في صناعة الترفيه، تروج مقولة إن "المحتوى هو
الملك"، المحتوى ككل، وليس نجومية صناعه، وليس إبهار الصورة، وليس مواقع
التصوير، وليس حجم الإنتاج، جميعها أجزاء تتضافر في نسيج الكتابة البصرية الممتعة،
والسرد المحبوك على الشاشة، لتأسر العين والعقل والوجدان، ومن خلال هذا الأسْر،
تتم في الخلفية عمليات زرع الأفكار، وغسيل الأمخاخ، وتغيير التاريخ.
انتبه الأتراك قبلنا بكثير لخطورة المحتوى الدرامي في فرض
السيطرة على المنطقة العربية، ساعدناهم على ذلك من خلال شاشاتنا بسذاجة منقطعة
النظير، وبطمع شديد في الأرباح، فعرضنا مئات الحلقات المدبلجة من الدراما التركية
التي تميزت بقصص مؤثرة، مواقع تصوير ساحرة، وجوه جميلة معبرة، موسيقى حالمة،
وصناعة أكثر من جيدة.
كان ذلك في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما
أهدرنا ملايين الدولارات لشراء هذا المحتوى الجديد مضمون النجاح، وترويجه بيننا،
فانتعشت صناعة الدراما التركية، وانتعشت معها السياحة إلى تركيا أيضا، فأصبحنا
مساهمين أساسيين - عن جهل منا - في تصدير النموذج التركي الناجح والمبهر إلى
المنطقة والعالم.
استفحل الأمر لدرجة أننا صرنا شركاء في عملية الإنتاج
الدرامي نفسها، بل وافتتحنا أكثر من شركة إنتاج درامي في إسطنبول، ومن ثم تدفقت
أموالنا العربية الساخنة إلى استديوهات ومواقع التصوير هناك، لكن الخطورة لم تكن
تجارية فقط في واجهتها، وإنما كانت فكرية في عمقها.
بعد سنوات الربيع العربي البائسة واعتلاء الإسلام
السياسي سُدة الحكم في أكثر من دولة عن طريق غزوات صناديق ناجحة، كانت الدراما
التركية - التاريخية على وجه الخصوص - سلاحا في أيدي غزاة الديمقرطية، وتم تصدير
أبطال التاريخ العثماني الأسطوريين على غرار أرطغرل والسلطان عبدالحميد الثاني،
ليكونوا فرسان الإسلام ودعاة للخلافة، كما يصف العثمانيون الجدد الآن أنفسهم، وكما
يتغنى بهم أذرعهم السياسية وذيولهم في المنطقة، وأبرزهم جماعة الإخوان الإرهابية.
عندما مرت المياه تحت الجسور، وفشل المخطط الإخواني - العثماني
في القاهرة في صيف ٢٠١٣، ظللنا نتعامل مع الغزو الدرامي علي أنه رفاهية، مجرد
إزجاء للوقت، لكن عملية الغزو الدرامي كانت لا تزال مستمرة، وتسللت الدراما
التاريخية العثمانية عبر القنوات التليفزيونية التابعة والممولة، وعبر قنوات يوتيوب
المفتوحة إلينا، فأصبح السلطان عبدالحميد في عاصمته نجما من نجوم المقاهي الشعبية
في إمبابة، حيث العامة يشاهدون ويتقمصون شخصية البطل الذي تضافرت قوى العالم
لإسقاطه، وإسقاط الخلافة العثمانية معه، كما يدّعون.
انتبهنا متأخرين كعادتنا، وعندما بدأنا في استيعاب
المخطط الشيطاني كانت مقاومتنا له - في البداية - سلبية ومتهافتة، فأصدرت الشاشات
العربية قرارا بمنع إذاعة المسلسلات التركية عليها، ومقاطعتها تماما، في الوقت
نفسه، كانت هذا المسلسلات تروج أكثر على الإنترنت، سواء عبر قنوات مفتوحة، أو من
خلال منصات مشاهدة عالمية مدفوعة الثمن مثل نتفليكس، التي تعتبر تركيا السوق
الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، وتعرض هذه المسلسلات المسمومة بجودة عالية وترجمات
إلى جميع اللغات، للمشاهدين في جميع أنحاء العالم.
تشكلت كتل الصراع أكثر، وبدأت الأقطاب المتناحرة تتخذ
مواقعها ضد بعضها في حروب لا تزال رحاها تدور حول الأرض والثروات والأدمغة، بدأنا
أخيرا، ومتأخرين جدا، ننتبه إلى أن المقاومة السلبية لن تكفي، وأن الدراما التي
ننظر لها باستعلاء كوسيلة ترفيه لربات البيوت والعاطلين عن العمل، في حقيقتها أكبر
وأهم وأكثر خطورة من ذلك؛ إنها ليست أقل من وسيلة للغزو والغزو المضاد، فالشاشات
قد صارت صغيرة جدا، وقريبة جدا، في كل يد و"جيب" تقريبا، وصاحب المحتوى
الأقوى والأكثر وصولا لمشاهده المستهدف، ربما كانت فرصته في الفوز على أرضية
سياسية وثقافية واجتماعية ودينية أعلى.
يمكن أن نبدأ من المسلسلات التاريخية العربية، التي
تحتاج إلى أن تنقح مفاهيمها القديمة، وأن تجتث الجذور المتعفنة في تربة ماضينا
التليد، وأن توجه مدافعها نحو العدو الحقيقي، كما تحتاج أيضا إلى رؤية حديثة
متطورة، وروح شابة جديدة ووثابة، تبدأ من تقنيات الكتابة والسرد، ولا تنتهي
بالتصوير المتقن والمعارك الثرية والمؤثرات الخاصة المذهلة، حتى وإن اضطررنا
للاستعانة بالخبرات الأجنبية من أجل الوصول للمعادلات العالمية الشبيهة، كما حدث
في مسلسل "ممالك النار" على سبيل المثال.
كذلك، أفرجت السلطة السياسية أخيرا أيضا عن الأفلام
والمسلسلات الحربية والعسكرية التي تجسد أبطالا يهتم الناس بهم، ويتألمون معهم، ويعرفون
من خلالهم الصديق من العدو؛ وفي الطريق الآن أعمال سياسية ومخابراتية وحربية
وتاريخية أخرى، ربما نستطيع أن نكسر من خلالها احتكار تركيا وإسرائيل للدراما
السياسية والتاريخية في منطقة الشرق الأوسط، فقد صالتا وجالتا وحدهما في ربوع
الدراما بلا منافس حقيقي، طوال عقدين كاملين تقريبا.
ليس أمامنا اليوم إلا أن نصنع المزيد والمزيد من مثل هذه
الأعمال السينمائية والتليفزيونية، بجودة ترقى للمواصفات العالمية، إن أردنا
للأجيال القادمة أن تستقى معرفتها عن تاريخها وواقعها ومستقبلها منا نحن، وليس من
أعدائنا، هؤلاء الأعداء الذين يصفهم البعض في مؤسسات تعليمية دينية مرموقة بلقب
"سادتي" !