الخميس 23 مايو 2024

مصر وآل عثمان بين أطماع الاقتصاد وخيبات السياسة !!

فن1-11-2020 | 20:06

"الاقتصاد المحرك الأول للسياسة، والسياسة تقود الاقتصاد"، بدهية من البديهيات يُدركها كل من تعامل مع أبجديات علاقات أو صراعات المصالح بين القوى، وبينما مثل الاقتصاد الدافع الرئيسي للعثمانيين في الاستيلاء على أملاك الدولة المملوكية في بلاد الشام ومصر والبحر الأحمر، فقد مثّل الشطر الثاني من الفقرة الخيبة العثمانية الكبرى التي عصفت بها وسائر بقاعها، وعذرا أن تضمن العنوان لفظا صادما، فالخيبات جمع خيبة ومصدرها الفعل خاب، وتعنى ذاك الذي يجر أذيال خزى الإخفاق والفشل، وهذا التوصيف أقل ما يوصف به سلوك غالبية سلاطين آل عثمان ممن تولوا الحكم منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى زوالها، وفيها تجلى فشلهم في الذود عن مصر وغالبية الولايات العثمانية في مواجهة القوى الأجنبية.


ولنبدأ أولا مع أطماع الاقتصاد:


وهذه كانت الدافع الرئيسي للتوسعات العثمانية والتطلع إلى تكوين دولة عظمى مترامية الأطراف على غرار الإمبراطوريات الأوروبية الكبرى، وقد تفوقها عدة وعتادا بما تستولى عليه من أراضٍ شاسعة ودول ودويلات في قارات العالم القديم الثلاث، ومن قائل يتشدق بالدين بأنها كانت تذود عن الإسلام حتى في اقتتالها مع الدولة المملوكية، ولعلى ألجم القائل بهذا، وما الذي كانت تفعله الدولة المملوكية في مصر وبلاد الشام والأماكن الإسلامية المقدسة، ألم تكن تذود عنها وتحمى مقدساتها إسلامية كانت أو مسيحية، ألم يرسل السلطان قانصوه الغوري أسطوله يطارد البرتغاليين في البحر الأحمر والمحيط الهندي. 


ومن المفارقات أن الغوري لم يقتله البرتغاليون، وإنما الذي قتله السلطان العثمانلى سليم الأول، وقتل من بعده ابن أخيه طومان باي، وسواء المماليك أو العثمانيين فهم من المسلمين السنة، أي من نفس المذهب والدين، فهل من الدين قتال من يدافعون عن أوطانهم في مواجهة الطامعين "العثمانيين"، وهل زهد العثمانيون الدنيا إعلاء لراية الدين، أم تغلبت لديهم مصالح الدنيا وجلب الثروات وبناء القصور، ووصلت الأمور حد اقتتال السلاطين أنفسهم وذويهم لبعضهم البعضمن من أجل صراعات الدنيا – إلا من رحم ربى !!


لقد تم استخدام راية الدين شعارا وإيهاما للشعوب، ولكن الهدف الأسمى كان تحقيق تلك المصالح، وهي ذات الأساليب التي مثلت ركائز البورجوازية والاستراتيجيات الاستعمارية في الصراعات الرأسمالية، حتى بين الدول الأوروبية وبعضها البعض، ولم يكن العثمانيون بعيدين عن ذلك، جميعها صراعات دنيوية تتناقض تماما مع الدين، وهي أمور قديمة متجددة، وما زلنا نراها في سوريا وليبيا بجلب - أردوغان تركيا – داعشيين مرتزقة يقاتلون ويمثلون بالقتلى دون مراعاة لحرمة دم الإنسان أو نواهي الدين !!


إذن فلنسمِّ الأمور بمسمياتها، فقد كانت الأطماع العثمانية والمصالح المحرك الرئيسي لاحتلالهم بلاد الشام ومصر وغيرهما، ولم يكن الأمر فتحا مبينا، فهم لم يزهدوا الدنيا لصالح الآخرة، ولن نخوض في الظروف التي حالت دون التعاون العثماني المملوكي وحلول العداء بديلا للوئام، والاقتتال السني السني لتحقيق المصالح الدنيوية، والدين منها في سائر حلقاتها براء، ولكن على أية حال، فقد حققوا أهدافهم واحتلوا مصر والعالم العربي، وهنا كان يجب عليهم حماية من خضع لسلطانهم، ولكن تتجلى المفارقات بأنهم لن يستطيعون الدفاع، وعلى العكس من ذلك سيصبحون بمضي الوقت – منذ أواخر القرن الثامن عشر- عبئا على مصر ومناطق عربية أخرى، فيما كان يتم التطلع إليه في تأسيس وصياغة النهضة الحديثة.


وهنا ننتقل إلى الشطر الثاني من العنوان وهو خيبات السياسة: 


يكون مفهوما أن تأتي الضربات من القوى الأوروبية، فهذه كانت لها أطماعها – دائما وأبدا - في مصر جغرافيا وملاحيا واقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا، ولكن أن تأتها الضربات ممن يُفترض أنهم يسعدون بتطورها ونقصد بهم سلاطين آل عثمان، فهذا ما يُجسد الخيبة والفشل، لأن الازدهار المصري كان يصب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في صالحهم، فهم كانوا يحصلون من هذا التقدم على مكاسب مالية يحصلون عليها في صورة الكيسة السنوية، أو الخراج المرسل إلى إسطنبول (الأستانة)، أو هدايا تصلها ومسئوليها بطريقة غير مباشرة.


ونتساءل هل كانت الدولة العثمانية قوية بدرجة مكنتها من حماية أملاكها في مواجهة الأطماع الأوروبية، والإجابة بكل تأكيد أنها منذ أواخر القرن الثامن عشر أصبحت أسدا من ورق، أو حسبما أطلق المؤرخون عليها الرجل المريض، ولكن من المفارقات أن هذا المريض في الوقت الذي يظهر عجزه واستكانته أمام الدول الأوروبية، سيحاول أن يستأسد على مصر والدول العربية، بينما سيوضح الواقع أن الدولة العثمانية ستُصبح بعدئذ عبئا على مصر أكثر من كونها حامية لها، على النحو الذى نتبينه في كثير من الحلقات التي يضيق بتناولها هذا المقام، ولكن سنكتفى ببعض إشارات لهذه الخيبات منذ أواخر القرن الثامن عشر. 


ففي الوقت الذي كانت تتلمس فيه مصر خطاها على طريق تأسيس النهضة في عهد على بك الكبير - كمحاولة استقلالية ولم يسمح بقدوم الباشوات الولاة - تجلّت المفارقات في وضوح الضعف العثماني منذئذ في عجز السلاطين والولاة وتمزق مصر الدولة بين المماليك (إبراهيم بك ومراد بك)، وإن الضعف والعجز العثماني هو الذى يسر استيلاء الحملة الفرنسية على درة التاج "مصر" 1798-1801م، ولم تقو الوجاقات ولا الحاميات ولا المماليك على مواجهتها، اللهم إلا بمعاونة الإنجليز دفاعا عن مصالحهم، وتبوأ الشعب المصري الدفاع عن كينونته وأرضه واستشهاده في سبيلها إلى أن رحل الفرنسيون، ومن بعدهم الإنجليز، ونجحت الإرادة المصرية الشعبية في فرض تولية الوالي محمد على باشا في الحكم رغم محاولات السلطان تعيين بديل، وبكل تأكيد كان هذا تطورا مصريا على صعيد محاولة ترسيخ الهُوية.


دخلت مصر منذ أوائل عهد محمد على باشا في سياسات اقتصادية وبناء حديث لمفهوم الدولة وأجهزتها ومقوماتها، والاستفادة من موارد البلاد وثرواتها في تحقيق نهضة اقتصادية، وانتهز محمد على الفرص المتاحة من الحروب النابليونية والحصار القاري في تنشيط التجارة الدولية، والإقدام على تنفيذ ما يُعرف برأسمالية الدولة وتطبيق نظام الاحتكار، بأن أصبحت الدولة (الوالي) المتحكم الرئيسي في سائر المقدرات بالمفهوم القومي للبناء العسكري والاقتصادي والعلمي والتعليمي.. إلخ، وتم إرسال البعثات واستقدام الخبراء وبناء جيش قوى، ومثلت القوة المصرية سندا ودعما كبيرا للدولة العثمانية، ولكنها تكبدت خسائر كبيرة في سبيل دعمها السلطان ليس أقلها حملات شبه الجزيرة العربية، وإنما تعدتها إلى دمار كل من الأسطول المصري والجزائري في نافارين أكتوبر 1827، جراء مساعدتهم قوات السلطان، وتدخل الأساطيل الأوروبية الروسية والفرنسية والبريطانية لمساعدة اليونان، مع العلم أن رعايا هذه الدول وسائر أوروبا كانوا يتمتعون بالامتيازات الأجنبية في سائر الدولة العثمانية، ولكن كان لكل من هذه الدول مصالحها وحساباتها. 


على هذا النحو كانت تمضي المواقف والتحديات، فقد قام محمد على بإنشاء ترسانة الإسكندرية عام 1828 لإعادة بناء الأسطول، بينما أتاح تدمير الأسطول الجزائري الفرصة أمام فرنسا لاحتلال الجزائر عام 1830، وأدرك إبراهيم باشا أنه دخل حربا خاسرة لا ناقة له فيها ولا جمل، فاستولى على بلاد الشام لجلب الأخشاب اللازمة لبناء الأسطول والاستفادة من مواردها، وسرعان ما ستحدث التغيرات والتبدلات، فتصل الأمور إلى مواجهات عسكرية مصرية عثمانية بديلا عن التفاهمات بين الوالي والسلطان، وهذا يعبر عن قمة الفشل السياسي والدبلوماسي العثماني، والتعامل بغطرسة مع مصر رغم  امتلاكها القوة الأحدث والأقوى، وهى في إطار التبعية والحفاظ على رمزية السيادة قوة للدولة العثمانية ككل، ولكن فشلت السياسة وحدثت المواجهات التي انتصرت فيها القوات المصرية انتصارا تلو الآخر، ومعها تُثار التساؤلات عن فشل التوصل إلى صياغات مشتركة في التفاهمات بين الوالي والسلطان، الأمر الذى أتاح الفرصة للتدخلات الأجنبية، ويحدث التحول الكبير في التقاء أهدافه مع أوروبا لضرب القوة المصرية، ويبدو أن المسألة برمتها كانت معبرة عن تحديات صراعات أو علاقات المصالح بين القوى، وهي منظومة حاكمة في علاقات الدول.


خيبة السياسة وتدمير الاقتصاد:


حسبما هو معروف أن بريطانيا كانت الأسبق في التوصل إلى مخترعات الثورة الصناعية، وهذا الذى أوجد لها أرضية كبيرة في عالم الاقتصاد والتجارة الدولية، فضلا عن اتساع مستعمراتها وإتاحة الفرصة لمنتجاتها في أسواق جديدة، ثم توالت انتصاراتها على فرنسا انتهاء بالحروب النابليونية، التي دشنتها قوة عظمى وخولها مؤتمر فينا 1815 مسئولية السلام والأمن البحري العالمي، وبعدما استتب لها الأمر شرعت ترسخ مصالحها العالمية ومنها المنطقة العربية، فيما هو معروف بتوقيع معاهدات عامة مع إمارات ومشيحات الخليج العربي 1820 ومنذئذ شرعت تحاول ترسيخ مفهوم حرية التجارة أو تحرير التجارة العالمية، ولم تعد تكفى الامتيازات الأجنبية الممنوحة لها من السلطان، مع ملاحظة أنه مع وجود حالات الضعف العثمانية تم استغلال هذه الامتيازات استغلالا سيئا من بعض الأجانب وتعدتها لمفهوم الحمايات، وأصبحت وبالا على أهالي البلاد.


على أية حال، ففي الوقت الذي كانت تتصاعد فيه الدعوة إلى تحرير التجارة العالمية بقيادة بريطانيا، كانت تتصاعد في اتجاه مضاد سياسات الاحتكار التي انتهجها محمد على باشا في مصر والبلاد التي خضعت لنفوذه، والتي أصبحت مصر من خلالها قوة اقتصادية كبيرة ولها مكانتها وقدراتها العسكرية المتميزة، ولن تفلح المحاولات البريطانية خاصة والأوروبية عامة في إقناع محمد على بالتخلي عن نظام الاحتكار دون جدوى، لأنه يدرك أن هذا معناه انهيار اقتصاد وقدرات مصر في سائر المجالات، وضرب النهضة المصرية في مقتل.


وأدى ضعف الدولة العثمانية والتعقيدات بداخلها إلى زيادة حدة صراع الدول الأوروبية من أجل إخضاعها اقتصاديا وتقسيم أقاليمها، وظهر بشكل حاد على الساحة ما عُرف باسم "المسألة الشرقية"، تلك المسألة التي شهدت ثورات اليونان وأحداثا أخرى، ثم فترة الصراع العثماني (التركى) المصري من عام 1831-1841م، وإبانها ستوقع بريطانيا مع الدولة العثمانية اتفاقية تجارية بالقرب من إسطنبول تعرف باتفاقية بلطة ليمانCommercial Convention Balta-LimanThe في 16 أغسطس 1838م، تنص مجمل نصوصها على إلغاء الاحتكارات في مصر وسائر الدولة العثمانية وتخفيض الرسوم على الواردات إلى نسبة 5%، وتكون على الصادرات 12%، بينما تكون 3% على بضائع الترانزيت، وهذا يعنى فتح الباب على مصراعيه أمام الواردات الأجنبية والحيلولة دون قدرة الصادرات الوطنية على المنافسة في الأسواق الخارجية، وبالتالي إغلاق المصانع وقطاعات الإنتاج، بالإضافة إلى ذلك منحت مزايا عديدة للتجار والرعايا الأجانب في انتقالاتهم ومعاملاتهم.


وكان طبيعيا رفض محمد على تنفيذ الاتفاقية بسبب ما تشكله من تهديد لمشروعه التصنيعي الناشئ، أمهله السلطان محمود الثاني (1808-1839) فترة سماح لمدة سنة، رفض بعدها محمد علي الالتزام بالمعاهدة، وجرت خلال العام مواجهة عسكرية حاسمة انتصر فيها الجيش المصري على القوات العثمانية في نصيبين 24 يونيو 1839 انتصارا باهرا، الأمر الذي أزعج أوروبا وأربك حساباتها أمام تنامى القوة المصرية بهذا القدر الذي يُخشى بأسه، ويتوفى بعدها ببضعة أيام ويتولى السلطان عبدالمجيد الأول (1839-1861) الذى سيتحد والقوى الأوروبية معا للقضاء على القوى المصرية، وفي 1840هاجم العثمانيون، بمساعدة البريطانيين، بلاد الشام واستعادوا السيطرة على بلاد الشام، إلا أن الثمن الذي دفعه العثمانيون للمساعدة البريطانية كان باهظاً، فثد دشنت المعاهدة عهداً تجارياً جديداً للمصالح البريطانية واستمرار السيطرة على الدولة العثمانية.


وتلا ذلك فرض تسويات لندن 1840/1841 التي كانت تعنى تخلي  محمد على عن بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية، وإعلان خضوعه للسلطان - الألعوبة في يد القوى الأوروبية - وتنفيذ اتفاقية بلطة ليمان وضرب القوة المصرية في مقتل بتخفيض عدد الجيش إلى 18 ألفا، مع تثبيت حكمه الوراثي في أسرته، ولتطوى صفحة تُعبر عن خيبة السياسات العثمانية التي أضرت بها وسائر تابعيها، والغريب أن دول أوروبا التي تدخلت في استخدام الوالي ضد السلطان، ثم السلطان ضد الوالي، عادت فيما بعد محمد علي لتشجع استقلال مصر عن السلطان تمهيدا لوقوعها في براثن الاحتلال البريطاني.