يعتقد البعض أن مفهوم القوة الناعمة أصبح كليشيه "Cleche" قديم ومستهلك، إلا أن كل الشواهد تؤكد على زيادة الاعتماد على القوة الناعمة في العالم الحديث بشكل كبير، بعد تراجع الاعتماد على الأسلحة التقليدية لما تسببه من خسائر في الأموال والأرواح.
والقوة الناعمة أو اللينة مصطلح سياسي يعني استخدام الثقافة والفنون والإعلام وغيرها من وسائل التأثير والإقناع لتوجيه الرأي العام في داخل الدوله وخارجها، ويمكن من خلالها أيضا خلق حالة من التشكيك في الثوابت والمعتقدات لدى الخصم، ولديها القدرة على إقناع الآخرين بالقيام بما يريده المرء.
وأدرك السياسيون أهمية القوى الناعمة منذ وقت طويل، وكلنا نتذكر المقولة الشهيرة لجوبلز، وزير الدعاية في ألمانيا النازية من عام 1933 إلى عام 1945: "كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي".
تجلت أهمية القوة الناعمة ثم تأكدت في كثير من الصراعات الدولية، ومنها بالطبع الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا، حيث أدرك الأمريكان أهمية القوة الناعمة واستخدموها بنجاح.
وأصبح العالم كله يدرك أهمية الثقافة والفنون، وفي حوار مع نور الشريف نشرته مجلة "الوطن العربي"، قبل وفاته بعدة سنوات، قال إنه قدم عمل يفضح الموساد الإسرائيلي، وهو فيلم "خط أبيض وخط أسود"، وكان إنتاجا إيطاليا - فلسطينيا مشتركا وشارك البطولة فيه مجموعة كبيرة من النجوم العرب والأجانب، وقد قامت المخابرات الإسرائيلية بسرقته من معمل التحميض في لندن.
هذا المثال يؤكد خطورة الفنون وتأثيرها لدرجة أن مخابرات دولة مثل إسرائيل تقوم بعملية مخابراتية كبيرة لسرقة فيلم قبل تحميضه خوفا من تأثيره.
وقد ازداد تأثير القوى الناعمة، مع انتشار القنوات التليفزيونية والمواقع الإلكترونية، حيث أصبح التليفزيون والمنصات الرقمية والمواقع الإلكترونية، من أكثر منابع تشكيل الوعي والمعرفة للأجيال الشابة التي ابتعدت عن القراءة وتعويضها بالمعلومات الجاهزة، وهو ما أدركه النظام التركي بقيادة أردوغان، محاولا استغلاله بشكل كبير في الترويج للخلافة العثمانية الجديدة التي يسعى إليها طامعا في أن يكون خليفة المسلمين ومحتضنا جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات الإرهابية.
ويطبق العثمانيون الجدد نصيحة جوبلز أيضا "اكذب واستمر في الكذب حتى تُصدق"، حيث استخدموا الدراما للترويج لأفكارهم، والتأكيد على عظمة الخلافة العثمانية، حتى إن الأتراك أصبحوا يتداولون مقاطع من هذه الأعمال للقادة العثمانيين، باعتبارها تاريخ حقيقي، وليست مجرد دراما متخيلة وموجهة.
وأصبحوا لا يتقبلون الحقائق، ويرفضون الأعمال التي تظهر حقيقة هذه الخلافة مثل مسلسل "حريم السلطان"، الذي اتهموه بتقديم صورة مشوهة للسلطان "سليمان القانوني"، وتقدم الشعب التركي بسبعين ألف شكوى أُرسلت للمجلس الأعلى للإذاعة والتليفزيون التركي، ضد المسلسل الذي أظهر الوجه الحقيقي للسلطان العثماني الذي كان معروفا بعشقه للنساء والخمر.
وقد قرر أردوغان أن يتبنى بنفسه حملة درامية تتكلف المليارت من الدولارات، لتشكيل الصورة التي يريدها للخلافة العثمانية وعرضها في الداخل وتصديرها للخارج، من أجل التأثير على الشعوب حتى تنظر إليه باعتباره المُخَلص، فهو يرى أن كثيرا من الدول هي إرث عثماني يحق له استعادته، باستخدام كافة الوسائل.
كان مسلسل "قيامة أرطغرل"، من أوائل المسلسلات التي استخدمها أردوغان من أجل الترويج للخلافة الاسلامية، المسلسل شاهده نحو 3 مليارات مشاهد في العالم، وبث عبر شاشات في 71 دولة، مدبلجاً إلى 25 لغة مختلفة، أبرزها العربية، والإنجليزية، وقد أشرف أردوغان بنفسه على تصوير المسلسل، وهو من تأليف وإنتاج محمد بوزداغ، وتقع أحداثه في القرن الثالث عشر الميلادي، ويعرض مقدمات ودوافع تأسيس الدولة العثمانية من عرض سيرة حياة أرطغرل بن سليمان شاه، قائد قبيلة قايي من أتراك الأوغوز المسلمين ووالد عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية، الذي يروج المسلسل أنه كان يسعى لتأسيس الدولة العثمانية من أجل نصرة الشعوب الإسلامية.
ومن الأعمال التي سعت لنفس الهدف مسلسل "عاصمة عبدالحميد" (Payitaht Abdülhamid)، عن عبدالحميد الثاني آخر السلاطين والخلفاء الفعليين في الدولة العثمانية، ويظهره أيضا بمظهر المضحي المقاتل الشجاع الذي يدافع عن الدولة الإسلامية، رغم أن الثابت تاريخيا أن السلطان عبدالحميد منح تيودور هرتزل وساما رفيعا، مفرطا في أرض فلسطين للصهاينة.
ويختار الأتراك في مسلسلاتهم، المناطق المضيئة والابتعاد تماما عن المناطق المظلمة والدموية والتخريبية في هذا التاريخ، كما في مسلسل "كوت العمارة" (Kut'ül Amare)، الذي عرض في يناير عام 2018م من تأليف محمد بوزداغ، ويدور حول دور الجنود العثمانيين في معركة حصار الكوت، والمعركة الشهيرة بين البريطانيين والعثمانيين في مدينة الكوت (محافظة واسط) جنوبي شرق بغداد في العراق، خلال الحرب العالمية الأولى والتي هُزم فيها الجيش الإنجليزي أمام الجيش العثماني، حيث يستعرض شخصية "محمد" الذي يرمز لأفراد الجيش العثماني، ويظهر كملاك محب للأمة الإسلامية مدافع عنها، وتقع زينب العربية في حبه كرمز للشعوب العربية في إشارة ضمنية للتحالف الواجب بين هذه الشعوب وبين الخلافة العثمانية.
ومؤخرا أنتجت الدراما التركية مسلسلا جديدا حول (بارباروس) القرصان العثماني الذي أسهم في التوسع العثماني في البحر الأبيض المتوسط وأسماه «البحر التركي».
ولم تتوقف محاولات تزييف التاريخ على الدراما التليفزونية بل امتدت إلى السينما من خلال فيلم أُنتِج في هوليوود هو "الضابط العثماني/The Ottoman lieutenant " يقدم رؤية تركية تبرئ العثمانيين من مذابحهم بحق الأرمن.
ولكن ما زالت الدراما التليفزيونية هي الأكثر تأثيرا، حيث تنتج تركيا من 70 إلى 80 مسلسلا سنويا، كثير منها يهدف إلى الترويج لأهداف أردوغان، الأمر الذي جعل دار الإفتاء المصرية، تحذر من مشاهدة مسلسلي «قيامة أرطغرل» و«وادي الذئاب»، مؤكدة أنهما وسائل تخدم مصالح الديكتاتور أردوغان في مساعيه لعودة الخلافة العثمانية واحتلال الدول العربية.
ولكني أرى أن هذه ليست الوسيلة المُثلى لمواجهة هذا الغزو الدرامي، فالرد على هذه الأكاذيب يجب أن يكون باستخدام نفس السلاح وهو الدراما، مثلما حدث في المسلسل المصري "ممالك النار"، من تأليف محمد سليمان عبدالملك وإخراج البريطاني بيتر ويبر، وبمشاركة عدد كبير من الممثلين العرب مثل خالد النبوي الذي يجسد دور "طومان باي" ورشيد عساف في دور "قنصوة الغوري" ومنى واصف وكندة حنا وعبدالمنعم عمايري ورنا شميس وعاكف نجم، واستعان المخرج بفريق عالمي في صناعة الديكور والملابس، من إنتاج شركة جينو ميديا.
العمل يلقي الضوء على ولاية السلطان العثماني "سليم الأول" الذي حكم الدولة العثمانية من عام 1512 حتى عام 1520، وحروبه المتلاحقة مع الدولة الصفوية ثم دولة المماليك، وما تلا ذلك من توسع الدولة العثمانية وصولاً إلى أوروبا، وقد شنّ ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هجومًا على المسلسل, لأنه يحكي جرائم الدولة العثمانية في مصر، وقتلهم أميرها طومان باي في القاهرة عام 1517، مع بداية قيام الدولة العثمانية بحملتها العسكرية في الوطن العربية لقيام الخلافة العثماني.
ولابد من إنتاج المزيد من الأعمال التي توضح التاريخ الأسود للدولة التركية، وتكشف فظائع الخلافة العثمانية التي ألحقت الخراب ببلاد كثيرة ومنها مصر، التي فرغتها من فنانيها وصانعيها لصالح الأستانة بنفسية المحتل الكريه، وإلقاء الضوء كذلك على الاتفاقيات التي أبرمتها الخلافة مع الدول الأوروبية والتي كانت نتيجتها الاحتلال الأوروبي لبلاد المسلمين بموافقة تركية، مثل معاهدة "كيتشوك كاينارجي"، و"لوزان الأولي"، و"سيفر"، وصولا إلى اتفاقية لوزان الثانية التي نصت على إسقاط الخلافة وتخلي تركيا عن المطالبة بإرث الخلافة في الدول العربية والتحاق تركيا الجديدة بالمعسكر الغربي ومباركة استعمار الأوروبيين للدول العربية، ثم اعتراف تركيا بإسرائيل.
فالدراما التاريخية قد تكون مكلفة ولكن مردودها يستحق هذه التكلفة لأنها تلعب دورا كبيرا في التأثير على العقول والشعوب، والتحذير من خطر الخلافة العثمانية، التي يقول عنها الشاعر الكبير نزار قباني في قصيدته "أوعية الصديد" :
ماذا أريد؟
يا وارثاً عبد الحميد
والمتكى التركيَّ، والنرجيلة الكسلى تئن وتستعيد
والشركسياتِ السبايا حول مضجعه الرغيد
يسقطن فوق بساطه.. جيدًا فجيد..
وخليفة الإسلام، والملك السعيد
يرمي.. ويأخذ ما يريد!