الجمعة 24 مايو 2024

حتى الموسيقى لم تسلم من النهب العثماني

فن1-11-2020 | 20:59

لم يكن أي رافض لفكرة الخلافة الإسلامية، في حاجة لأكثر مما اقترفته دولة تركيا – مؤخراً – بقيادة دكتاتورها أردوغان، من بلطجة سياسية وعسكرية، حتى يطمئن نفسه إزاء ما قد يعتريها من شك مبعثه دفاع المناصرين لهذه الفكرة.

 

عراقة البلطجة

إن المتأمل الآن – وقبل ذلك –  لبلطجة العثمانيين منذ نشأة دولتهم وحتى أيامنا هذه، سوف يتفق مع مفكر مصر  الكبير الدكتور جمال حمدان فيما صك – وقبل أكثر من نصف قرن – من وصف لبلطجة العثمانيين السياسية والعسكرية، حيث قال إنها تشبه ظاهرة القفز الضفدعي، مشبهاً وثوب العثمانيين على بلد بعيدة عن إقليمهم، ثم الانثناء والاستيلاء على بلد أخرى قريبة من موطنهم، بقفز الضفدع من مكان إلى آخر، وفي كل بلد احتله العثمانيون بهذا الأسلوب، مارس الغزاة من رعاة الاستبس أبشع أساليب الاستعمار الاستغلالي الابتزازي (د. جمال حمدان: استراتيجية الاستعمار والتحرير، ص ص 48-51)، والمعني هنا برعاة الاستبس إنهم هم قبائل الرعاة في إقليم الاستبس، وهي سهول المراعي المستوية الواقعة في جنوب وجنوب شرق روسيا (د.حسين سعيد "مشرف": الموسوعة الثقافية، ص73).

وكشف الدكتور جمال حمدان لقارئه أسس الاستعمار العثماني بقوله:"وكل مظاهر الاستعمار الاستغلالي الابتزازي لا تنقص العثمانية: فقد كانت تركيا المتروبول (أي العاصمة أو المركز)، وبقية الإيالات (الإيالة قسم إداري من الدولة العثمانية) والولايات مستعمرات تابعة تعتصر كل مواردها وخيراتها بلا مواربة، لتحشد حشداً في المتروبول، بل لقد قيل إن الأتراك طبقوا في حكمهم السياسي طريقتهم الاستبسية في معاملة الحيوان، فهم ما انتقلوا من رعي قطعان الحيوان، إلا إلى رعي قطعان الإنسان"!! (د. جمال حمدان: المرجع السابق، ص53).

ولينظر القارئ هنا إلي ما صنعه العثمانيون بمصر بعد احتلالهم لها في عام 1517م، وذلك في رواية محمد بن أحمد بن إياس الحنفي، المعاصر لاستيلاء العثمانيين على مصر، والمتوفي نحو عام 1524م، ليجد نفسه أمام مصداق لمقولة الدكتور جمال حمدان السابقة عن أسس الاستعمار العثماني، قال ابن إياس في أحداث شهر ربيع الأول من سنة 923هـ / 1517م ما يلي :"ثم إن جماعة من وزراء ابن عثمان جلسوا في المدرسة الغورية، وشرعوا يطلبون أعيان الناس من القضاة والشهود والمباشرين والتجار وأعيان تجار المغاربة، وتجار الورّاقين، وتجار الشرب والباسطية، وجماعة من البرددارية والرسل، وطائفة من السوقة المتسببين في البضائع، وطائفة من البنائين والنجارين والمرخّمين والمبلّطين والحدادين وغير ذلك من المعلمين، حتى طلبوا جماعة من أعيان اليهود، فلما تكاملوا ... عرضوهم في المدرسة الغورية، وعّينوا منهم جماعة يسافرون إلي إسطنبول" (محمد بن أحمد بن إياس الحنفي: بدائع الزهور في وقائع الدهور، جزء 5، ص ص 178-179)،  ونظراً لتعدد مهن من اختطفهم ابن عثمان من مهنيين فكان من بينهم البعض من الموسيقيين والمغنين.

 

لم يقف النهب العثماني لعناصر الحضارة المصرية عند حد اختطاف صفوة المهنيين في مختلف الصناعات والعلوم والفنون، وإنما امتد ذلك النهب ليشمل حتى أدق مكونات مفاخر مصر الحضارية، ومن ذلك ما أثبته ابن إياس من نهب العثمانيين لرخام قصور الحكم وقاعات كبار رجال دولة المماليك، والذي قال عنه ابن إياس ما يلي:"وفي هذا الشهر (يعني شهر ربيع الأول من سنة 923هـ)، وقع أن ابن عثمان (أي الغازي سليم) شرع في فك الرخام الذي بالقلعة، في قاعة البيسرية والدهيشة وقاعة البحرة والقصر الكبير، وغير ذلك من أماكن بالقلعة، وفك العواميد (يقصد الأعمدة) السماقي التي كانت في الإيوان الكبير، وقيل إنه يقصد أن ينشئ له مدرسة في إسطنبول مثل مدرسة السلطان الغوري، فلا تقبل الله منه ذلك" (المرجع السابق: ص179).

اهتم المصريون طوال مراحل تاريخهم الطويل بالموسيقى والغناء، ويمكن أن يعزى ذلك إلي الإحساس الذي تولد من ضبط حركتهم الناتجة عن عملهم الشاق على إيقاع نغمي مناسب (د. سمير يحيي الجمال: تاريخ الموسيقى المصرية – أصولها وتطورها، ص197)، وعندما دخل الإسلام مصر على يد العرب من سكان الجزيرة العربية في مستهل المحرم سنة 20هـ /641م، أخذ المصريون عن العرب إنشاد القصائد في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وذلك بالإضافة إلي ما ألفوه من غناء انحدر إليهم عبر حقبتيّ الإغريق والرومان في تاريخهم الطويل، ومن المهم أن يذكر هنا أن ما تحقق للغناء المصري من ازدهار، قبل انضواء مصر تحت راية الإسلام وما بعد ذلك، إنما يرجع في المقام الأول إلي ازدهار كثير من العلوم التي ترفّد الغناء وتؤسس له بين المؤسسات العلمية والعاملين بحقل الموسيقى والغناء، فلما احتل العثمانيون مصر، وهم من رعاة الاستبس كما سلف القول، ممن يقضون غالب أعمارهم على صهوات الخيول وفي مراع مفتوحة، لم يكن ما حملوه معهم من غناء أكثر من صراخ غجري بدائي (كمال النجمي: تراث الغناء العربي بين الموصليّ ورزياب ... وأم كلثوم وعبد الوهاب، ص69)، فانعكس غناء الغزاة العثمانيين على الغناء المصري، الذي خلا من نجومه بعد شحنهم إلي إسطنبول بين من تم تهجيرهم إليها قسراً من علماء ومهنيين، فغدا الغناء المصري أقرب إلى الإنشاد الخطابي الذي لا ينتظمه سلم نغميّ مميز، واختفى فن تنغيم الصوت جراء إهمال قواعد العروض، حتى أصبح يطلق اسم الغناء على أي حديث تتلقاه مسامع الجمهور (د. سمير يحيي الجمال: المرجع السابق، ص195).

بلغت محنة الغناء المصري المنتهى بعد استقرار الغزاة العثمانيين بمصر، حيث فرض الغزاة على جموع المصريين – ممن فقدوا حريتهم وانهارت مكانتهم الاجتماعية - فنونهم وفي مقدمتها الغناء، الذي كبلت ألحانه زخارف متكلفة، وتجأر به  أصوات صارخة تخرج من أنوف مؤدين لا يحسنون أداء تلك الألحان الغريبة عنهم، وأنّي لمن عملوا بالغناء من المصريين إبّان الاحتلال العثماني لمصر، أن يلموا بنظريات الموسيقى أو يدلوا فيها بدلو، وقد كان أكثرهم آنذاك من السوقة والدهماء، حيث ساد الاعتقاد أثناء ذلك الاحتلال، أن من يمتهن فن الغناء أو الموسيقي لا يخرج عن كونه مهرجاً أو مضحكاً، ناهيك عن انتمائه إلي أسرة وضيعة، لا حسب لها ولا نسب، ولما كان حال المشتغلين بالموسيقى والغناء لا يخلو بالفعل من مثل هذه المثالب، تزامن ذلك مع تخلف جميع العلوم الوضعية إبّان الاحتلال العثماني، مما جعل من وجود نظام للتدوين الموسيقي ضربا من المُحال، وقد ترتب على ذلك انتقال الألحان بالمشافهة، والذي ترتب عليه وجود نسخ متعددة من اللحن الواحد، طبقاً للطريقة التي يؤدي بها اللحن كل من تغنى به من الأصوات الغنائية (د. سمير يحيي الجمال: المرجع السابق، ص ص 180-183).

الحج إلى إسطنبول

انقسم الغناء المصري منذ وطأ جحافل العثمانيين ثرى مصر إلي قسمين رئيسيين، توجه الأكبر منهما إلي غالبية المصريين من فلاحين وعمال، ممن يقطنون قرى مصر ومدنها، وقد نهضت بذلك القسم طائفة المغنين الشعبيين، الذين يرددون الأذكار والمدائح النبوية في الموالد والأسواق، ومثل غناؤهم الجذوة الباقية من الغناء العربي، الذي حمله إلى مصر العرب الأوائل، عندما دخلوها مبشرين بالإسلام، وكانت القصائد – وفي القلب منها الموشحات - بين ما استمع إليه المصريون من غناء أولئك المغنين الشعبيين، بينما يمم الأصغر من ذينك القسمين- الذي ضم المحترفين من أهل الغناء - وجهته صوب قصور رجال آل عثمان ومن مالأهم من الأمراء والمماليك وكبار التجار والموظفين، وقد وصف الناقد الكبير الراحل كمال النجمي غناء أولئك النفر من المطربين المحترفين فقال :"كان غناؤهم مزيجاً من الصراخ العثماني والنواح الغجري، وكانت حناجرهم قد فسدت من طول ممارستها هذا الغناء، حتى اكتسبت لكنة خاصة، ثقيلة الوطأة على الأذن المصرية الصميمة (كمال النجمي: الغناء المصري – مطربون ومستمعون، ص66). وأضاف النجمي واصفاً غناء أولئك المحترفين من مطربي ذلك العصر بقوله :"والذي يستمع الآن إلي الأسطوانات التي تركها مطربو تلك الأيام، يخيل إليه أنه يستمع إلى بعض المطربين الأتراك أو الإيرانيين أو الغجر الرحل التائهين في البلاد العربية" (المرجع السابق: ص67).

عمل الإقبال المتواصل من الطبقة الحاكمة من العثمانيين بمصر ومن حالفهم من أثرياء المصريين ، على غناء المطربين المحترفين، على اتجاه أولئك المطربين للمزج بين الغنائين المصري والتركي، مما ترتب عليه ما قاله الأستاذ النجمي قبلاً عن الطابع الغريب الذي اكتسبه الغناء المحفوظ على أسطوانات ذلك العصر، ولقد استدعت رغبة المحترفين من أهل الغناء المصريين تطعيم الغناء المصري بعناصر من الغناء التركي، سفر البعض منهم إلى إسطنبول، وذلك لأخذ أصول الغناء التركي عن شيوخه من الأتراك.

 إن المعلومات الكاملة عمن حج من أهل الغناء إلى إسطنبول بُغية الاستزادة من الموسيقى التركية، والتي تتضمن أسماءهم وأسماء من أخذوا عنهم وتواريخ رحلاتهم إلى العاصمة العثمانية، لم ترد ولو في صورة مختصرة بأي من المصادر التاريخية، اللهم إلا إشارات محدودة وردت في أكثر من مصدر، وألمحت إلى زيارة أو زيارتين لكبير مطربي عصر الأحياء في الغناء المصري: عبده الحامولي، والمعنيّ هنا بعصر إحياء الغناء المصري، الأعوام من القرن التاسع عشر الميلادي التي شهدت جهود الشيخين شهاب الدين محمد إسماعيل ومحمد عبد الرحيم المسلوب في النهوض بالغناء المصري من عثرته التي طالت في ظلال الاحتلال العثماني، حيث جمع الشيخ شهاب الدين ثروة مكونة من مئات التواشيح الأندلسية في كتابه المشهور "سفينة الملك ونفيسة الفلك"، بينما انحصر دور الشيخ المسلوب في ابتكار قالب الدور، الذي حرر الغناء المصري من ربقة الغناء التركي، قبل أن تضيع البقية الضئيلة الباقية من عروبته، والتي انحدرت إليه مما صنع الرواد الأفذاذ من أمثال إسحاق الموصلي من ألحان، في أوج ازدهار الغناء العربي مع الدولة العباسية، فعاد الغناء المصري إلي منابعه الثرية من القصائد والمقامات والإيقاعات العربية.

وعلى الرغم مما شهده عصر إحياء الغناء المصري في القرن التاسع عشر، من جهود مدرسة - تألفت من شيوخ من خريجي الجامع الأزهر - للنهوض بالغناء المصري وإقالته  من الكبوة العثمانية، فإن مطرباً بحجم عبده الحامولي ما فتئ يوالي السفر إلى إسطنبول، طوراً لاستلهام الأنغام التركية، لسبكها في ألحان "تجمع بين المزاج المصري والمزاج التركي، وتحمل الطابع الشرقي بأسلوب شيّق ممتع" (عبد الحميد توفيق زكي: أعلام الموسيقى المصرية عبر 150 سنة، ص ص 20-21)، وطورًا آخر لإنفاذ رغبة السلطان عبد الحميد في أن يقوم عبده، أثناء رحلته إلى الأستانة في عام 1896م، بتلقين" ما غناه في حضرته (الضمير عائد للسلطان) من جميل النغمات لضباط الموسيقى الشاهانية" (قسطندي رزق: الموسيقى الشرقية والغناء العربي، جزء3،ص 170)، وفي كل من الطورين ما لا يفهم منه سوى أن الغناء المصري صار تابعاً للغناء التركي، وبما يؤكد على مقولة د. جمال حمدان "الاستعمار الاستغلالي الابتزازي"، والتي وصف بها استعمار الدولة العثمانية للدول التي أقامت على أنقاضها حواضر إمبراطوريتها ذات الأبعاد المترامية.

 

الخلاص

 

ليس هناك ما هو أدل على المحنة التي ألمت بالغناء المصري، إثر ذلك المنحى من كبير مطربي العصر، والذي عبر عن الاحتلال العثماني حتى لذائقة المصريين الغنائية، مما قال قسطندي رزق على سبيل الزهو بما تحقق للحامولي من مكانة لدى المحتل العثماني وبالنص التالي :"إن أهل الطبقة الحاكمة في مصر، كانوا لا يطربون من الغناء العربي، لكونهم يرجعون إلي محتد تركي، فأصبحوا بفضل ما أدمجه (الضمير عائد لعبده الحامولي) من النغمات التركية، التي سمعها وهو في الأستانة على ما سبق الإيماء إليه، يميلون إلى سماعه ويفضلونه على سواه، على حد ما حدث للمصريين أنفسهم، فأنهم أعجبوا بالنغمات الجديدة التركية" (قسطندي رزق: المرجع السابق، جزء1، ص42)، حتى شاءت الإرادة  الإلهية أن يجيء خلاص الغناء المصري من الهيمنة العثمانية على أيدي مجموعتين من شيوخ الأزهر، ضمت المجموعة الأولى عددا من الشعراء ممن يعدون من شعراء العصر الغنائيين مثل الشيوخ: علي أبو النصر – علي الليثي – أحمد الزرقاني – أحمد وهبة – محمد الدرويش –عبد الله الشبراوي وأحمد العروسي، بينما سلكت المجموعة الثانية جماعة من الشيوخ ممن عنوا برد الغناء المصري إلى منابعه الثرية من القصائد والموشحات، وقد برز من أولئك الشيوخ من الملحنين أسماء مثل: محمد عبد الرحيم المسلوب – علي الدرويش – محمد عثمان – أبو العلا محمد – علي القصبجي إسماعيل سكر و محمد سالم الكبير، ويوم أن تغنت أم كلثوم في عام 1926م، باللحن الذي وضعه الشيخ أبو العلا محمد من مقام هزام (أحد مقامات الموسيقي العربية)، لقصيدة الإمام عبد الله الشبراوي، التي يتكون مطلعها من البيت التالي :(وحقك أنت المنى والطلب / وأنت المراد وأنت الأرب)، أدرك عشاق الغناء المصري العربي أن الاغتصاب العثماني لبعض شوارد الأغنيات، قد ولّى إلى غير رجعة.