السلطان عبدالعزيز إلى مكة قادماً من الرياض فدخلها محرما وأتاه أهل مكة مبايعين.

وأختم بأن القارئ والعارف بالتاريخ ليس كجاهله .