الثلاثاء 25 يونيو 2024

ننشر الفصل الأول من رواية «آخر رجال الحسين» للكاتب أحمد صوان

فن2-11-2020 | 17:27

تنشر "الهلال اليوم".. الفصل الأول من رواية.. "آخر رجال الحسين" للكاتب الصحفي أحمد صوان.

"لبيك يا سبط رسول الله".. "فداؤك يا سيد شباب أهل الجنة".. "على العهد يا بن بنت رسول الله".. صيحات لا نهاية لها ظلت تتردد في عقله حتى تسلل نعيق آلاف الغربان إلى أذنيه فاحتلت موضعها لتوقظه، حاول تحريك جسده لكنه شعر بعشرات الوخزات وكأنها سيوف صغيرة أجبرته ليفتح عينيه ليعلم ما حلَّ به، بينما أنفه يمتلئ برائحة دماء أغلبها ليست له، ظل ثوان يحملق في الفراغ ليتبيّن ماذا حدث، كان غبار المعركة قد انقشع تاركًا المجال لآلاف الغربان التي حلّت في سماء كربلاء بحثًا عن وجبة شهية من لحوم المُقاتلين، الذين امتزجت أجسادهم النازفة بين نُصرة الحق والولاء لعرش بنو أمية، تاركة أرواحهم تصعد انتظارًا للطامة الكبرى.


اعتدل في رقدته وأدار عينيه بحثًا عن سيده لكن بصره ارتد لمرماه بالجثث الطافحة، اعتدل أكثر ساحبًا نفسًا عميقًا أثار موجة من الُسعال، لم يُبال بما يُمكن أن يكون قد حلّ بجسده بينما عقله لا يكُف عن التساؤل. "هو ذا واحدًا منهم لا يزال حيًا.. هلّموا".. قطعت الصرخة تفكيره فانتبه إلى ثلاثة رجال كانوا مشغولين بالإجهاز على من تبقى من رفاقه وأثارهم سعاله، اقتربوا منه شاهرين سيوفهم فأسرع يلتقط رمحًا بجواره وألقاه ليستقر في صدر أولهم، ارتبك الآخران لثوانٍ مكّنته من النهوض والتقاط سيف ميّز جسد صاحبه. كان جسده بدوره مُتهالكًا، لكنه استطاع أن يُردي كلاهما بعدما أضافت سيوفهما إليه مزيدًا من الجروح تجاهلها بصرخته التي رددتها الصحراء فأقلقت الغربان الحائمة "يا حُسين"؛ ترك الرجلان يسقطان أمامه فيما عاد بصره يتجول في أرض المعركة وذاكرته تعود شيئًا فشيء، بدت كلقطات مُتناثرة تذروها الرياح.


كان الحُسين قبل أيام يتجهّز للقاء جيش معاوية، وكلمّا أراد المسير كان من حوله ممن أعلنوا البيعة يمنعونه تارة ويسايرونه اُخرى، حتّى بلغ هذه الأرض التي لم يشعر هو نحوها بالموّدة؛ حاول أن يُخفي هذا الشعور لكنه وجده يُناديه "قُل لي يا عبد الرحمن، ما اسم هذه الأرض؟"، بدا توجسه في صوته وهو يُجيبه "يقولون لها كربلاء يا سيدي"، نظر له الحُسين مليًا ثم قال "اللهمَّ، إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء"، أمّن على دعاءه ولم يزد كلمة أخرى؛ كان يظنه سيستأنف المسير لكنه قال "انزلوا، فها هنا مَحطُّ رحالنا، وسفك دمائنا، ومقتل رجالنا". أكان ذلك في الخميس الثاني من المحرم من أم كان يوم الأربعاء الذي سبقه. لا يتذّكر. عاد النعيق يخترق ذكرياته ويُنبهه إلى احتمال أن يلقى المزيد من الرجال الذين لن يتحملهم جسده الهالك، تحرّك ببطء باحثًا عمّا قد يُفيد ترحاله بعيدًا، قضى بحثه في صمت بينما عيناه تذرفان الدموع بلا انقطاع مع كل وجه باسم يراه وقد سبقه إلى الجنة، لمح بعيدًا شال الحُسين المُميز فهرع نحوه علّه يلقى سيده، لكنه لم يُميّز جسده ولا ثيابه، احتضن الشال وبكى بحرقة وهو يُردد "لِمَ تركتني يا رب؟"، قالها ثم استعاذ بالله من الشيطان، كاد عقله يتوه في حال ما سمِعه سيده، لكنه تذّكر ما قاله رسول الله عن الرجل الذي كان يقذف الحجارة إلى السماء شاكيًا "يكفي أنه عرِف أن له ربًا فشكا إليه"، كرر استعاذه بالله وبحث عن خيول من قتلهم آنفًا حتى وجدها، ركب أحدها وأمسك بلجام الآخرين ليتبعاه بعدما حملّهما بما يُفيد رحلته الطويلة من متاع هؤلاء الموتى؛ بدأ في الابتعاد عن أرض المعركة ثم توّقف وعاد يلتفت إليها "بالله حقًا لن أهدأ حتى أجتز رؤوس بني أمية ممن كانوا هنا اليوم". استأنف مسيره في حيرة وهو يُفكر في الوجهة التي سوف يقصدها، أيبلغ واحدة من مدن العراق التي ساند أهلها الحُسين على غير رضاء من ولاتها، أم يعود إلى المدينة حيث ما تبقى ممن ربطت قلوبهم على طاعة ما جاء به رسول الله؛ سار طويلًا بلا هدف حتى أعيته الحيرة، توقف ثم نزل عن فرسه لينصب متاعه مُقررًا المبيت حتى يعلم إلى أين يستقر رحاله.


اعتنى بالخيول ووضع شال سيده بعيدًا عن المتاع، ثم اغتسل من الدماء وأبدل ملابسه بأخرى وجدها في متاع الفرس الذي كان يركبه، فكّر أن يدفن ملابسه لكنه تذّكر أنها ربما تحوي بدورها دماء الحسين، همس "رحمك الله يا سيد شباب أهل الجنة".


نظر إلى الشمس ليتبيّن موضع القِبلة ثم رفع يديه مُكبّرًا للصلاة، كان يقرأ القرآن وعيناه لا تكفان عن البكاء على حفيد الرسول المغدور. "وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ"، ارتفع صوت ترتيله فتذّكر سيده الذي كان دومًا ما يُثني على قراءته للقرآن "وكأن الله خلق صوتك ليستعذب الناس كلماته عبرها"، كان يُكررها له، وفي كل مرة كان قلبه يطير فرحًا فيقول له "لولا أن خدمتك أحبّ إليَّ من الدنيا كلها ما فعلت في دنياي سوى ترتيل آيات الله".


حاول الاستغراق في صلاته لكن عقله ارتحل إلى الأيام الماضية رغمًا؛ كان بجوار الحُسين لمّا بلغ الحاجر من بطن الرّمة، عندما استقرّوا أملى عليه كتاباً إلى الجماعة الذين يُناصرونه من أهل الكوفة، وكان منهم سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيّب بن نجبة، ورفاعة بن شداد وغيرهم، كان يظن أنه سوف يُرسله به لكنه استبقاه وأرسله مع قيس بن مسهّر الصيداوي "لكنهم قد يؤذونه سيدي"، لم يقل ذلك اعتراضًا وإنما رغبة في المعرفة، قال له الحُسين "أعلم أن لا أحد يقدر على نزالك يا بُني، لكن لو رآك رجال يزيد لأدركوا أني قريب وهو ما لا أرغب فيه الآن. اذهب يا قيس رعاك الله". مرّت أيام قبل أن يعلموا أن قيس انتهى إلى القادسيّة فاعترضه الحُصين بن تميم، فأخرج قيس الكتاب وخرّقه حتى لا يعلم أحد ما به، لكنهم حملوه إلى عبيد الله بن زياد الذي رغب منه أن يصعد المنبر فيسبّ الحُسين وأباه وأخاه؛ لكنه خدعه وصعد فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النّبي ثمّ قال "أيّها النّاس، إنّ هذا الحُسين بن علي خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا رسوله إليكم وقد خلّفته بالحاجر فأجيبوه".


أعاده صهيل الخيل إلى حاضره مرة أخرى فعاد يتلو "وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ"؛ كان دون أن يدري وكأنه يُنعي ما حدث بآيات الله، عاد إلى ذهنه الكتاب الذي أرسله الحُسين إلى أهل البصرة، هذه المرة أيضًا رفض أن يُرسله ودفع بالكتاب مع مولاه سليمان أبا رزين وفيه "فإنّ السنّة قد أميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت، وأن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد" كان حفيد الرسول مُحقًا كعادته، فقد أفشى المنذر بن جارود الكتاب إلى عبيد الله بن زياد، هكذا صُلِب أبا رزين بالكوفة ولم يعد إليهم. أنهى صلاته دون أن يُنهي دموعه، ارتمى بجوار الخيل وقد وضع شال الحُسين على وجهه ليتنفس رائحة دماءه، كان عقله يفور بالغضب لكن آلام جسده تغلبت عليه فاستغرق في النوم وهو يُردد "الثأر يا أبا عبد الله".