الجمعة 10 مايو 2024

«قُبة سيدنا الوالى دول نوروها»

3-11-2020 | 17:20

هكذا اختزل الشاعر العبقري المصري «صلاح جاهين» كل مظاهر “الليلة الكبيرة” من ليالي المولد بتلك العبارة الشعرية البديعة والبليغة “ قُبة سيدنا الوالي دول نوروها “ ، فنور القبة في علوها وسموها وبهاء وجودها الروحي المفرح والمطمئن والهادي والمرشد لنفوس الأتباع يتجلى بمجرد تنويرها لإطلاق إشارة افتتاح مراسم المولد الرائعة.

و”الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كثيرة.. ماليين الشوادر يابا من الريف والبنادر”.. نعم ،عالم كتيرة ، فدفتر أحوال البلد يحتشد بنحو ٢٨٥٠ مولدا شعبيا، إذ يبلغ عدد زوارها نحو ٤٠ مليون شخص على مدار العام، ولا تخلو محافظة أو مدينة مصرية من مولد، يجدد لغة الوصل بين البشر وموروثهم الروحي والديني.

المولد عالم للبهجة الروحية والإنسانية بألوان زاهية متباينة متداخلة بكثافة ووجود مزدحم ، يعكس ثقافات شعبية متعددة كنوعية الأغذية وطرق تناولها وتراكيبها وطرق طهوها ، والتجارة التي يسمونها داخل الموالد “بتجارة البركة”، فعندما تحل البركة يكون الكلام في السعر وليس التفاوض بين البائع والمشتري..

المولد رياضة وزحمة وناس ودنيا، يتبارون ويتفاخرون بمدى قوة الذراع في دفع ذلك المجسم الحديدي الضخم ليصل للنهاية ، ويتسابقون لضرب حبات “ البمب “ في لعبة النيشان والتصويب للفوز بهدايا المولد ويفرحون بما يكسبون عندما ينجحون فيه، فيكسبون زجاجة عطر، أو مجموعة من «الفوانيس» الفالصو، أو قرط (حلق) مخرطة أو خلخالاً يزين ويبرز جمال سيقان الصبايا الملتفات في “الملاية البلدي” والبرقع ..

وأشهر الموالد التي يحتفل بها في مصر المولد النبوي الشريف، يليه مولدا سيدنا الحسين والسيدة زينب “أم هاشم” وتعكس الإحصائيات الحديثة أن هناك ما لا يقل عن مليوني فرد يحتفلون بمولدي السيدة زينب وأخيها سيدنا الحسين في القاهرة، بخلاف الموالد الأخرى في المدن والقرى المصرية. ومن الموالد الشهيرة أيضاً في مصر مولد السلطان أبو العلا وإبراهيم الدسوقي والسيد البدوي بطنطا والسيدة عائشة والإمام الشافعي.

ودائمًا ما يصور البعض أن هناك صراعاً الدين والفن ، بينما الأمر في جوهره يتعلق بالجهل بثوابت الدين وعدم معرفة بوظيفة الفن ..

وقد استشهدنا في بداية المقال بالحالة العبقرية التي أحدثتها “ الليلة الكبيرة “ في نفوس ووجدان شعبنا المصري مما يؤكد على حالة الصلح والوئام والتكامل بين الفن والدين .. والتفاعل البديع بين الحالة الروحية بالاحتفال بمناسبة دينية وحالة إبداع شعري وموسيقي ومسرحي وتصميم عرائس وفنون تحريكها ليؤكد على كذب مايدعون من وجود حالة التضاد والعداء بين الفن والدين ..

وقد ظهرت كتب عديدة في مصر والعالمين العربي والإسلامي حول فلسفة الموالد من أهمها كتاب “الموالد الشعبية في مصر” اشترك في تأليفه العديد من الباحثين وقام بالتقديم له الأستاذ سعد عبدالمنعم بركة. و في مجال الفن التشكيلي في مصر تعتبر أضخم جدارية تم تناول موضوع الموالد فيها هي جدارية باسم “المولد” للفنان التشكيلي د. طه القرني والتي دخلت عن جدارة موسوعة جينيس للأرقام القياسية في العام ٢٠٠٧، حيث يبلغ طولها ٣٢ متراً، وتجسد ما يزيد على خمسة آلاف شخصية مصرية من البسطاء الذين يحضرون الموالد الدينية والشعبية..

يحكي لنا الفنان التشكيلي والناقد الفني الكبير والرائد صلاح بيصار على صفحته قائلا: “عندما سافر الفنان ممدوح عمار إلى باريس للدراسة، اشتد به الحنين إلى مصر وازداد الحنين وفاض، وحلت ذكرى المولد النبوي الشريف ..فأبدع هناك العشرات من عرائس المولد من بينها راقصة باليه”. عروسة المولد في الأصل مصرية فاطمية..من إبداع القلب المصري حبًا في الرسول الإنسان .. وهي عروس من السكر غارقة في دنيا الزينة من بهجة الورق الملون والمذهب والمفضض تسر الناظرين ..وعندما تذوب حلاوتها نقول صلى الله عليه وسلم ..ونردد ما قاله شوقى “ولد الهدى فالكائنات ضياء “ ..أبدعها الكبار من فنانينا في التصوير والنحت مع فناننا عمار ..من بينهم حامد عويس وجمال السجيني في النحت والتصوير وعمر النجدي وحسن سليمان وعادل حسني وسمير فؤاد والكثير والكثير بلمسة الحب والسلام”. كما هنأ الفنان التشكيلي فرحات زكي ، الأمة الإسلامية بمناسبة المولد النبوي ، وقام بنشر لوحة فنية من تصميمه تعبر عن مظاهر البهجة، وعلق عليها قائلاً : “إخوتي وأصحابي وحبايبي، كل عام وأنتم بخير..بمناسبة المولد النبوى الشريف، يارب أحفظ مصر وأهلها”..

يرى الفنان التشكيلي الكبير والمبدع عبد الوهاب عبد المحسن أن المعتقد إذا ركب حصان الفن، ساهم في صنع حالة من المحبة الخالصة للمعتقد، وهكذا يأخذنا الفنان في جولة في ذاكرة مصر، إلى مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حيث السرادق المقام على ناصية إحدى الحارات المصرية القديمة، تكسوه الخيام الحمراء، ويحوي داخله عرائس المولد، التي يشتريها العشاق ليهدوها إلى معشوقاتهم، وكذلك حصان الحلاوة الذي طالما كان حلم الصبيان أن يكبروا ويركبوا حصانًا حقيقيًا، وأيضًا أبو زيد الهلالي بحصانه وشواربه الذي دائمًا ما مثل فكرة البطل المُخَلّص، كل هذا كان فنًا تشكيليًا مصنوعاً باحترافية على الرغم من أنه تم تنفيذه بفطرة خالصة، وأيضًا حلاوة السكر الحمراء، التي كانت أرخص في السعر من سابقيها وأيضًا أصغر في الحجم. ويتذكر عبد الوهاب عبد المحسن فترة الاستعداد للحرب التي انسحبت أيضًا على حلاوة المولد، فبجانب العروسة والحصان، تجد مدرعات ودبابات ومدافع، ما شكل حالة من الترابط بين المعتقد والهم العام. وخارج السرادق نسمع قرع الدفوف ورنة الصاجات ودبيب الأرجل والتصفيق المتناغم، ونشاهد التنورة الملونة تتقدم صفوف الموكب خلفها ضاربو الدفوف ويتوسطهم فرس الخليفة، وتتوالى الأعداد تتبع مسيرة الموكب، والذكر يخيم على المشهد، وتستمر المسيرة حتى ينتصف النهار، حيث يهرع كلٌ إلى بيته، لتتجمع كل أسرة على مائدة الطعام التي جهزوها قبلها بفترة لهذا اليوم، حيث تذبح الطيور في هذا اليوم كطقس مصري استمر حتى اليوم.

وأيضًا يتذكر الفنان والناقد عز الدين نجيب احتفالات القرية المصرية بالمولد النبوي الشريف، حيث تخرج الزفة كل عام من المسجد، يقودها الخليفة راكبًا على فرسه، وعلى كتفيه الوشاح الأخضر وعلى رأسه العمة الخضراء، يحيطه ضاربو الدفوف الذين يلبسون “الشيلان الحمر” والعمائم البيضاء، ويسير جميع المواطنين في هذا الموكب في تظاهرة شعبية معبرة يملؤها الحب والسعادة، إلى أن يصل الموكب إلى ضريح ولي القرية.

هذا في الصباح، أما في المساء، تلتف الأسر المصرية على الموائد يكملون احتفالهم بأكلات المولد الشعبية، مثل “المخروطة” وما شابهها، إضافة إلى حلاوة المولد التي يعشقها الأطفال، وأفاد عز الدين نجيب بأن عروسة المولد وحصان الحلاوة اخترق الفن التشكيلي وأثر فيه بشكل كبير، فنجد الكثير من اللوحات لكبار الفنانين المصريين تكرس للاحتفال بالمولد، من خلال تشكيلات العرائس والأحصنة.

ويواصل عز الدين نجيب ذكرياته مع الاحتفال ، ولكن في المدينة هذه المرة، حيث يخرج موكب الكسوة من ورش الخيامية، حيث يستغرق الصناع عامًا كاملًا حتى ينجزوا كسوة الكعبة المشرفة، وكطقس شعبي تخرج دائمًا الكسوة في موكبها في المولد النبوي، وتُحمل على الجمال لتنطلق في مسيرة يمشي فيها الجميع محتفلين، وتمضي المسيرة وتجوب عدة مدن لتصل أخيرا إلى السويس، حيث تحمل في إحدى السفن لتنطلق إلى الحجاز، وتكسي في موسم الحج.