الثلاثاء 21 مايو 2024

الشيخ الشعراوى

كنوزنا3-11-2020 | 17:34

الشيخ محمد متولى الشعراوى ظاهرة غريبة عجيبة فى زماننا وإن كان له أشباه ونظائر فيما سلف لنا من أيام ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


وقد عرف جمهور الناس هذا الشيخ الجليل فى أوائل السبعينات الميلادية وكان صاحب الفضل فى التعريف به وتقديمه للناس الأستاذ الفاضل النابه " أحمد فراج " وذلك من خلال برنامجه النلفزيونى المعروف يومئذ " نور على نور " وللتاريخ نقول أن الذى قدم الشيخ الشعراوى للأستاذ أحمد فراج هم طائفة من أدباء السعودية ووجهائها عرفوا للشيخ قدره وأنزلوه منزلاً كريماً أيام تدريسه بكلية الشريعة بمكة المكرمة وللشيخ هناك أصداء عالية الرنين.


وقد بهر الشيخ الشعراوى آنذاك أسماع الناس وأبصارهم بثلاث حلقات تلفزيوينة حول:  الإسراء والمعراج , والقضاء والقدر , وحديث هند إبن أبى هالة فى صفة خلق رسول الله.


ويومها أدرك الناس كل الناس أنهم أمام صوت جديد يدعو إلى الله على بصيرة بإسلوب مباين لكل ما آلفه الناس من أساليب الدعوة والتوجيه وأنماط الوعظ والإرشاد وإنما كان ذلك لأن الشيخ سلك فى وعظه درباً غير مطروق وورد ماء مهجوراً وإنتجع كلا غير مرعى.


تكررت لقاءات الشيخ بالناس فى البرنامج التلفزيونى المذكور على فترات متباعدة حول بعض القضايا التى يسأل عنها فيجيب إلى أن إستقر أمره على هذا اللقاء الإسبوعى تفسير القرآن العظيم.


وفى هذا اللقاء ويوماً إثر يوم إتضح منهج الشيخ وتحددت ملامحه ويهمنى فى هذا المقام الكشف عن هذا المنهج وإقامة حدوده ومعالمه وتلمس أسبابه وبواعثه فإن الشيخ عندى يمثل نموذجاً ينبغى أن نجلوه للناس بعد أن ندل على جذوره وأصوله وإن فى ذلك كله بعثاً لتاريخ عزيز غاب عنه أو أريد له أن يغيب.


وإذا كان لكل عالم أو مفكر مفتاح فإن مفتاح شخصية هذا الشيخ هو " اللغة " واللغة هى الباب الأول فى ثقافات الأمم وإهمالها أو التفريط فيها أو السخرية منها هدم لتاريخ الأمم ومحو لها من الوجود.


العناية باللغة


وعناية الشيخ باللغة تتجلى فى مستوياتها الأربعة: أصواتاً وصرفاً ونحواً ودلالة. وفى طريق هذه المستويات الأربعة صال الشيخ وجال ومما يحسب فى موازينه ويسجل له: هذه الجسارة والجرأة فى معالجة تلك القضايا وجمهوره الأعظم من عامة الناس ولكن الشيخ يرى أن هذا ضرورى لتفسير كلام الله والكشف عن مراده وقد إستطاع الشيخ على هذا المدى الطويل أن يأخذ العامة وأوساط الناس إلى قضايا التذوق والبلاغة واللغة والأدب وخاض بهم لجج هذه العلوم وإستكثر من شواهد الشعر والأمثال وكلام الفصحاء وأحب أن أسجل ها هنا أن عوام الناس يستجيبون لذلك ويستمتعون به وإن كانوا لا يستطيعون التعبيرعنه فيجب أن نحسن الظن بهم فان لبعضهم ذوقاً قد يجفوعنه بعض الخاصة.


ومن غريب ما كنت ألاحظ فى أحيائنا الشعبية أن خطيب الجمعة كان إذا إندفع فى الكلام الخفيف العامى على المنبر ضاق به الناس وخرجوا ساخطين يقولون " إيه الهيافة دى؟  ياعم سيبك منه ده بيتكلم زينا!


إن الشيخ الشعراوى قد نجح فيما عجز عنه غيره فإننا على كثرة ما كتبنا عن الإعجاز القرآنى وعبقرية اللغة العربية لم نستطع أن ننزل بهذه القضايا إلى عامة الناس وظلت هذه القضايا دائرة بيننا يدخل اللاحق على السابق وكأننا نحدث بعضنا بعضاً.


وبدءة ذى بدء فإن الشيخ يصرح بضرورة إستقبال القرآن بملكة اللغة ليخرج المستشرقين وأمثالهم من أعاجم العرب الذين كتبوا فى الدراسات القرآنية وهم بمعزل عن فقه اللغة ثم يقول: إن هؤلاء أخذوا اللغة صناعة ولم يأخذوها ملكة.


وما من آية من كلام ربنا عزَّ وجلَّ يعرض لها الشيخ بتفسير وبيان إلا وأفاض فى قضايا اللغة بادئاً بتأصيل الكلمة صرفاً وإشتقاقاً على المنهج الذى أصَّله ابن فارس فى " مقاييس اللغة " وابن جنى فى " الخصائص " بالقدر الذى تطيقه العامة وتدركه الخاصة وقد نجح فى ذلك نجاحاً ظاهراً وعلى سبيل المثال فحين عرض لتفسير قول الله تعالى:  (ولا تقف ما ليس لك به علم) ذكر إن القفو اتباع شىء لشئ وقال إن من ذلك "القفا" هذا المعروف لأنه يقفو الوجه أى يتبَّعه وقافية البيت فى الشعر لأنها تقفو سائر الكلام أى تتبعه.

ويقف الشيخ كثيراً عند معانى الحروف وأثرها فى الدلالة ووضع بعضها مكان بعض كقوله تعالى: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة)...(التوبة 38)... فإن معنى "من" هاهنا معنى "بدل" وقوله تعالى: (بأن ربك أوحى لها)...(الزلزلة).... فتعدى الفعل هنا باللام مع إنه جاء معدى بالى فى آيات كثيرة كقوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل)...(النحل 38).... وقوله: (وأوحينا إلى أم موسى أن إرضيعه)....(القصص 7)... وقوله تعالى: (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم)..(الرعد 6)... ولم يقل "مع ظلمهم" وعلم معانى الحروف علم ضخم من علوم اللغة والمؤلفات فيه كثيرة والعناية به واجبة والشيخ دائم الحديث فيه. 


وللشيخ احتفال زائد بالفروق اللغوية فى الأبنية كعالم وعليم وشاكر وشكور وهو الفرق بين إسم الفاعل وأمثلة المبالغة المأخوذة منه وكعدل وعادل وهدى وهاد وهو الفرق بين الوصف بالمصدر والوصف باسم الفاعل ثم الفروق فيما يبدو مترادفاً من اللغة كالفرق بين الشك والريب والحزن والبث والرجاء والتمنى والحسد والغبطة وهو باب معروف من أبواب اللغة وممن ألَّف فيه أبوهلال العسكرى ويفرق الشيخ كذلك فى جموع التكسير بين العباد والعبيد.

وإذا كنت لا أستطيع أن ألم ها هنا بكل ما قيدته من قضايا اللغة التى يعنى بها الشيخ ويدير الكلام حولها فإنى لا أستطيع أن أغفل جانباً مهماً جداً من جوانب اللغة يتعهده الشيخ دائماً ويحرص عليه وهو " غريب اللغة " وهو مصطلح يراد الكلمات الغامضة القليلة الإستهلاك فى كلام الناس وتأتى غالباً فى الكلام العالى الفصيح وليست الغرابة فى اللغة كالغرباة فى البلاغة لأن هذا يراد به الكلام الحوشى المستكره أصواتاً ودلالة أما الغرابة فى اللغة فتقال فى مقابل الوضوح وشاهد هذا ما ذكره الخليل ابن أحمد فى مقدمة كتابه العين قال:  "بدأنا فى مؤلفنا هذا بالعين وهو أقصى الحروف ونضم إليه مع بعده حتى نستوعب كلام العرب الواضح والغريب" كتاب العين 1/60 طبعة العراق.

وقد دارت على هذا العلم مؤلفات كثيرة وبخاصة ما يسمى غريب القرآن وغريب الحديث وهذا العلم – علم الغريب – مما أهمله الناس فى زماننا هذا إهمالاً يوشك أن يكون تاماً فقد هجره الناس هجراً طويلاً بل أن بعضهم إذا صادف شيئاً منه فى نص قديم غيره إلى مرادف له مما يسهل على الناس كالذى رأيته يوماً عند أحدهم من تغيير وكان عُمر بن الخطاب رجلاً طوالاً بضم الطاء أى بالغ الطول غيره إلى رجلاً طويلاً جداً وأشد من هذا أن بعضهم أنكر إستعمال كلمة "لغوب" لعدم جريانها على ألسنة الناس هذه الأيام مع مجيئها فى القرآن العزيز! قال تعالى: (وما مسنَّا من لغوب)..(سورة ق 38). 

وهكذا يُنكِر كثير من الكُتَّاب الآن ألفاظاً وتراكيب كثيرة ضاربة فى الفصاحة بعروقها ولست تجد هذه الألفاظ والتراكيب فى النصوص الأدبية فقط من شعر ونثر بل إنك واجدها فى علم الأنساب والتاريخ والجغرافيا وكتب الفلك والطب والفلاحة والزراعة وسائر ما كتب الأوائل.

وينادى بعضهم الآن بهجر هذه اللغة القديمة وتبنى لغة واقعية كالتى تُقرأ فى الصحافة ووسائل الإعلام حتى لا يشعر التلميذ بفجوة بين الذى يقرأه فى النصوص القديمة وبين ما يسمعه فى واقع الحياة من تلك اللغة التى تلبى إحتياجاته. وحِجة هؤلاء أن لكل عصر لغته وأعرافه وهى حجة داحضة هذه (تنبيه: حجة داحضة هذه من التعبيرات القرآنية فلا بأس فى إستعمالها إن شاء الله) ومردود عليها من أكثر من وجه لكنى أسأل: إذا نحن ربينا أبناءنا على هذا المنهج المقترح وسلخ التلميذ من عمره ما سلخ فى المراحل: الإبتدائية والإعدادية والثانوية ثم دخل كلية جامعية تعنى باللغة والأدب مثل دار العلوم والآداب فماذا هو صانع مع منهج هذه الكليات التى تدور حول قضايا اللغة قديماً وحديثاً؟ نعم ماذا يصنع ذلك التلميذ مع مناهج هذه الكليات وقد دخلها مفرغاً خالى الوفاض؟  إلا إذا غيَّرنا مناهج اللغة أيضاً فى هذه الكليات حتى نضيق الثغرة بين اللغة العربية أيضاً فى هذه الكليات حتى نضيق الثغرة بين اللغة العربية كما تقدمها النصوص وبين اللغة العربية فى واقع الحياة كما جاء فى أخبار الأدب – العدد التاسع 12 سبتمبر 1993 م  ص 26.

إن للغة جانباً تاريخياً يجب الحرص عليه ومعرفته ثم إن اللغة ممتدة مع أصحابها لا تموت ولا تفنى وليست اللغة للتفاهم وقضاء المصالح فقط وإلا لكان القدر اللازم لنا منها محدوداً جداً ولكان الذى يَعرِف خُمسمائة كلمة إنجليزية تُلبى احتياجاته فى متاجر لندن وشوارعها عالماً باللغة الإنجليزية.

ولقد كان غريب اللغة الذى هو الفصيح الرفيع مألوفاً للناس إلى عهد قريب فى خطبة الجمعة وفى الكتاب المدرسى والكتاب الجامعى ثم على ألسنة المحاضرين وأقلام الكاتبين ثم هجره الناس هجراً غير جميل ثم جاء الشيخ الشعراوى فردَّنا إليه رداً جميلاً وكان أول عهد الناس معه حين عرض لحديث هند بن أبى هالة فى وصف خلق رسول الله وفى هذا الحديث غريب كثير كشفه الشيخ غاية الكشف وأبان عنه غاية الإبانة وبعض مايعرفه الشيخ من غريب الكلام مما يدق ويغمض على كثير من الناس بل إن بعض المثقفين يصحفه لخفاء معناه عنده: سمعت الشيخ ذات يوم فى حلقة من حلقات يوم الجمعة يُنشِد قول الشاعر الأموى عروة بن أذينة:

لقد علمت وما الأشراف من خلقى   

أنا الذى هو رزقى سوف يأتينى

أسعى له فيعنينى تطلبه 

ولو قعدت آتانى لا يعنينى

هكذا أنشد الشيخ وما الأشراف بالشين المعجمة وهو صواب إنشاده ومعناه: أنى لا أستشرف ولا أتطلع إلى ما فاتنى من أمور الدنيا ومكاسبها ولا تتبعها نفسى وبعضهم لا يعرف هذا المعنى الغريب فينشده: وما الإسراف بالسين المهملة مصحفاً ومزالاً عن جهته وكان الذى زيَّن له ذلك وجود الكلمة فى سياق الرزق.

وقد إمتدت عناية الشيخ أيضاً إلى النحو وهو علم التراكيب وشأنه خطير ويقول أبو العباس ثعلب: لا يصح الشعر ولا الغريب إلا بالنحو النحو ميزان هذا كله.... والشيخ لا يكاد يخلى حلقة من حلقاته من شىء من دقائق هذا العلم الجليل ففى قوله تعالى: (وجعلوا كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا)..(التوبة 40)... حيث جاءت كلمة الأولى بالنصب وكلمة الثانية بالرفع يقول: لماذا لم تعطف الثانية على الأولى فتكون منصوبة مثلها؟ ثم يجيب: لأن كلمة الله أصلاً عالية ثبوتاً ولزوماً فهى لا تجعل وهكذا يربط الشيخ بين الأعراب والمعنى فى هذه الآية الكريمة وفى غيرها من الآيات.

ومن وراء اللغة وقضاياها يتقدم الشيخ إلى الناس بثقافة العالم الأزهرى المتمكن من علوم العربية كلها لأن العربية عند أهل العلم كتاب واحد فيُلِم الشيخ كثيراً بقضايا البلاغة من معانٍ وبيان وبديع فحين فسر قوله تعالى (ومكروا ومكر الله)...(آل عمران 54)... ذكر أن هذا من باب المشاكلة وإستشهد له بقوله عز وجل (وجزاء سيئة سيئة مِثلها)...(الشورى 40)... وبقول أبى الرقعمق:

قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخة     قلت إطبخوا لى جبة وقميصاً 


ومن جرأة الشيخ بل قل: إنه من وفائه لعلومنا وتاريخنا وأيضاً من بِرَه بالعامة والإرتقاء بأذواقهم وتوسيع مداركهم ذِكره لبعض مصطلحات العلوم الدقيقة كأصول الدين أو عِلم الكلام كالفرق بين صفات الذات وصفات الأفعال وصفات الربوبية وصفات الألوهية وكأصول الفقه من مَثل قولهم: لمح الأصل – لا يعتد بالعارض- دلالة الاقتضاء واللزوم وهكذا كان حال علمائنا وواعظينا فى كل الأزمان كانوا يرون أن للعامة حقاً ونصيباً مفروضاً فى هذه المعارف إن لم يكن من طريق العلم والإحاطة فمِن باب الأُنس بها والارتياح إليها

وتذكُر كُتب التراجم والرجال إن حلقات الدرس والإملاء كانت تجمع أشتاتاً من الناس من العلماء وممن دونهم بل إن الآباء كان يُحضرون أطفالهم مجالس الإملاء ويثبتون أسماءهم فى طبقات السماع بل كانت حلقات الدرس بالجامع الأزهر إلى عهد ليس ببعيد تَجمع عوام الناس يجلسون إلى كبار العلماء كَتفاً إلى كَتف مع طلبة العلم من أهل الاختصاص.


الشيخ وعلوم القرآن 

علوم القرآن:  مصطلح يراد به الأبحاث المتعلقة بالكتاب العزيز من حيث معرفة أسباب النزول وعِلم القراءات والرسم والمكى والمدنى والناسخ والمنسوخ والمُحكم والمتشابه والغريب والإعراب إلى غير ذلك وهذه القضايا مبثوثة فى كتب التفسير على منازلها ومناسباتها فى سور القرآن الكريم لكن العلماء أفردوها بتألف خاصة من أشهرها البرهان فى علوم القرآن للزركشى، والإتقان فى علوم القرآن للسيوطى، ويطوف الشيخ كثيراً بهذه العلوم أما أبرز علم من علوم القرآن يقف عنده الشيخ ويطيل الوقوف ولا يزال يعتاده يوماً بعد يوم فهو "علم الأشباه والنظائر" أو "علم الوجوه والنظائر" وهو علم يتناول دوران الكلمة أو التركيب فى القرآن على أوجه مختلفة من حيث إختلاف المعنى الدلالى للكلمة أو اختلاف التركيب بالتقديم والتأخير وقد أفرد هذا العلم بالتأليف كثير من العلماء منهم مقاتل بن سليمان والدامغانى وإبن الجوزى ومن أمثلته ما يذكره الشيخ حول قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم)..(الانعام 151).. وقوله تعالى: (ولا تقتولا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم)..(الاسراء 31)... وقوله تعالى: (وما اُهل به لغير الله)..(البقرة 173).. وقوله تعالى: (وما اُهل لغير الله به)...(المائدة 3)... 

ومن القضايا القرآنية التى يحتشد لها الشيخ إحتشاداً: قضية دفع التعارض والتناقض بين آى الذكر الحكيم كقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)... (الانعام 164)... مع قوله تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة إلى يوم القيامة ومِن أوزار الذين يضلونهم بغير علم)...(سورة النحل 15)... وكقوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمِن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك)...(النساء 79).. بإزاء قوله: (قُل كُل من عند الله)...(النساء 78).


أما أسرار النظم القرآنى وإيثار أسلوب على أسلوب فهو مما يفيض فيه الشيخ كثيراً وهو يرجع فيه إلى محصول وافر ومحفوظ واسع من ثقافته الأزهرية الغنية لا إلى ما يقوله بعض مستمعى الشيخ ومريديه من إنه يلهم به إلهاما ويحدث به تحديثاً وكأنه غير مسبوق أو مشارك ونحن لا ننكر أن الله يفتح على بعض عباده فتحاً فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء لكننا نقرر أن كثيراً مما يذكره الشيخ معروف ومذكور ومسطور فى الكتب وفضل الشيخ أن يذكره إذ نسيه الناس ويرعاه إذا أهمله الناس فهو يحيى ما درس وينفخ فيما خمد.

ولعل القارئ الكريم يسمح لى بالتذكير بصورة مما سبق به علماؤنا مما يذكره الشيخ وذلك ما ذكره الإمام محمد ابن أبى بكر بن عبد القادر الرازى المُتوفَى سنة 660 هجرياً وهو صاحب مُختار الصحَّاح قال فى كتابه أنموذج جليل فى بيان أسئلة وأجوبة من غرائب آى التنزيل فى توجيه الآية 32 من سورة الإسراء: فإذا قيل كيف قال تعالى (ولا تقربوا الزنا) ولم يقل "ولا تزنوا"؟  قلنا لو قال ولا تزنوا كان نهياً عن الزنا لا عن مقدماته كاللمس والمعانقة والقبلة ونحو ذلك ولما قال (ولا تقربوا) كان نهياً عنه وعن مقدماته لأن فعل المقدمات قربان للزنا.


الشيخ وإنشاد الشعر 

الشيخ الشعراوى شاعر طويل النفس شجى النغم وإن كان هو لا يذكر هذا لكن زملاءه وعارفيه يذكرونه ويروون أنه أنشد قصيدة طويلة أمام الدكتور طه حسين رحمة الله يوم أن قَدم إلى جدة فى الخمسينات الميلادية فى إجتماع الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية ويذكرون أن الدكتور طه حسين طرب كثيراً لهذه القصيدة

والشيخ – كما هو معروف – متخرج فى كلية اللغة العربية من كليات الأزهر الشريف وكانت مناهج الدراسة فيها فى ذلك الزمان مما يغذى الملكات وينمى المواهب مع تلك الصفوة من العلماء المدرسين المشايخ إبراهيم حمروش ومحمد على النجار ومحمد الطنطاوى ومن إليهم.

والشعر يَخِف على لسان الشاعر اللغوى فيحفظه ويرويه ومحفوظ الشيخ من الشعر عال وغزير جداً ويأتى فى مقدمة محفوظة ذلك الشعر المعروف بشعر الشواهد كشواهد اللغة والنحو والبلاغة والعروض وشعر الشواهد هذا ينثال على لسان الشيخ إنثيالاً فما ذكر معنى لغوياً أو توجيهياً نحوياً أو تفسيراً بلاغياً إلا وإستشهد له بالبيت والبيتين وإلى جانب شعر الشواهد هذا يتدفق الشيخ بعيون الشعر العربى من كل العصور من الجاهلى إلى أحمد شوقى ومحمد إقبال وله بشعر شوقى عناية خاصة وكان يستظهره إستظهاراً ولا يقف إنشاد الشيخ عند الشعراء المكثرين المشاهير فقط بل يشمل أيضاً الشعراء المُقلين المغمورين وقد سبق إستشهاده بشعر عروة بن أذينة أما ذلك الشعر الذى يعرف بشعر المذاكرة والمجالسة وهو يتمثل به فى المواقف وأحوال الناس وتقلبات الزمان فعند الشيخ منه الكثير من مختلف العصور


 وأذكر أن الشيخ فى بعض دروسه ولقاءاته وقف عندما يلقاه الناس من العداوات وبغى بعضهم على بعض وعلى عادة الشيخ فى إستخراج الحَسن من السئ وإستنباط الخير من الشر قال: إن عداوة الناس قد تأتى بالخير وإندفع فى كلام طويل وهنا قفز إلى ذهنى بَيتان فى صميم ذلك الكلام لأبى حيَّان النَحوى وإذا بالشيخ يُنشدهما وذلك قول أبى حيَّان:

عداتى لهم فضل على ومنة         فلا أذهب الرحمن عنى الأعاديا 

هم بحثوا عن زلتى فإجتنبتها       وهم نافسونى فإكتسبت المعاليا 

فقلت سبحان الله!   أى قراءة قرأ هذا الشيخ؟ 


وحفظ الشعر وإستدعاؤه ضرورى فى تفسير كلام الله عز وجل يقول الإمام مجد الدين بن أبى الفرج الروذراورى المُتوفَى سنة 667 هجرياً: ومن ظنَّ أن القرآن يفهم كما ينبغى من غير تحقيق كلام العرب وتتبع أشعارهم وتدبرها كما يجب فهو مُخطئ.

كان ابن العباس رضى الله عنه حبر هذه الأمة ومُفتيها ومُفسِر القرآن وقد قال تلميذه عكرمة:  إنه كان إذا سئل عن مشكل فى القرآن يُفسِره ويَستدِل عليه ببيت من شعر العرب ثم يقول: الشعر ديوان العرب وانظر العمدة فى محاسن الشعر وآدابه ونقده لابن رشيق 1/30.


وبعد: فهذا الشيخ جليل جاء على حين فترة من العلماء الحفاظ الضابطين وهو يمثل صورة زاهية المؤسس على علوم العربية وقوانينها من حفظ المتون وإتقان التعريفات والصبر على المطولاَّت والنظر فى الحواشى والتعليقات والتقريرات فإذا ثبت هذا وهو ثابت إن شاء الله فلم ينصف الشيخ من يقول عنه: أنه ملهم لا غير وإن ما يوقله إنما هو من باب العلم اللدنى فهذه ( دروشة ) فى تقييم الرجال والحكم عليهم وإنما الصواب أن يقال: إنه رجل مثقف مؤسس واسع الإطلاع غزير الرواية سريع اللمح ذكى اللسان.

وكذلك لم يَنصِف الشيخ من يقول عنه: إنه وَهب حسن الرعض والقدرة على توصيل المعلومات مع خِفة ظِل واضحة فهذا من الدَسَّ الخَفى فإذا كانت البضاعة مُزجاة فماذا يجدى حُسن عَرضها؟ كما قيل فى أمثالنا العامية: إيش تعمل الماشطة فى الوش العكر؟ وللناس فى إصطناع وسائل الذم والتنقص دَبيب وخداع وهو ما قاله سادتنا البلاغيون: تأكيد الذمَّ بما يُشبه المدح.

وإن تعجب فعجب إن بعض مُثقفينا وأدباءنا يُعرض عن الإستماع إلى الشيخ لإجتماع العامة عليه وإنبهارهم به وهذا خَلف من الرأى وفساد فى الحكم فما ينبغى أن يكون إقبال العامة على الشيخ وإعجابهم به صارفاً للخاصة عن الأخذ عنه والإفادة منه والحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنَّى وجدها وقد كانت العامة تصرخ ويغشى عليها فى مجلس وعظ الإمام أبى الفرج بن الجوزى المُتوفَى سنة 597 هجرياً ولم يَصرِف هذا الخاصة عن الإفادة منه والأخذ عنه بل إن كُتبه وتصانيفه تُعَد من الأصول فى الفكر العربى الإسلامى مِثل زاد المَسير وتلقيح فهوم أهل الأثر وتلبيس إبليس والمنتظم وغيرها.


يقول الرحالة ابن جُبير واصفاً مجلساً من مجالس ابن الجوزى وقد حضره ثم إنه بعد أن فرغ من خِطبته برقائق من الوعظ وآيات بينات من الذكر طارت لها القلوب إشتياقاً وذابت بها الأنفس إحتراقاً إلى أن علا الضجيج وتردد بشهقاته النشيج وأعلن التائبون بالصياح وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح كل يلقى ناصيته بيده فيجزها ويمسح على رأسه داعياً له ومنهم من يغشى عليه فيرفع فى الأذرع إليه فشاهدنا هولاً يملأ النفوس إنابة وندامة ويذكرها هول يوم القيامة. 

رحلة ابن جبير ص 197 , 198 أرأيت أيها القارئ الكريم؟ هذا شبيه ونظير للشيخ الشعراوى منذ ما يزيد على ثُمانمائة عام فلا تَعجبن إذا رأيت مستمعى الشيخ على شاشة التليفزيون وهم بين فاغر فمه دهشة وبين ماد بصره عجباً مخلوطاً ذلك كله بصيحات التكبير والتهليل وما أكثر الأشباه والنظائر 

ولم يبقى إلا أن أدعو للشيخ بطول العمر وتمام السلامة والعافية ثم أهمس فى أذنه ولم يُقدِر لى أن أراه أو أجالسه ببعض الملاحظات:

أولا: أرجو من الشيخ الجليل أن يترفق فى رد آراء العلماء السابقين حين يرى رأيا يخالف رأيهم ومن ذلك إنكاره عليهم أن فى القرآن حروفاً زائدة مثل " ما " فى قوله تباركت أسماؤه (فبما رحمة من الله لنت لهم)..(آل عمران 159)... فالزيادة ها هنا زيادة نحوية والحرف الزائد عند النُحاة هو الذى يكون دخوله وخروجه سواء أو هو الذى لا يخل حذفُه بالمعنى وقد جاء منه أمثلة من القرآن العزيز منها قوله تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم).. (النساء 155)... وجاء كذلك فى كلام العرب ومنه قولهم: غضبت من غير ما جرم وقولهم: سمعت كلاماً ما وجئت لأمر ما ومولانا الشيخ يعلم هذا جيداً فتسمية ذلك زيادة لا غبار عليه بل إن إمام المفسرين أبا جعفر الطبرى يُسمى ذلك أحياناً " لغوا " فهل يعتقد مؤمن أن فى القرآن لغوا ولكنها الصناعة النحوية فيجب أن ينص الشيخ على أن هذا من إجتهاداته الخاصة حتى لا يتجرأ الناس على أهل العلم.

ثانيا: نعترف أن للشيخ معرفة جيدة بالسيرة النبوية وأحوال الرجال وتراجمهم وضبط أسمائهم وكُناهم وألقابهم ولكنه يندَّ عنه أحيانا أشياء لعدم المراجعة ومن ذلك أنه نطق مرة إسم " حبان بن العرفة " أحد المشركين الذين قاتلوا المسلمين فى غزواتهم نطقه " العرفة " بفتح الراء بعدها فاء والصواب العرقة بفتح العين وكسر الراء بعدها قاف وكذلك ذكر وصية بعضهم لإبنه حين أراد الزواج لا تتخذها حنانة ولا أنانة ولا منانة ولاعشبة الدار ولا كية القفا نطقها الشيخ كبة بضم الكاف بعدها باء موحدة والصواب كية بفتح الكاف بعدها ياء منقوطة بإثنتين من تحتها قال إبن سيدة وأما كية القفا فهى التى يأتى زوجها أو إبنها القوم فإذا ما إنصرف من عندهم قال رجل من خبثاء القوم لأصحابه: قد والله كان بينى وبين زوجة هذا المولى أو أمه أمر فتلك كية القفا من أجل إنه يقال فى ظهر زوجها أو إبنها القبيح حين يولى المخصص 4/23 - 24 


ثالثا: الشيخ حفظه الله مسموع متبوع فنرجوه أن يتحرى صفات الحروف ومخارجها وبخاصة الحروف الثلاثة :  الثاء والذال والظاء فى القرآن الكريم... وهذه الملاحظات وغيرها مما لا يكاد يسلم منها بَشرإنما هى فى حق الشيخ الجليل: تعويذة من عين الكمال فإن الكمال لله وحده المعصوم من عصمة الله    


نقلا عن مجلة المصور