السبت 18 مايو 2024

صدقى سليمان.. المهندس الذى أنقذ الحلم ملحمة السد العالى

26-4-2017 | 13:12

بقلم: محمد حبيب

لولا هذا الرجل لغرقت مصر فى الفيضان وتعرضت لخسارة اقتصادية وسياسية ومائية كبيرة ، انه المهندس صدقى سليمان وزير السد العالى وصاحب الجهد الأكبر وراء بناء السد العالي الذى يعد أكبر مشروع هندسى فى القرن العشرين. صدقى سليمان خريج كلية الهندسة جامعة القاهرة .

 

 ولد صدقى سليمان في محافظة القليوبية عام ١٩١٩، وحصل على بكالوريوس الهندسة جامعة القاهرة عام ١٩٣٩، ثم حصل على ماجستير في العلوم العسكرية، وكان ضابطاً بسلاح المهندسين سنة ١٩٣٩ وشغل منصب سكرتير عام مجلس الإنتاج سنة ١٩٥٤. ثم تولى منصب سكرتير عام لجنة التخطيط العليا سنة ١٩٥٦، بعدها ترأس مجلس إدارة مؤسسة مواد البناء والحراريات ١٩٦١.

وساهم بنصيب كبير في الدراسات التي أجريت على إنشاء شركة الحديد والصلب، وشركة سيماف، وجميع شركات التعدين، وإنشاء المصانع الحربية، لذا اختاره الرئيس جمال عبدالناصر وزيرا للسد العالي عام ١٩٦٢.

وكان أول وآخر وزير للسد العالي، اختاره ناصر للتغلب على مشكلة كبيرة، وهى أن العمل في السد العالى بدأ بهمة ثم أصابه بعض الفتور، ومعدلات الإنجاز الضعيفة تشير إلى خطر قادم، فخطة العمل كانت قائمة على الانتهاء من المرحلة الأهم في البناء وهى تحويل مجرى النيل قبل مايو ١٩٦٤، إن لم يتم تحويل المجرى قبل هذا الموعد سيجرف الفيضان المتوقع كل الجهود التي بذلت قبل هذا التاريخ، خسارة اقتصادية وسياسية ومائية تقدر بحوالي ٤ مليارات متر مكعب من الماء ستجعل ارتفاع الماء في شوارع القاهرة أكثر من خمسة سنتيمترات، لا أحد يعرف موضع العلة، ولا خطة واضحة تستطيع مواجهة الأمر، قال عبدالناصر: صدقى سليمان.

كان متبقيا على موعد تحويل المجرى أقل من عامين، قرر ناصر إنشاء وزارة السد العالى بقيادة صدقى سليمان كان هو وزيرها الأول والأخير، الضابط المهندس الذى ساهم فى إنشاء مصانع الإنتاج الحربى ومصنع الحديد والصلب ومعظم مؤسسات القطاع العام، سأله ناصر عما يحتاج إليه لإنقاذ الموقف، طلب سليمان شيئين، صلاحيات رئيس جمهورية وخط تليفون مباشر إلى مكتب رئيس الجمهورية.

هجر صدقى سليمان مكتبه وبقى في أرض الميدان يستقبل الشكاوى بنفسه ويتخذ فيها قرارات على الهواء وهو يقف وسط قناة الأنفاق أو في مجرى التحويل أو على مقعد قيادة كراكة، أصدر قرارات بانتداب ضباط مهندسين، وضم من أنهى خدمة التجنيد إلى العمل، وإقامة معهد يقدم دورات تدريبية على العمل في السد، وقرار بأن تكون سنة الدراسة الأخيرة لطلبة الدبلوم الصناعى في أسوان على هامش العمل في السد، وعند بداية العمل عام ١٩٦٠ كان هناك «بلدوزر» واحد في الموقع حارب سليمان حتى أصبح هناك أكثر من ٧٠ «بلدوزر» بعد أربع سنوات.

كان قرار سليمان أن يبدأ العمل في الخامسة صباحا وأن يكون أذان الفجر هو شارة بدء العمل، وكانت معنويات العمال محل اهتمامه، فقرر أنه لا ساعة عمل تزيد على الثمانى ساعات المقررة بدون مقابل، ولا تجاوز لمعدلات الإنجاز المطلوبة بدون مكافأة تشجيعية تبدأ بخمسة جنيهات إلى مائة جنيه، وفى الوقت نفسه لا يمر خطأ ولو صغير بدون عقاب.

 وضع سليمان قانونا جديدا (لا راحة ولا إجازات حتى نهد الجبل)، ساعدته الروح التي بثها في المكان على تقبل الفكرة، ثم وضع لافتة كبيرة ( باقى من الزمن (...) يوما)، كانت تلهب حماس الجميع، وعوض غيابهم عن أهلهم بأن خصص أماكن لإقامة أسر العمال المتزوجين مدعومة بجمعيات تعاونية استهلاكية، وسهل إجراءات نقل أبنائهم إلى مدارس أسوان، ولم ينس الحفلات الترفيهية التي كان أحياها معظم فنانى مصر، وكان يتابع شئون العاملين ومشاكلهم كبرت أو صغرت بنفسه، هنا قرار لعلاج ابن عامل على نفقة الدولة، هنا يسرع لفك أسر عامل تم حبسه ظلما لاشتباهات سياسية، وبعد أن تزايدت معدلات الموت الخطأ قرر أن يكون هناك غطاء تأمينى لكل عامل من خمسمائة إلى عشرة آلاف جنيه.

كان أمرا عاديا بعد ذلك أن يتم تحويل مجرى النيل في الموعد المحدد له، كان سليمان يقود هذا الأوركسترا الضخم بنجاح ويقول: علمنا بناء السد أن الصبر لا يكمن في الاستسلام للزمن ولكن في مقاومته.

رئيس حكومة الإنجاز

وبعد أن تمت إقالة زكريا محيى الدين من رئاسة الحكومة بعد أن رفع سعر الأرز خمسة مليمات، تم تعيين صدقى سليمان رئيسا للوزراء، أطلق ناصر على حكومة سليمان اسم ( حكومة الإنجاز) كان يراهن عليها في أن تقوم بنقلة تشبه تلك التي قام بها سليمان في موقع السد العالى، وفور وصول سليمان إلى مكتبه الجديد أصدر عدة أوامر، الأولوية في الدخول إلى مكتبه بدون سابق موعد أو إذن هم العاملون في السد العالى، وبعد أن لمح كمية الهدايا التي تصل إلى مكتبه أصدر قرارا بعدم تلقى هدية تزيد قيمتها على جنيه واحد، ثم بدأ يدرس ويخطط لكن النكسة أصابت الحلم في مقتل وتوقف كل شيء دون سابق إنذار.

في تلك اللحظة خاف سليمان على حلم السد، خاف أن تكسره الهزيمة، اعتذر عن رئاسة الحكومة وعاد إلى موقع العمل واعتبره ميدان معركة أخرى الانتصار فيها مسألة حياة أو موت، ظل يعمل حتى وقف ناصر في آخر خطاب رسمي له أمام أعضاء المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى، وبعد أن وجه التحية إلى الحضور، قال:« تلقيت اليوم الرسالة التالية من السيد وزير السد العالى يقول فيها:باسم بناة السد العالى الذين تعهدوا بإنشاء محطة كهرباء السد العالي في العيد الثامن عشر للثورة تقديرا لفضلها في تنفيذه، أبلغ سيادتكم أن العمل في السد العالى على هذا النحو يكون قد أكتمل على أكمل وجه».  ضجت القاعة بالتصفيق لدقائق طويلة، ثم رحل بعدها ناصر بأيام.

كان صامتا ومؤثرا تماما كالكهرباء التي انطلقت من السد العالى تنير كل بيت في حضر وريف مصر. كانت أولى قرارات السادات هى إلغاء وزارة السد العالى، والاكتفاء بوزارة للكهرباء تم تعيين شخص آخر مسئول عنها، وعُهد إلى سليمان بإدارة الجهاز المركزى للمحاسبات، رفض سليمان بعد سنوات العمل بين الرمال أن يجلس في مكتب مكيف، اعتذر كثيرا لكن السادات أصر، تولى سليمان مسئوليته الجديدة، وأعاد تأسيس هذا الجهاز وظل يرسل للسادات يوميا تقارير الفساد لكن السادات لم يهتم فاعتذر سليمان عن منصبه.

ثم جاءت لحظة الافتتاح الرسمي للعمل في السد العالى، طلب السادات من وزير الكهرباء حلمى السعيد رفع اسم محمد صدقى سليمان من دعوات الحضور، طلب منه أن يتجاهله لكن السعيد قاتل حتى يحظى سليمان بدعوة للحضور والتكريم، وافق السادات على مضض وعندما نودى على اسم سليمان في الحفل اكتشفوا أنه لم يحضر.

اختار سليمان أن يبقى في بيته بعيدا عن الأضواء والمناصب، كان متواضعا هادئا لا يبحث عن المناصب ولا يهتم بالمهاترات، توفى في ٢٨ مارس ١٩٩٦.

    الاكثر قراءة