تمثل المواقع
الاجتماعية جزءًا من ثورة تكنولوجية جديدة ترتب عليها ظهور بعض السلوكيات الخاطئة التي
تحتاج المزيد من الوقت والتجربة والتعلم والتنظيم، لذلك فإن حل المشكلات الناجمة
عن هذه المواقع لن يأتي عبر إغلاقها أو مقاطعتها، وإلا فعلينا أن نطالب بالعودة لوسائل
النقل المستخدمة في القرون الوسطى بحجة التخلص من السلوكيات الخاطئة لبعض السائقين
أو بهدف تجنب الحوادث!
تمر جميع التجارب بفترة
ضبابية قبل تنظيمها، ويمكن التدليل على هذا الأمر بما شاهدته مصر قبل مائة عام
تقريبًا حينما ظهرت الإذاعات الأهلية التي كانت وقتها تجربة جديدة وبلا تنظيم
حقيقي فقد استخدمها أصحابها بما يروق لهم، فتارة تُستخدم للإعلان عن بضائع وأخرى
في بث رسائل غرامية كما استخدمها أحيانًا تجار المخدرات لتحذير بعضهم من الحملات الأمنية،
أما آخرون فقد وظفوها في توجيه "الشتائم" إلى خصومهم!
النظرة العامة إلى
الإذاعات الأهلية أوضحت أن التجربة رغم أخطائها لكنها كانت وسيلة الظهور لمواهب
فنية بدأت شهرتها من خلالها.. فلولاها لما عرف الجمهور إسماعيل يس، وفريد الأطرش،
وأسمهان وغيرهم، كما يُحسب لها ابتكار العديد من البرامج والمواد الإذاعية التي
استفادت منها لاحقًا الإذاعة المصرية عند إنشائها.
الإذاعات الأهلية في
بدايات القرن العشرين تشبه المواقع الاجتماعية في بدايات القرن الواحد والعشرين
حيث تنطوي الأخيرة على الكثير من الفرص الإيجابية الواجب الاستفادة منها بجانب السلبيات
المطلوب مواجهتها وعلى رأسها شائعات المواقع الاجتماعية التي تستخدم في افتعال
الأزمات وبث الفتن حتى أصبحت كلمة "المواقع الاجتماعية" مرادفة أحيانًا لكلمة
"المشكلات الاجتماعية"، هذه المواقع في حاجة إلى المزيد من الجهد في التنظيم
الذاتي لكي تتجاوز فوضى زمن "الإذاعات الأهلية" وصولًا إلى زمن
"الإذاعات المصرية".
"التواصل
الاجتماعي" يصنع صورتنا الذهنية
الصورة الذهنية ناتج
الانطباعات الذاتية التي تتكون لدي الأفراد أو الجماعات إزاء نظام أو دولة أو شعب
أو مؤسسة ما أو أي شخص أو جهة ما، وتتكون هذه الانطباعات إما بالتجارب المباشرة أو
غير المباشرة، وبغض النظر عن مدى صحة المعلومات التي مثلت خلاصة هذه التجارب فهي
تمثل واقعًا صادقًا بالنسبة لأصحابها.
إزاء هذا التعريف ندرك
قوة المواقع الاجتماعية في صناعة الصورة الذهنية للدولة خاصة في ظل ما تمتلكه من
تأثير تجاوز الإعلام التقليدي، نتيجة غياب القيود التي ترسم إطار عملها، مما جعلها
موضع اهتمام قطاعات كبيرة من الجمهور تستطلع الأخبار والآراء من خلالها بغض النظر
عن دقتها، فانتشرت الأخبار الكاذبة بكثرة تروجها جماعات ومؤسسات إعلامية ودول
معادية لمصر بغرض تحقيق سيناريوهات الفوضى والنيل من مصداقية الدولة وصورتها
الذهنية لدى مواطنيها.
التأثير الذي تلعبه
المواقع الاجتماعية في صناعة عقولنا وصياغة أفكارنا ومواقفنا يمكن قياسه عبر قراءة
الإحصائيات المنشورة في نسخة يناير الماضي من تقرير Digital 2020
الصادر عن الشركة العالمية We are social وموقع Hootsuite والتي تكشف مدى أهميتها
وقدرتها على تشكيل وعينا؛ تكشف الإحصائيات أن الفترة من أبريل 2019 إلى يناير 2020
شهدت زيادة في أعداد المستخدمين النشطين لهذه المواقع في مصر بمقدار ثلاثة ملايين
مستخدم جديد ليصل أعداد المستخدمين 42 مليون مواطن بما يمثل أكثر من 40% من السكان
مع عدد مستخدمي إنترنت تجاوز 54 مليون مواطن، بزيادة اقتربت من 10 ملايين مستخدم
جديد على العام الماضي.
يستخدم المصريون
الإنترنت قرابة 7 ساعات وثلث يوميًا معظمهم من خلال الموبايل (قرابة 4 ساعات) كما
يقضون 3 ساعات يوميًا في تصفح المواقع الاجتماعية (99% منهم عبر الموبايل)، وتعد
الفئة العمرية من 25 إلى 34 عاما الأكثر استخدامًا للمواقع الاجتماعية بنسبة
تتجاوز 33% تليها الفئة العمرية من 18 إلى 24 التي تحصل على نسبة تقترب من 30% من
أعداد المستخدمين.. أما مواقع فيسبوك، يوتيوب، واتس آب، ماسنجر، انستجرام فهي الخمسة
الكبار في قائمة اهتمامات جمهور التواصل الاجتماعي المصري.
هذه الإحصائيات تكشف
أن الفئات العمرية من 18 إلى 34 عاما هي المستهلك الأكبر لهذه المواقع حيث يقضون
في المتوسط شهرا ونصف الشهر من كل عام في تصفح هذه الوسائل والتعرض لما تبثه من
شائعات ومعلومات مغلوطة مما يجعلنا في حاجة للاستثمار في صناعة المحتوى المعلوماتي
لتفكيك الأفكار الخاطئة ومعالجتها مع صياغة مساحات آمنة عبر المواقع الاجتماعية
للنقاش واستطلاع الرأي وطرحه تجاه القضايا المختلفة بدلًا من ترك ساحة هذه المواقع
شبه فارغة يمكن للمستغلين التسلسل عبرها.
رغم كل ما يمكن طرحه
بشأن قدرة شائعات المواقع الاجتماعية على الإساءة لصورة الدولة إلا أن هذا لا ينفي
الدور المهم الذي يمكن أن تلعبه هذه المواقع –إذا أُحسن توظيفها- وذلك باعتبارها
من أسلحة القوة الناعمة التي تستطيع الدولة المصرية الاستفادة منها في تشكيل الوعي
وتهيئة الظروف الاجتماعية والنفسية للمجتمع من أجل تفهم ودعم المواطنين بشكل أكبر
لتوجهات الدولة وخطط وبرامج التنمية.
لم تعد مواقع لدردشة
الأصدقاء
لم يعد دور المواقع
الاجتماعية يقتصر على حدود "التواصل الاجتماعي" أو "دردشة
الأصدقاء" لكنها تساهم في صناعة الصورة الذهنية للدول.
سوف تصادفك خلال تصفحك
لموقع فيسبوك، المنصة الاجتماعية الأشهر، صفحات إسرائيلية تخاطب الداخل المصري
والعربي لعرض تفاصيل محددة عن المجتمع الإسرائيلي بغرض تصدير صورة مزيفة عن دولة
الاحتلال بينما لا نمتلك بدورنا منصات شبيهة لعرض الرؤى المصرية سواء للداخل الإسرائيلي
أو التركي أو الإثيوبي أو غيرهم، مع توضيح أن الإشارة إلى هذه الدول تحديدًا جاء
لخصوصيتها في السياسة الخارجية المصرية بما يعكس أهمية مخاطبتنا لشعوب هذه الدول وبث
الرسائل الداعمة لمصالحنا الوطنية باستخدام المواقع الاجتماعية لصياغة صورتنا
الذهنية وترويجها في الخارج.
حرب احتلال العقل
هذه الحرب تربحها
الدول عبر ضربات لوحة المفاتيح وليست ضربات المدفعية بعد أن أصبحت المواقع الاجتماعية
المصدر الرئيسي لتلقي الأخبار لدى قطاعات عديدة بغض النظر عن مدى صحتها، ومع
انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ترسخت الصفة العالمية للشائعة وإزداد انتشارها لكن
الإمداد السريع بالمعلومات الصحيحة في الإعلام التقليدي واكتساب المؤسسات
الإعلامية للمصداقية مع تطوير التواجد الرسمي للدولة عير هذه المواقع قادر في
القضاء على الكثير من الشائعات.
أهداف مثل "تفكيك
الوحدة الوطنية، وتشويه الإنجازات، وتزييف التاريخ" ليست الأغراض الوحيدة لشائعات
المواقع الاجتماعية، فهذه المشكلات التي يتم صناعتها باستمرار عبر هذه المواقع
تؤمن بصيغة عمل واحدة أن الصراع بين الدول يشبه مباريات الملاكمة حيث لم يعد من
الضروري أن تهزم خصمك بالحرب المباشرة أو الضربة القاضية طالما يمكنك أن تهزمه
بالنقاط عبر ضربات الشائعات المستمرة التي تستهدف تشويه كل ما هو قائم ومحاولة
استبداله برسائل وأفكار تتلاءم مع مصالح أعدائنا.
ووسط الاتصال الدائم
بالمواقع الاجتماعية نتعرض لسيل جارف من التضليل الهادف لاحتلال العقل واختراق الداخل
المصري ونشر حالة من الإحباط، تقف وراء شائعات التواصل الاجتماعي أصحاب مصالح داخل
دول معادية لتوجهاتنا الوطنية تعمل على بناء كتائب إلكترونية مزودة بالأجهزة
والأدوات التقنية التى تسهل مهمتها.
هذه الحرب لا تستهدف
احتلال الأرض بل العقل.. وليست حربًا معلنة لكنها مستترة تستهدف عمق الإنسان وأخلاقه
وتقاليده وقيمه وانتماءه.. تستهدف هزيمتنا دون طلقة رصاص أو تكلفة بشرية أو مادية
يتحملها العدو.. لأن عدوك الآن سيكون أنت نفسك عندما تتسلل إلى عقلك أفكار أعدائك
فتؤمن بها وترددها وتساعدهم في تنفيذها ضد مصلحة وطنك.
تستند الشائعات
المنتشرة عبر المواقع الاجتماعية أحيانًا إلى اجتزاء أو مبالغة في عرض الحقائق..
وقد يحرك ماكينة الشائعات مؤسسات إعلامية وجهات معادية لتوجهات الدولة، أو أطراف
يفترض في حياديتها بينما تكون في الأصل مدعومة من أحد أصحاب المصالح ويشجعهم على
نشر هذه الشائعات أحيانًا انتشار الغموض وقلة تدفق المعلومات في بعض القضايا أو
غياب المعلومات الكافية أو تأخر وصولها بشكل سريع ومبسط إلى المواطنين أو عرضها من
خلال إعلاميين فقدوا مصداقيتهم أو تأثيرهم.
ماكينة الأكاذيب
الإلكترونية تفضحها البيانات الرسمية لمواقع التواصل الاجتماعي، فعلى سبيل المثال،
أعلن موقع تويتر، في يونيو الماضي، عن إيقافه لشبكة تضم أكثر من 7 آلاف حساب تركي
تنشر تغريدات ومواد دعائية داعمة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان.. ورجحت تقديرات
لباحثين في ستانفورد أن هذه الشبكة نشرت طوال السنوات الماضية أكثر من 30 مليون
تغريدة مزيفة لدعم أردوغان.
هذه الشبكة المضبوطة أعلن
عن ارتباطها بجناح الشباب داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم بتركيا.. تأمل هذا
البيان جيدًا لأن شبكة واحدة فقط مضبوطة تمكنت من نشر ملايين التغريدات المزيفة، فماذا
عن شبكات أكثر استهدفت الداخل المصري.. إنها حرب ضد انتماء المواطن المصري سلاحها
الشائعات وساحتها المواقع الاجتماعية.
كيف نواجه "حرب
العقول"؟
حتى تتحول المواقع
الاجتماعية إلى وسيلة لصناعة الصورة الذهنية للدولة ولكي تتمكن هذه المواقع من
القيام بدورها الفعال في تفهم المواطنين لخطط التنمية، فإننا في حاجة لبناء رؤية
اعلامية وطنية تدير صورة الدولة عبر المواقع الاجتماعية بدلًا من السماح للبعض باختراق
العقل المصري مشعلًا للفتن، ومفتعلًا للأزمات، ومشككًا في كل قرارات الدولة
ومشروعاتها.
لذا أقترح إنشاء هيئة
مستقلة أو مكتب تنفيذي أو فريق عمل بصلاحيات محددة أو أي شكل تنظيمي آخر بهدف إدارة
صورة الدولة عبر المواقع الاجتماعية، وبحيث تتبع هذه الجهة المقترحة رئاسة مجلس
الوزراء، حيث يتم وضع استراتيجية متكاملة لإدارة صورة الدولة عبر وسائل التواصل ،
وتكون من ضمن مهام هذه الهيئة اقتراح التشريعات الملائمة لتنظيم عمل هذه المواقع كذلك
التعاون مع الجهات المختلفة بغرض إنشاء التطبيقات التي من شأنها تحليل حسابات
الأفراد لإمكانية التنبؤ بسلوكياتهم في المستقبل.
يمكن أيضًا أن تقوم
هذه الهيئة بالتنسيق مع الجهات المختلفة لتحقيق الغرض من تأسيسها وهو إدارة صورة
الدولة عبر المواقع الاجتماعية حيث يمكن، على سبيل المثال، أن يتم النقاش مع وزارتيّ
التربية والتعليم والتعليم العالي، لتدريس مادة عن وسائل التواصل الاجتماعي
تتناولها من كل جوانبها النظرية والعملية، وذلك بهدف إكساب الطلاب المعرفة النظرية
والمهارات العملية للوصول لإدراك كامل للآثار النفسية والاجتماعية والسياسية
المترتبة على استخدام هذه المواقع إضافة لتحصين الطلاب من خطر الشائعات.
أناشد بإنشاء هذه
الهيئة التي لن يقتصر دورها على تنظيم المواقع الاجتماعية للاستفادة من قدراتها
الإيجابية وتجنب سلبياتها ومواجهة خطر الشائعات، وإنما سوف تعمل أيضًا على مخاطبة
الخارج بهدف تفسير مواقفنا وحشد التفهم والتأييد لها.
"هيئة إدارة الصورة
الذهنية للدولة عبر المواقع الاجتماعية" حلم أتمنى تحقيقه حتى لا نخسر حرب
العقول ولكي تتحول هذه المواقع من أداة هدم ووقيعة بين الدولة وفئات المجتمع
المختلفة إلى أداة بناء تدعم خطط الدولة للتنمية.