الإثنين 29 ابريل 2024

تقرير.. «قصة امرأتين» تجسد صراع القرن الحادي والعشرين لاعتلاء رئاسة منظمة التجارة العالمية

اقتصاد2-11-2020 | 09:16

يجسد الصراع على رئاسة منظمة التجارة العالمية صراعا إنسانيا بين الفقر والغنى، قبل قرون برع الأديب البريطاني العالمي "تشارلز ديكنز" في تصوير أنماطه وتناقضاته الصارخة التي عاشتها مدينتا باريس ولندن في القرن الثامن عشر قبيل الثورة الفرنسية وأثنائها في رائعته "قصة مدينتين" واليوم نرى فى الصراع على رئاسة منظمة التجارة العالمية نسخة جديدة ومستحدثة من الصراع تلائم حداثة القرن الحادي والعشرين، وربما تجُب في أحداثها وحبكتها ما سطره الأديب العالمي عن أحداث شهدتها المدينتان قبل ما يزيد على القرنين وجسدت طغيان الطبقات الأرستقراطية وقسوتها وفي المقابل معاناة الطبقات العاملة والفقيرة ومحنتها ومساعيها المضنية لكسب قوتها وتحقيق العيش الكريم. 


ويبدو المشهد داخل دهاليز "منظمة التجارة العالمية" WTO اعتيادياً وبسيطاً وغير معقد، ويصوره البعض على أنه مجرد حدث "تتنافس فيه امرأتان" لأول مرة على اعتلاء منصب رئيس منظمة التجارة، وهو القرار الذي سيسدل عنه الستار في غضون أيام قليلة في أعقاب انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وبالتحديد في التاسع من نوفمبر الجاري. 


واقع الحال أن ما يدور خلف الستار لا يعكس تنافساً بين امرأتين تنحدران من عرقين مختلفين أفريقي وآسيوي فحسب، بل هو يجسد أيضاً صراعاً أشد وأعمق وأكثر اتساعاً تشمل رقعته الكرة الأرضية بأسرها دون أدنى مبالغة، فهو صراع أصيل متجذر بين تناقضات عميقة تفصل بين الشمال والجنوب، الأثرياء والفقراء، القلة المسيطرة والحشود المغيبة، الاقتصادات المتقدمة والمتخلفة، جماعات المصالح وأصحاب النفوذ من جانب والتوابع والمهمشين من جانب آخر، التكنولوجيا والبدائية، الشركات الفائقة العملاقة والأسواق الواهنة المستباحة. 


الأمر الوحيد الذي ما يزال مؤكداً حتى الآن، أن هناك حدثاً غير مسبوق بأن تتولى "امرأة"، أيا كان لونها أو جذورها أو عرقها، عرش منظمة التجارة العالمية WTO، إذ يستعر التنافس بين النيجيرية التي تمثل قارة أفريقيا، الدكتورة نجوزي أوكونجو- إيويلا، والكورية الجنوبية الممثلة لقارة آسيا، الدكتورة يو ميونج- هي. 


ولأول وهلة، بدا أن الطريق سيكون ممهداً و"مفتوحاً على مصراعيه" أمام الجدة النيجيرية، أوكونجو- إيويلا، صاحبة الخبرات الممتدة والعريضة في عالم المنظمات الدولية والتجارة والاقتصاد والتعاون الدولي، وعلا التفاؤل نبرة الكثيرين بأنها ربما ستكون الأقرب لتولي المنصب، لاسيما أن هناك "اتفاق جنتلمان" قطعه على أنفسهم زعماء وقادة العالم في "قمة العشرين"، بأن قد حان الوقت لكي "يفسح المجال" أمام شخصية أفريقية لترأس "منظمة التجارة العالمية" WTO. 


ورغم أن السباق على وشك الانتهاء ويقترب من "ميله الأخير"، فإن الشكوك تتزايد والغيوم تتراكم في أجواء منظمة التجارة العالمية بشأن أيهما سينجح في اقتناص المنصب عبر "روليت" الاختيار والترشيح، الذي دارت رحاه قبل أربعة أشهر بعد الإعلان عن فراغ المنصب باستقالة رئيس المنظمة البرازيلي، روبرتو أزفيدو، في مطلع أغسطس الماضي. 


وقد عكست شبكة "بلومبيرج" وجود غيوم تحيط المشهد في منظمة التجارة العالمية مؤكدة قبل أسبوع أن انقساما بدأ يظهر في الأفق بين الاتحاد الأوروبي الداعم للمرشحة الأفريقية أوكونجو- إيويلا، والولايات المتحدة التي تميل إلى اختيار المرشحة الكورية، ميونج- هي. 


أما مجلة "الإيكونوميست" البريطانية الرصينة، فقد خرجت بعدها بأيام قليلة تؤكد أن النيجيرية أوكونجو، هي "المفضلة لرئاسة منظمة التجارة"، وقالت إنها أقرب للفوز بعد أن رسى عليها عطاء جماعة "بروكسل"، إذ أجمع ممثلو الاتحاد الأوروبي على اختيارها باعتبارها المرشحة المفضلة لتولي منظمة التجارة العالمية. 


وأبرزت "الإيكونوميست" خبرات الجدة النيجيرية أوكونجو- إيويلا، التي تؤهلها لأداء مهام منصبها بكل سهولة، مبينة أن هناك مصالح وتوازنات قد تساعد في ترجيح كفتها، ولاسيما أن الصين قد تعارض مرشحة كوريا، ميونج- هي، إذا حصلت بكين على "وعود" باحتفاظها بمنصب نائب المدير العام للمنظمة. 


أما اليابان، قد تبدو غير ميّالة إلى دعم الوزيرة الكورية في ضوء النزاع التجاري المثار بين البلدين بسبب وقف طوكيو تصدير خامات تدخل في تصنيع الشرائح الإلكترونية.


أما البرازيل، بوصفها من الدول الكبرى المصدرة للمنتجات الزراعية واللحوم، فلن تنسى أن كوريا الجنوبية كانت ضمن "مجموعة الدول العشر" G10 التي وقفت حجر عثرة أثناء جولات التفاوض المتعددة الأطراف مدافعة باستماتة على دعم المنتجات الزراعية الهائل الذي تقدمه الدول الثرية الكبرى لمزارعيها، وهو ما يأتي على حساب المزارعين الفقراء في البلدان الناهضة والنامية والفقيرة ويكبدها خسائر بالمليارات سنوياً. 


وبدت "الإيكونوميست"أكثر تفاؤلاً بأن كرة "الروليت" تتباطأ أكثر فأكثر، معتبرة أنها ها هي شرعت في أن تحط رحالها على مقربة من خانة الجدة النيجيرية. 


غير أن الرياح "تأتي بما لا تشتهي الإيكونوميست" ولا أفريقيا ولا دول الجنوب قاطبة، فقد فاجأت الولايات المتحدة بمعارضة ترشيح النيجيرية، أوكونجو- إيويلا، ملقية بثقلها خلف الوزيرة الكورية ميونج- هي، وأعربت في بيان أصدره مكتب الممثل التجاري الأمريكي، روبرت لايتهايزر، عن ثقة الإدارة الأمريكية فيها "كخبيرة تجارية لديها كافة المهارات اللازمة لتكون قائدة فعالة للمنظمة." 


وخرج البيان الأمريكي ليقلب الطاولة في وجه اجتماع أعضاء لجنة الترشيحات في "منظمة التجارة العالمية" الأربعاء الماضي، الذي أوصى بتعيين وزيرة المالية النيجيرية السابقة، أوكونجو- إيويلا، وهو ما فتح الباب أمام سيناريوهات مجهولة بدا من الصعب على المراقبين تصويرها. 


كما كشف البيان النقاب عن حقيقة التصدعات الراهنة التي تصيب بدن "منظومة التجارة العالمية"، وتعكس صراعات شديدة تصل إلى حد الاحتراب في معسكر الكبار، وانقسامات حادة بين طبقة الشمال الثرية نفسها، وتناقضات فجة داخل المؤسسات الدولية، ومآسي ومحن يُندى لها الجبين ولا يذوق مرارتها إلا عالم الجنوب الفقير المعدم، الذي جُرِّد منذ انخراطه في "لعبة التجارة الحرة" من كل ما يملك من قدرات وموارد ومناعة وحدود، ليسقط فريسة للديون والفقر والفساد، في مشهد مسرحي مأساوي دراماتيكي، يضم "مجاميع" من ملايين البشر في أرجاء متفرقة في دول العالم النامي المعدم، لو رآه ديكنز وكل أدباء ومفكري العالم القديم والحديث لعجزوا عن تجسيده أو فك طلاسم الصراع الدائر- مجازاً- حول "قصة امرأتين". 


    Dr.Randa
    Dr.Radwa