الأربعاء 26 يونيو 2024

الحلقة الثالثة| من كتاب خطاب العنف والدم لـ"حسام الحداد"

فن3-11-2020 | 14:39

"الهلال اليوم"، تنشر فصلًا من كتاب "خطاب العنف والدم في الفقه الإسلامي"، للكاتب حسام الحداد، والصادر عن دار ابن رشد للنشر والتوزيع، وجاء الفصل بعنوان "خطاب العنف والدم في التراث الإسلامي"، ونقرأ فيه


الناسخ والمنسوخ وآية السيف

لم ترد كلمة «السيف» في القرآن ولو مرة واحدة، ورغم ذلك أطلق المفسرون «السيف» على آية سورة «التوبة» الآمرة بقتال الناس عمومًا، ناسخين بها كل آيات الصفح والعفو والتعايش الواردة بالقرآن الكريم. وتقول الآية " فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (21) ويقول ابن كثير مؤسسا للغزو والقتل في تفسير هذه الآية " والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه، وبه قال مجاهد، وعمرو بن شعيب، ومحمد بن إسحاق، وقتادة، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها في قوله: " فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ " (22) ثُمَّ قَالَ "فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ" أي: إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم، وأجلناهم فيها، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم؛ لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر؛ ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة.

وقوله: { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } أي: من الأرض. وهذا عام، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله: "وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ" (23)

وقوله: "وَخُذُوهُمْ" أي: وأسروهم، إن شئتم قتلا وإن شئتم أسرا.

وقوله: "وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ" أي: لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم، والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع، وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام؛ ولهذا قال: "فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ "

ولهذا اعتمد الصديق، رضي الله عنه، في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام، والقيام بأداء واجباته. ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة، التي هي حق الله، عز وجل، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين؛ ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر، رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" الحديث.

وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر، ما كان أفقهه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا عبد الله بن المبارك، أنبأنا حميد الطويل، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم". (24)

فيؤكد هنا ابن كثير على ان القتال شريعة الاسلام بمعنى منهجه للدعوة وان يطال هذا القتل الجميع بغض النظر عن أسباب نزول الآية وانها كانت تتحدث عن قوم معينين وليست على اطلاق ألفاظها، هذا التفسير الذي بعطي المبرر لهذه الجماعات بالغزو وقتل الآخر حتى لو كان مسلما لكنه ليس تابع لجماعتهم.

والسؤال هنا كيف يكون القرآن محكماً في آياته ثم يأتي من يقول أن آياته فيها المحذوف حكمه والباطل تشريعه ويسمى ذلك نسخاً؟ لا يقول ذلك الا من كان عدوا للقرآن غير مؤمن به .!!

ويعلم المهتمون بالدراسات القرآنية أن الناسخ والمنسوخ قضية خلافية وليست من المعلوم بالدين بالضرورة، وأنه لا يوجد حتى حديث منسوب الى رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول بأن الآية الفلانية نسختها الآية الأخرى. وان علماء مسلمون كبار انكروا وجود هذا الإفك العظيم الذي ساهم في هجر القرآن والإقبال على الروايات والأحاديث التي فرقت المسلمين الى نحل ومذاهب، ومن هؤلاء العلماء: الشيخ يوسف القرضاوي، الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، الإمام محمد عبده رحمه الله، أبو مسلم الأصفهاني، الشيخ عبد المتعال الجبري رحمه الله، وغيرهم ممن فتح الله عليهم. (25)

والغريب أن الذين قالوا بالنسخ مختلفين على كيفية النسخ وعلى عدد الآيات المنسوخة، فمنهم من قال بأن القرآن لا ينسخ إلا بالقرآن، و منهم من قال بأن الحديث ينسخ القرآن، ومنهم من قال بأن الاسلام ناسخ للشرائع السابقة،

و منهم من قال بأن النسخ هو تخصيص العام أو تقييد المطلق (وهو رأي صحيح)……فمثلاً :

أمرنا ربنا بأن نقول لوالدينا "وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا" ولكنه في نفس الوقت قال {وما كان استغفار ابراهيم لأبيه الا عن موعدة وعدها اياه فلما تبين له انه عدو لله تبرا منه ان ابراهيم لأواه حليم} ……

فيجب على المسلم أن يستغفر لوالدية إلا اذا كانا عدوين لله تعالى ،

فهذا ليس نسخ ولكن تكامل وتعاضد الآيات بعضها ببعض.

فلا يجوز ان نفهم الآيات بمعزل عن الآيات الأخرى ،فكل آية تعضد وتكمل الآية الأخرى.

موقعة التحكيم:

بعيدا عن سرد أحداث المعركة التي كان دائرة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان والتي أطلق عليها المؤرخون "الفتنة الكبرى"، وبعيدا عن التحيز لفريق ضد آخر، فما يهمنا هو نتائج الموقعة وما خلفته لنا من انقسامات بين المسلمين من ناحية ومن ناحية أخرى الباس السياسي بالديني.

فقد ذهب كل من الحكمين إلى كل فريق على حدة، وأخذا منهما العهود والمواثيق أنهما أي الحكمان آمنان على أنفسهما، وعلى أهليهما، وأن الأمة كلها عونٌ لهما على ما يريان، وأن على الجميع أن يطيع على ما في هذه الصحيفة، فأعطاهم القوم العهود والمواثيق على ذلك، فجلسا سويًا، واتفقا على أنهما يجلسان للحكم في رمضان من نفس العام، وكان حينئذ في شهر صفر سنة 37 هـ.

متن صحيفة التحكيم

كتبت صحيفة التحكيم على النحو التالي: " بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى علي على أهل الكوفة و من معهم من شيعتهم من المؤمنين و المسلمين، و قاضي معاوية على أهل الشام و من كان معهم من المؤمنين و المسلمين، إنا ننزل عند حكم الله عز و جل وكتابه، و لا يجمع بيننا غيره، و إن كتاب الله عز وجل بيننا من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا، ونميت ما أمات، فما وَجد الحكمان في كتاب الله عز وجل عملا به، وما لم يجدا في كتاب الله عز وجل فالسُنّة العادلة الجامعة غير المفرقة".(26)

وشهد هذا الاجتماع عشرة من كل فريق، فمن أصحاب علي بن أبي طالب شهد كلا من: عبد الله بن عباس، الأشعث بن قيس الكندي، و سعيد بن قيس الهمداني، حجر بن عدي الكندي، عقبة بن زياد الحضرمي...

و شهد من أصحاب معاوية بن أبي سفيان كلا من: أبو الأعور السلمي، حبيب بن مسلمة الفهري، عبد الرحمن بن خالد المخزومي، يزيد بن الحر العبسي، حمزة بم مالك الهمداني...(27)

اجتمع الحكمان في دومة الجندل بأذرح، وكان عمرو بن العاص المفاوض من قبل جيش معاوية بن أبي سفيان، وأبو موسى الأشعري المفاوض من قبل جيش علي بن أبي طالب، وتوقف القتال وأذن علي بالرحيل إلى الكوفة، وتحرك معاوية بجيشه نحو الشام، وأمر كل منهما بإطلاق أسرى الفريق الآخر وعاد كل إلى بلده.

وكانت هذه الواقعة بدية حقيقية لاستخدام الدين في المجال السياسي بمعنى استدعاء الدين ليفصل في مسائل سياسية ودنيوية ما كان له أن يفصل فيها. وهذا الاستدعاء للديني في مجال السياسي، لم يفصل في حقيقة الأمر، في أي واقعة بما في ذلك الواقعة الأولى التي تم فيها استدعاءه ليفصل فيها. فمهمة هذا الاستدعاء – في أي وقت - ليس الفصل وإنما خلط الأوراق وبلبلة الآراء والأفكار من أجل مصالح فردية شخصية أو أسرية عشائرية.

لقد كان في مشهد رفع “المصاحف”، وليس المصحف، دلالة واضحة للدور المطلوب منها، وهو تعدد الرؤى والاجتهادات وتباينها ثم اختلافها، في خطوة تكتيكية تخدم المتراجع والمتقهقر، ليلتقط أنفاسه ويعيد ترتيب أوراقه ليتقدم، وتعمل على تراجع المتقدم فتبلبل أفكاره ليتخلف. ولقد أدرك علي بن أبي طالب حقيقة الفتنة منذ الوهلة الأولى لرفع المصاحف أو للتحكيم، وهو لذلك وجه أصحابه فيما بعد، بعدم مجادلة الخوارج بالقرآن لأنه، كما قال لهم “حمال أوجه” وأضاف بأن الخوارج “أحفظ لكتاب الله منكم” ولكن جادلوهم “الحجة بالحجة ...”.

إذن، قبل رفع المصاحف، كانت المعركة فتنة صغرى واضحة، وتتخذ مسارها الطبيعي لصالح علي، ولم تتحول إلى فتنة كبرى إلا بعد رفع المصاحف، وكأن تدخل الدين في شئون السياسة هو “الفتنة الكبرى”. في واقع الحال، لقد انتصرت الفتنة على الثورة، على اعتبار أن علي يمثل جانب الثورة ومعاوية ومن معه يمثلون جانب الفتنة، لكن تلك الفتنة لم تتحول أبداً إلى ثورة ولو على سبيل الاسم. من هنا نفهم لماذا لم تتحول فتنة معاوية إلى ثورة بأي معنى، ذلك أنها كانت فتنة تستهدف مصلحة فردية وأسرية، في حين أن مصلحة الأمة بعيدة عن أهدافها كل البعد.

تكمن الإشكالية اليوم ، في الاستمرار في اجترار وتكرار موقف عمرو بن العاص، وهو موقف وإن كان يصب في خانة الدّهاء السياسي، إلا أن تكراره لم يعد كذلك، من موقعنا التاريخي الذي سمح لنا برؤية نتائجه الكارثيّة. يتمثل تكرار هذه الفتنة، ورفع المصاحف، بصور متعددة من قبل الاخوان المسلمين وغيرهم من الجماعات الاسلامية، وكأنهم لم يدركوا كوارث استدعاء الدين في مجال السياسة.

على الرغم من أن التأويل المنفتح والجهد المستنير، في قراءة تاريخ الإسلام والقرآن، قراءة منفتحة تحاول جعله صالحا لكل زمان ومكان، إلا أن هذا الجهد، حين يستخدم كتبرير لضرورة دنيوية سياسية ، يمثل رفع آخر للمصاحف في وجوه المناهضين لفكر هذه الجماعات.

على الرغم من معرفتنا بملابسات تلك الفتنة وأسبابها إلا أن كثيرا من المفكرين، من المطالبين بدولة مدنية، وعلى اختلاف توجهاتهم، ما زالوا يحكمون القرآن تارة، وتاريخ الإسلام السياسي تارة، وسنة النبي والصحابة تارة أخرى، من أجل توضيح علاقة الدين بالسياسة، وإفحام الطرف النقيض وبيان صحة ما يذهبون إليه من نتائج.

وهو نوع من التحكيم، “حمال أوجه”، لا يعجز الطرف المناهض للمدنية والعلمانية، من الإتيان بمثله بالاحتكام لنفس أدواته. ذلك أن في هذه الأدوات - القرآن، وتاريخ الإسلام، وسنة الرسول، وجه أو وجوه تحتمل قراءات مختلفة وأحياناً متباينة ومتعارضة. والإشكالية ليست في الصراع بين وجهتي نظر متناقضتين أو طرفين يحسبون ما يفهمونه “وجهة نظر” أو “رأي” قابل للنقد وللنقض، وهو وإن كان كذلك لدى بعض التيار المدني العلماني، إلا أن الأمر ليس كذلك لدى الطرف النقيض، فالصراع قائم عندهم بين حق وباطل يمثلون هم فيه دور وطرف الحق وجانب الحقيقة المطلقة واليقين المبين.

ما يحدث منذ زمن طويل هو مصادرة مفهوم “الإسلام” من قبل أطراف الصراع، بغض النظر عن صحة مفهوم أيا منهم. تماما مثلما يصادر مفهوم “الشعب” والحديث باسمه من قبل النظام والمعارضة، ومنذ زمن طويل أيضًا.

    الاكثر قراءة