الأحد 6 اكتوبر 2024

العثمانلية..عداء واعتداء

فن1-11-2020 | 20:46

 عندما بدأت جحافل البدو الرحل من آل عثمان.. تتحرك من أواسط آسيا في السنوات الأخيرة من القرن الثالث عشر.. لتضع اللبنات الأولى لدولتهم/ التي تم إعلانها في عام 1299م / .. كانت مصر قد دخلت بالفعل في مرحلة من الارتباك والقلاقل.. بعد سيطرة المماليك على الحكم.. بكل مايمثلونه من خلافات وصراعات.. حيث كانت الدولة الأيوبية قد انتهت فعلياً في عام 1250م .. وقد تراوحت الأوضاع في مصر صعوداً وهبوطا مع المماليك.. حيث بدأت بقوة مع سيف الدين قطز والظاهر بيبرس.. وبعدهما كان هناك العديد من المماليك الأقوياء مثل علي بك الكبير.. ولكن المحصلة كانت تراجعا في الدور المصري.. وفي ذات الفترة كانت الدولة العثمانية قد ولدت معتمدة فقط على قوة الغزو العسكري..وراحت تتوسع في كل الاتجاهات.. حتى وصلت إلى غزو مصر في عام 1517 ورغم المقاومة الشديدة التي أبداها السلطان الغوري.. وابن شقيقه طومان باي.. إلا أنهما قتلا أثناء مقاومتهما للغزو العثماني.. بل إن سليم الأول تعمد تعليق جثمان طومان باي على باب زويلة..تخويفا وإرهابا لكل المصريين.. ومنذ ذلك التاريخ استمر الغزو العثماني جاثما على صدر مصر المحروسة لمدة أربعة قرون..مستغلا الإسلام ذريعة.. ومدعيا أنه يحافظ على الخلافة الإسلامية.. وقد شهدت علاقات مصر مع العثمانلية الكثير والكثير من المحطات منذ 1517 وحتى الآن.. نتوقف أمام أهمها فيما يلي..                      

    أولاً.. اعتمدت الدولة العثمانية في كل مراحل تاريخها.. على القوة العسكرية الغاشمة.. ولذلك نادراً ما نجد لها أي أثر ثقافي أو فكري أو فني.. ومن هذا المنطلق كان أول ما فعلوه عندما احتلوا مصر هو جمع كل/ الأسطوات/ في كل المهن والحرف.. ونقلهم إلى القسطنطينية عاصمة الدولة العثمانية.. وذلك في محاولة منهم لجعل عاصمة دولتهم ذات وجه حضاري.. يشابه وجه القاهرة المضيء.. ورغم أن بعض المؤرخين يذهبون إلى أن غالبية هؤلاء الأسطوات لمصريين..قد عادوا إلى مصر مرة أخرى.. إلا أن ذلك لا ينفي دورهم الكبير في نقل فنون التحضر والمدنية إلى عاصمة الدولة العثمانية.                

    ثانياً.. على مدى ما يقرب من ثلاثة قرون ظل الولاة العثمانيون.. يعيثون في مصر فسادا.. يرهقون الشعب بالضرائب الباهظة.. لكي يدفعوا للسلطان العثماني.. ولكي يأخذوا لأنفسهم أكثر مما يرسلونه للسلطان.. واستمر هذا الوضع إلى أن قامت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت بغزو مصر في عام 1798 .. ولم يفعل العثمانيون أي شيء للدفاع عن مصر.. التي تعد الولاية الأهم في دولتهم.. ولكن المصريين هم من تولوا الدفاع عن وطنهم.. حيث قاوموا الفرنسيين في كل مكان من ربوع مصر.. وانفجرت ثورتا القاهرة الأولى والثانية.. وسقط عشرات الآلاف من الشهداء.. أمام قسوة وهمجية المحتل الفرنسي.. الذي فشل في إخضاع المصريين.. فحمل عصاه ورحل في عام 1801 .         

       ثالثاً..غضب المصريون من سلبية الدولة العثمانية التي لم تفعل شيئا للدفاع عنهم.. وتحول غضبهم بعد فترة إلى ثورة ضد الوالي العثماني خورشيد باشا.. وحاصروا القلعة حتى استطاعوا خلع خورشيد باشا.. ورغم أن فرنسا كان لها دور في اختيار الوالي الجديد.. إلا أن الدور الأكبر كان للمصريين بقيادة عمر مكرم.. حيث صمموا على اختيار الضابط التركي محمد علي ليكون واليا على مصر.. ليجد نفسه في العديد من الصراعات مع المماليك.. ومع علماء الأزهر.. ومع السلطان العثماني.. وفي قلب هذه الصراعات حدثت حملة رشيد عام 1807 حيث أراد الإنجليز احتلال مصر.. وللمرة الثانية لم يفعل العثمانيون شيئاً.. وتولى المصريون مواجهة الحملة وهزيمتها.. وكان محمد علي قد تخلص من الزعيم الوطني عمر مكرم بنفيه إلى السودان.. وأعد الخطة للتخلص من الصداع الأكبر.. من خلال تدبيره لمذبحة القلعة عام 1811 .. حيث استطاع القضاء على أكثر من 800 من كبار المماليك.. ليخلو له وجه مصر بعد ذلك.. وليواصل العمل على مشروعه الخاص.. بأن تكون مصر مملكة له ولأبنائه.. وتصاعدت علاقاته مع السلطنة العثمانية.. فبدأ بالاستيلاء على السودان عام 1820 ثم الحجاز ثم الشام.. وأثبت إبراهيم باشا/ ربيب محمد علي وليس ابنه / مهارات عظيمة في قيادة الجيش المصري.. ليصبح واحداً من أعظم القادة العسكريين في العصر الحديث.. وتقدم الجيش المصري حتى أصبح على أبواب الأستانة.. بعد أن هزم الجيش العثماني في العديد من المواجهات.. ورغم ذكاء محمد علي إلا أن ذكاءه قد خانه.. فطلب من إبراهيم باشا عدم اقتحام الأستانة والاكتفاء بمحاصرتها.. وكان الغرب قد وضع مخططاته لاقتسام تركة الدولة العثمانية.. بعد أن أصبحت من وجهة نظرهم الرجل المريض.. ولذلك سارع الغرب في عام 1840 إلى عقد مؤتمر.. وتوقيع اتفاقية وإجبار محمد علي بالموافقة عليها.. لينسحب من كل الأماكن التي سيطر عليها.. ويصبح له فقط حكم مصر والسودان ولأولاده من بعده.     

    رابعاً..مات إبراهيم باشا قبل محمد علي بعام واحد.. وجاء عباس ابن طوسون ابن محمد علي/ لأن نظام الحكم طبقا لاتفاقية 1840 كان للأكبر من أسرة محمد علي/ ومن بعد عباس سعيد بن محمد علي ثم إسماعيل ابن إبراهيم.. الذي دفع رشاوى باهظة للسلطان العثماني.. لتغيير نظام الحكم في مصر.. ليصبح للأكبر من أسرة إسماعيل.. ونجح في ذلك عام 1866 .. وحمل أيضا لقب الخديو.. ولكن طموحات إسماعيل الكبيرة.. وسياساته المتخبطة أغرقته في مستنقع الديون.. مما جعل الغرب يفرض على السلطان العثماني عزله.. ومجيء ابنه توفيق وكانت المؤامرات قد أحاطت بمصر من كل جانب.. من اللص الخائن ديليسبس.. ومن الخديو الخائن توفيق.. ومن السلطان العثماني.. ومن بعض قبائل البدو.. لتفشل ثورة أحمد عرابي ويستغل الإنجليز كل هؤلاء الخونة ليحتلوا مصر عام 1882 وللمرة الثالثة لم تفعل الدولة العثمانية أي شيء للدفاع عن إحدى ولاياتها.. ورحل الخائن توفيق وجاء الخديو عباس حلمي الثاني.. الذي توافق مع الحركة الوطنية بقيادة مصطفى كامل.           

   خامساً..شهدت الساحة الدولية الكثير من القلاقل مما دفع إنجلترا إلى عزل الخديو عباس حلمي الثاني في 1914 .. وإعلان الحماية على مصر.. وتغيير مسمى حاكمها ليصبح السلطان حسين كامل.. وهذا يعني نهاية تبعية مصر للدولة العثمانية.. ولذلك انضمت تركيا إلى ألمانيا والدول التي تحارب إنجلترا في الحرب العالمية الأولى..وانتصر الحلفاء بقيادة إنجلترا..وبعد نهاية الحرب بأقل من خمس سنوات..قام الضابط التركي مصطفى كمال بانقلاب عسكري ضد السلطان العثماني.. وأنهى دولة الخلافة..وأعلن تركيا دولة علمانية.. وكاد أن يمحو كل آثار الإسلام فيها.                

          سادساً.. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سارعت تركيا إلى الانضمام لحلف الناتو بقيادة أمريكا.. كما كانت من أسرع الدول التي اعترفت بالكيان الصهيوني الذي اغتصب أرض فلسطين في مايو 1948 وفي الناتو أصبحت تركيا مع إنجلترا وفرنسا.. الدولتان اللتان احتلتا معظم ولايات الدولة العثمانية من قبل.. وكان الحلف موجها بالأساس ضد حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتي.               سابعاً.. أبدت تركيا رفضها ومعارضتها لثورة يوليو بقيادة جمال عبدالناصر منذ اللحظة الأولى.. وراحت طوال حكم عبدالناصر تعمل على حصار ومعاداة مصر بكل الطرق.. وبدأت التحرشات التركية بعد الثورة بأشهر قليلة.. عندما دعي عبدالناصر لحفل في إحدى السفارات بالقاهرة.. وعند وصوله الحفل استقبله كل الحضور بحفاوة شديدة بصفته قائد الثورة.. إلا السفير التركي لم يقف لاستقبال عبدالناصر بل تقيئ بعض الكلمات ضد الثورة..وكان هذا السفير متزوجا من إحدى أميرات الأسرة الملكية البائدة..ولم يعطه عبدالناصر أي اهتمام وكأنه لم يره.. وأصدر قرارا بمغادرة هذا السفير لمصر خلال ساعتين فقط.. في سابقة لم ولن تحدث في العالم.. حيث خرج هذا السفير الصفيق من الحفل إلى المطار في صفعة مدوية على وجه تركيا.                          سارعت تركيا بالانضمام لحلف بغداد الذي ضم أيضا إيران وباكستان والعراق برعاية ومشاركة أمريكا وإنجلترا.. ورفض عبدالناصر سياسة الأحلاف.. وهاجم حلف بغداد بضراوة.. فالحلف يهدف إلى حصار الاتحاد السوفييتي من الجنوب.. كما يهدف إلى تأمين الكيان الصهيوني.. ونتيجة لرفض عبدالناصر وهجومه الضاري ظل حلف بغداد في حالة موت سريري إلى أن مات تماما بعد الثورة العراقية 1958.          انضمت تركيا إلى الدول الرافضة لقرار الزعيم جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956 وحضرت مؤتمر لندن وأيدت العدوان الثلاثي على مصر..وأصيبت بحسرة كبيرة عندما انتصرت مصر على قوى العدوان واحتفظت بالقناة للأبد.     في عام 1957حشدت تركيا قواتها على الحدود السورية مدعومة بقوة الناتو..واستنجدت سوريا بمصر.. وعلى الفور أرسل عبدالناصر بعض قوات الصاعقة المصرية إلى الحدود السورية التركية.. لينسحب الجيش التركي.. بعد أن اكتشف أنه سيحارب مصر وليس سوريا فقط.. وكان هذا الموقف السبب الأهم في ضغط السوريين لإتمام الوحدة مع مصر فى فبراير 1958 .               

      لم تتوقف مؤامرات تركيا ضد مصر حيث عملت في عام 1959 إلى تكوين حلف لحصار مصر.. خاصة بعد إعلان عبدالناصر في كتابه فلسفة الثورة عن دوائر الحركة المصرية/ الدائرة العربية- الدائرة الإفريقية- الدائرة الإسلامية / .. فأرادت تركيا حصار الحركة المصرية في الدوائر الثلاث من خلال حلف السهم المثلث.. بالمشاركة مع إيران والكيان الصهيوني وإثيوبيا.. واستطاع الرئيس عبدالناصر كسر هذا الحصار وإفشال هذا الحلف.. بالعمل أولاً على استمالة إمبراطور إثيوبيا هيلا سلاسي.. وإقناعه بفكرة منظمة الوحدة الإفريقية.. وإصرار عبدالناصر على أن يكون مقرها في أديس أبابا.. لكي يبعد هيلا سلاسي عن تركيا.. ولكي يؤمن ماء النيل الذي يأتي 85% من حصة مصر عن طريق النيل الأزرق في إثيوبيا.. وبعد تأمين هيلا سلاسي احتضن عبدالناصر شباب الثورة الإيرانية.. منذ بداية الستينيات وللأستاذ فتحي الديب كتاب مهم بعنوان عبدالناصر والثورة الإيرانية.. تلك الثورة التي تسببت في كثير من القلاقل لشاه إيران.. ولكنها لم تنجح إلا في عام 1979.        في عام 1964 تقدمت تركيا بورقة إلى اجتماع حلف الأطلنطي.. تحمل عنوان تصفية عبدالناصر.. وبعد مناقشات مستفيضة للورقة التركية تم الاستقرار على أمرين.. إما اغتيال عبدالناصر.. أو توريطه في حرب تعمل على كسر هيبته بين العرب فيثور شعبه عليه.. وقد فشلوا في الأمرين رغم أحداث يونيه 1967 .. واستمر عبدالناصر حتى رحيله في سبتمبر 1970 يمثل عقدة كبيرة للأتراك.                        ثامناً..تفجرت أحداث ما يسمى بالربيع العربي 2011 من خلال مخطط أمريكي.. يهدف أولاً إلى تسكين جماعة الإخوان على رؤوس الحكومات العربية.. وخاصة في مصر وتونس والجزائر وسوريا واليمن والمغرب وليبيا.. على اعتبار أن الجماعة تمثل من وجهة النظر الأمريكية الإسلام المعتدل.. والحق أنها تمثل العمالة والخيانة..أما الأمر الثاني للمخطط الأمريكي فكان ترضية الأتراك بجعلهم/ كبير/ الإخوان في المنطقة العربية.. خاصة وأن الإخوان يحكمون تركيا بالفعل من خلال أردوغان..وترضية تركيا تأتي لأنها عضو في حلف الناتو.. أي أن جيشها وأراضيها في خدمة الغرب.. ولكن هذا الغرب يرفض دخولها الاتحاد الأوروبي حيث المميزات الاقتصادية الكبيرة.. فلن يسمحوا لما يقرب من مائة مليون مسلم الدخول إلى قلب هذا التكتل المسيحي الكبير.. والحل أن يحصل الأتراك على مكافأتهم من إخوان العرب .   نجح الإخوان في السطو على حكم مصر خلال عام الرمادة 2012 -2013 ولكن سرعان ما ثار الشعب المصري ضدهم في الثلاثين من يونيو 2013 .. إنقاذا لهويته التي تقوم على التنوع والتعدد..وقد أضاعت ثورة المصريين على العثمانلي الجديد أردوغان فرصة أن يكون الكبير أو الخليفة.. فعادت مرة أخرى المؤامرات التركية ضد مصر.. تلك المؤامرات التي نراها واضحة في إثيوبيا وفي ليبيا ومع قطر.. ولكن المصريين كما أفشلوا كل مؤامرات تركيا خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي..سيقضون أيضا على كل مؤامراتها الحالية.. وسيكون القضاء على تلك المؤامرات العثمانلية أسرع وأقوى إذا ما استطعنا تفعيل كل آليات الدور المصري والعربي.