الأحد 19 مايو 2024

معركة الوعي ومعركة التحرير

فن2-11-2020 | 17:21

في تلك الأيام تحتفل مصر بذكرى حرب أكتوبر – حرب تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي -  بينما تخوض حروبًا أخرى، حروب بالسلاح لتطهير سيناء من إرهاب مأجور، لا هدف له سوى إنهاك الجيش المصري، وحروب البناء والتنمية في كل مكان من أرض مصر، والتي يقود قاطرتها بقوة سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي.

لكن دعوني أركز على معركة أخرى يخوضها الشعب المصري بكل طوائفه رغما عنه، وهي معركة الوعي، فبمجرد اقتنائك هاتفا خلويًا، أو حاسوبًا آليًا، ومع أول نقرة علي أيقونة الاتصال بالإنترنت، فقد أصبحت جنديا في معركة الوعي رغما عنك، لا تحتاج زيًا عسكريًا، أو حمل السلاح حتى تكون جنديا؛ فالأجيال الجديدة من الحروب، حرب يتم فيها احتلال عقلك لا احتلال أرضك، وبعد أن يتم احتلالك ستتكفل أنت بالباقى، ستجد نفسك فى ميدان معركة لا تعرف فيها خصمك الحقيقى، إنها حرب ستطلق فيها النار فى كل اتجاه، لكن يصعب عليك أن تصيب عدوك الحقيقى، وبالأحرى حرب من يخوضها يكون قد اتخذ قرارا بقتل كل شيء يحبه، إنها حرب تستخدمك أنت فى قتل ذاتك وروحك؛ وفى النهاية ستكتشف أنك حاربت بالوكالة لصالح رجل جالس فى مكان آخر، اختار أن يخرج مشهدًا سينمائيًا جديدًا لفنون الانتحار الجماعى، حرب المنتصر فيها لم يدخلها ولم ينزل الميدان، وذلك بالظبط التوصيف الطبيعى لحالة حاملي السلاح في ميدان الدماء الموجود بطول المنطقة وعرضها.. فهل أنت مهيأ لتلك المعركة؟!

في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر كانت المعارك تقليدية، قتال علي الجبهة، غارات جوية علي العمق،  النمط التقليدي لأي حرب، وربما عاش ومات ناس في أقاصي الجمهورية  دون أن يشعروا بوجود حرب أو  يتأثروا فعليا بها، لكن ما يحدث للشعوب منذ 2011، وخاصة مع بدء الثورة التونسية في نهاية 2010، حرب يتحكم فيها أناس غرباء عنك – في تفكيرك - عبر الشاشات عبر آلاف الكيلو مترات – سلاحهم – الكلمة والصورة والفيديو – هدفهم – عقلك وجسدك وروحك لتجنيدك لتكون مقاتلا في صفوفهم تقوم بتنفيذ أجندتهم باقتناع تام وربما تفقد روحك في سبيل ذلك، فالإرهابي يطلق التكبيرات وهو يفجر نفسه – ظنا واقتناعا وإيمانا منه بأنه في طريقة للشهادة عبر قتل مؤمنين أبرياء -  ولن أنسى مشهد الأب والأم السوريين اللذين يقومان بتجهيز ابنتهما ذات التسع سنوات بحزام ناسف لتقوم بتفجير نفسها في قسم شرطة في دمشق،  فأي قوة على الأرض أقنعت الأب والأم بأن قتل ابنتهما في عملية إرهابية هو عمل جهاد؟ ولماذا ابنتهما تقوم بتلك العملية وليس أحدهما؟

الواقع يقول إن مصر تعرضت لحملة ممنهجة من الجهل بداية من منتصف السبعينيات، وربما تصادف ذلك مع الانفتاح الاستهلاكي الذي ظهر بعد الحرب والتحول الرأسمالي في الفكر المصري، فظهرت جملة – ماذا أعطتنا مصر لكي نعطيها أي شئ؟! وأتمنى معرفة مصدر تلك الجملة البغيضة التي تداولتها الأجيال المتلاحقة وأصبحت نمط حياة للملايين.

لست هنا في معرض لتأريخ تلك التحولات الاقتصادية في المجتمع المصري، لكنني أحاول الربط بين عملية ممنهجة من منتصف السبعينيات وحتى يومنا هذا لإخفاء الوعي والانتماء والولاء من القاموس المصري،  وهو ما نتج عنه أجيالٌ تحارب الدولة عن اقتناع تام بأنها الفريق الصحيح، بل الفريق المؤمن الحق، وأجيالٌ أخرى من المنتفعين بتلك التحولات ترى الوطن مجرد مكان لتحقيق مكاسب مادية أكثر وأكثر، وكلا الفريقين فاسد فكريًا.

فغياب الوعي عن المدارس والجامعات تزامن مع اختفاء دور وزارة التعليم كوزارة لـ" التربية" قبل أن تكون للتعليم، والتحول المادي في شخصية المدرس الطامع في أموال الدروس لكي يستطيع أن يمسك قوت يومه ويحسن مستواه المعيشي بشكل أفضل.

أما وزارتا الثقافة والإعلام، فقد سارتا على نفس النهج، فالثقافة ليست للأثرياء فقط، والكتب لم تعد متاحة بأسعار مناسبة، وقصور الثقافة مبانٍ مهجورة إلا من رحم ربي، وعلى الطرف الثاني، الإعلام تحول في رسالته طبقا لتغير المجتمع من إعلام توعوي تثقيفي إلى إعلام ترفيهي يسعى للربح والاستفادة المادية عن طريق الإعلانات بغض النظر عن ما يقدمه للمجتمع، والأمثلة تحتاج لملايين الكلمات ولا يمكن احتواؤها في مقال واحد.

المهم ما أهدف له في هذا المقال المختصر، الربط بين التغيير الاجتماعي في مصر من مجتمع منتج إلى مجتمع استهلاكي، تزامنا مع ظهور الإرهاب المسلح في شكل جماعات الجهاد والتكفير والهجرة والجماعات الأخرى التي استهلت عملها باغتيال الرئيس السادات ومحاولة تكوين دولة لهم في أسيوط في أحداث أكتوبر 81، فالإرهابي في السبعينيات هو شخص دفعته ظروف مختلفة للتمرد على الواقع ولم يجد من المدرسة أو التليفزيون ما يوعيه على ما يحدث حوله أو يزرع فيه الانتماء، ووجد في الجماعات التكفيرية الملاذ الآمن لحياته وفرصة لإنهائها سريعا ودخول الجنة، أما الآن ففي كل صفحة إنترنت وفي كل سطر وفي كل صورة أوجه مختلفة للحقيقة، وأصبح المواطن المطحون ماديا جاهزًا وعن طواعية للتجنيد ضمن هذه الجماعات طمعا بعد أن غرق تماما فيما يقدم له من إغراءات دينية مضللة تقدم له الجنة على طبق من ذهب.

أذكر هنا واقعة على الوعي التام لصاحبها في مواجهة من لا وعي له، ففي أثناء الحرب الصليبية على مصر والشام كانت الكنيسة في روما تعرض صكوكًا للغفران ودخول الجنة لمن يتقدم للقتال بهدف جمع وحشد الجيوش الجرّارة للقتال باسم الدين، فتقدم شخصٌ يهوديٌ لم يذكر اسمه، وعرض على الكنيسة المتعثرة ماليا إثر تمويل الحروب الصليبية – شراء جهنم - مبررا طلبه بأن الكنيسة تعرض الجنة علي الملايين وهو يريد شراء جهنم بمقابل مادي أذهل الكنيسة في روما، وكان شرطه الوحيد، أن تقوم الكنيسة بإصدار بيان رسمي بأنه قد اشترى جهنم، وهو ما قد تم فعلا، وبعد عدة أشهر أعلن الرجل بصفته المالك الرسمي لجهنم طبقا لقرار الكنيسة بأنه لن يُدخل أحدًا إلى جهنم، وأسقط في يد الكنيسة، فلو أغلقت جهنم أبوابها، سيذهب الناس تلقائيا إلى الجنة لعدم وجود ملاذ ثالث، وعليه لن يتقدم أحد للحصول على صكوك الغفران مقابل القتال في مصر والشام وستسقط الحروب الصليبية، القائمة أساسًا على وعد الحصول على ذهب وثروات الشام والقدس؛ وبناء على هذا التطور الرهيب وجدت الكنيسة نفسها مجبرة بإعادة شراء جهنم من هذا الرجل وبأضعاف مضاعفة، لكي تحافظ على زخم الحملات الصليبية.

ربما لا تصدق تلك القصة لكنها حدثت بالفعل، ولمن لا يعرف، دخول الجنة والنار بأمر الله فقط وبعملك في الدنيا، فالتجارة بالدين لمن لا وعي له أمر قديم ومكرر، ولا يجب أن يكون المرء جاهلا أو غير متعلمٍ لكي يكون غير واعٍ، لا،  فالملايين من المثقفين والمتعلمين تعليمًا راقيًا سقطوا في فخ الشيوعية في العصر الحديث، ومنذ سنوات نفس تلك الفئة المثقفة سقطت في فخ داعش طمعا في حلم الخلافة الإسلامية الذي روج له داعش بالقتل والحرق والتدمير، رغم أن نفس الفئة كانت تعلن مرارًا أن داعش صنيعة المخابرات الأمريكية مثل تنظيم القاعدة ومثل جماعة بوكو حرام في أواسط أفريقيا، ونفس الفئة تقع في الفخ التركي المتلاعب والمتاجر بالدين طمعا في تحقيق أهداف اقتصادية وإقليمية شخصية.

فلا رابط بين التثقيف أو التعليم بدون وعي، الوعي بما يدور حولنا، الوعي بأهداف الأطراف المتصارعة، الوعي بالدين الصحيح المتزن، الوعي بأن الوطن يجب أن يكون أولا، لأن بدون وطن لا يوجد أي شيء آخر باق، لأنك لو فكرت ثانية واحدة، منذ متى احتلت دولة دولة أخرى وعملت لصالح شعبها؟ فهدفهم من تجنيدك إسقاط دولتك بأحلام وهمية يصدقها من لا وعي له بهدف احتلالها اقتصاديا واجتماعيا ودينيا لصالح مصالحهم الشخصية، وستجد نفسك مواطنا خائنا لوطنك لم تستطع الدفاع عنه، بل وطعنته في ظهره بمحض إرادتك وجهلك، لكي يدخل نظام آخر ينهي كل مقدرات حياتك، أوليست العراق وسوريا ولبنان وليبيا والسودان واليمن أدلة كافية لك.

دائما أقول – لا تهاجموا من حرق علم مصر في جمعة قندهار في التحرير منذ سنوات – لكن هاجموا من لم يُعلّم هذا الشخص قيمة علم مصر وعدد من دفعوا حياتهم بكل رضاء لكي يكون هذا العلم خفاقا في تراب سيناء.

الوعي هو أن تقدم لوطنك روحك وجسدك لكي يظل حرًا، بدون أن تطلب مقابلا.