منذ أن اشتدّ وعيها في خنادق ستينيات
قرنٍ ولَّى، لم تتوقف الطفلة السبعينية، عطيات الأبنودي، عن الجري خلف صور «الناس العاديين»،
أولئك الذين داستهم أحذية المؤرخين. تشعل دائمًا سيجارتها الــ«كليوباترا» التي لم
تغيرها منذ خمسين عاما. سيجارة تذكرها، بأيام ولّت. نفس عميق آخر، من نفس
السيجارة، يذكرها رغم تقدم العمر، والمرض، بالعيال، والغيطان، والطين،
وسير الأقديمن، الذين
عمدّتهم، سينما تسجيلية، وشعرًا، مع رفيق عمرها، عبد الرحمن الأبنودي، قبل أن تنفض
شراكتهما الإنسانية. شراكة لا تلمع كهاربها، على صفحات الجرانين، في مولد رحيل
الخال.
قلب عطيات
الأبنودي بالتأكيد مخلوع، على رحيل عبد الرُحمن، وإن أنكرت لفظًا، ودسّ هو الغصة
التي جرحت روحه، ورئتيه. بكت عطيات، قطعا، عندما علمت بنبأ وفاة الأبنودي. بكت
وحدها، وإن أظهرت صلابتها الاعتيادية. بكت أيامًا لم تكن معه. بكت أيامًا كانت
معه، تتمرمط، بحثًا عنه، وعن رفاقه، المعتقلين، في سجون عبد الناصر. بكت أيام
الناموس، والفرشة الخشنة، والشمس الحامية، في مدينة الوقف، بقنا، عندما كانت تجمع معه
السيرة الهلالية. العمل الملحمي، الذي صلب ظهر الأبنودي.
ذاقت عطيات الأبنودي لحظات صعبة بسبب السياسة،
خلال الحقبة الناصريّة. لم تنضمّ إلى أي تنظيم سري، لكنّ بيتها كان ملجأ كل
المطاردين من الشرطة بـ «تهمة الشيوعية». كانت لا تزال زوجة للشاعر الذي سيدخل
المعتقل في 9 أكتوبر 1966، بتهمة الانتماء إلى تنظيم ماوي. لم يكن اعتقال عبد
الرحمن الأبنودي مفاجأة، إذ كانت الشرطة قد ألقت القبض على أصدقائه واحداً تلو
الآخر، بدءاً من المؤرخ صلاح عيسى، والروائي الأردني غالب هلسة، إلى الشاعر سيد
حجاب، والناقد سيد خميس، والروائي جمال الغيطاني، والقاصّ يحيى الطاهر عبد الله، الذي
قبض عليه البوليس السياسي بعد فترة من الهرب.!
تتذكر عطيات الأبنودي الأشهر الصعبة التي سبقت
الإفراج عن زوجها ورفاقه في مارس وأبريل من العام التالي. تقارنها بالسنوات التي
لم تعشها معه، بعد انفصالهما عام 1989.
العلاقة الغرامية بين الرفيقة عطا، كما كان يحب أن يناديها الأبنودي،
وبين الجنوبي، المحبوس في المعتقل، توطدت أكثر خلال تجربة السجن. تقول في أحد
الرسائل الخاصة التي قرأها الأبنودي في زنزانته: "عبد الرُحمن. نزلت واشتريت
لي قمصانًا، وجلاليب قصيرة للبيت، أشياء ستحبها، أحس بالذنب لأني أشتري أشياء خاصة
بي، ألوان القمصان مشرقة كالتي طلبت مني أن ألبسها يوم أخذوك مني، هل تذكر؟ . ستحبها
كثيرًا، وتمنيت أيضًا أن أشتري التايير الذي وعدتني به، ولكن ليس معي أموال تكفي،
اشتريت بنًا وشايًا كالعادة، ذهبت إلى الإذاعة في السادسة والنصف، سجلت حلقة (من
الحياة) - برنامج إذاعي- عدت إلى البيت، تعشيت أنا وكمال أخوك، وأمي. نمت حوالي الحادية
عشرة حتى الصباح".
من بين كتبها العديدة، كتاب منحته عنوان «أيام لم تكن معه»، يروي
تجربتها مع الشاعر الذي أحيا «السيرة الهلالية»، وترجم إلى الإنجليزية أخيراً
بعنوان «مواسم الغفران». بعد مرور سنوات على الانفصال، رفع الأبنودي دعوى قضائية
لمطالبة «الرفيقة عطا» ـــــ كما كان يوقع رسائله إليها ـــــ بالتخلي عن لقب
الأبنودي. «هل هناك أحد في الدنيا يمكن أن يلغي تاريخه؟» تسأل. «هذا لقبي، وأنا
حرة».
تنظر صاحبة فيلم «الأحلام الممكنة» (1982) إلى صورة تحمل فيها ابنتها
بالتبني، أسماء يحي الطاهر عبد الله، على كتفيها... تنفرج أسارير الأم بوضوح صوب
ذلك الخيط المضيء. كبرت أسماء الآن، ترعى أمها – عطيات – في
منزلهما بحي المقطم، وربما يتذكران الآن، ويقلبان صورًا، ستدخل ألبومها، عاتبة على
صاحبها الذي ساب المطرح ولم يعد.
رغم أن انفصالها عن عبد الرحمن الأبنودي، أثار جدلا كبيرًا في
الأوساط القريبة منهما، إلا أن عطيات المُحِبّة، آلمها أن تنشر عنه الجرائد. قررت
أن تسكت، احتراما للمعنى، ولو تخرّب الهيكل. قفلا الباب بالمغلاق على سبب
الانفصال. بنفس مطمئنة تقول عطيات عن هذا: «لا أحب أن أدين أحداً، أنا مؤمنة
بالتغيرات التي تحدث في النفس البشرية، وأحترم المنجز المشترك بيننا». أبكتها هذه
العبارة (قبل أربع سنوات) عندما كنت أدردش معها في بيتها بمدينة نصر.
حتى لو كان انفصالهما، أكبر خطأ ارتكبته الأيام، حتى لو حاول كثيرون
أن يشطبون تجربة عطيات من حياة الأبنودي، لكن الحقيقة تأبى، وتضحك وتسخر وتُخرج
لسانها كل هؤلاء. عطيات، مسكونة بتجربة الأبنودي، تجربتها وتاريخها، وفي قول آخر،
دائرتهما المقطوعة.
نقلا عن مجلة المصور