الأحد 23 يونيو 2024

فقدى لبصرى زادنى إصرارا للقيام بكل ما يفعله "المفتحين" بإصرار

فن3-11-2020 | 17:52

حكايتى مملة،  لن تجدى التراجيديا التى تبحثين عنها، هى حكاية عادية لشخص كافح وجاهد من أجل تحقيق هدفه، فالمعادلة بسيطة جد واجتهاد تساوى نجاحا وتفوقا، يعنى لا معجزات ولاكرامات، والكفيف مش لازم يكون مقرئا أو شيخا، هكذا بدأ الكاتب الصحفى الدكتور أحمد يونس حكايته مع فقد بصره.

 

الطفل أحمد فقد بصره فى 15 من عمره، لتبدأ حياته الجديدة أو ميلاده الجديد، فيسافر وحيداً لأسبانيا لينهى تعليمه الثانوى والجامعى، ويحصل على درجة الماجستيروالدكتوراة، ويلف القارة الأوربية بأكملها، قبل أن يعود لمصر ليحمل على عاتقه ليس الدفاع، ولكن الحصول على حقوقه كأى مواطن.

 

التعامل مع ذوى الإعاقات سواء فاقدى البصر أو ذوى الاحتياجات الخاصة على أنهم مواطنون كاملو الأهليه لهم كافة الحقوق الدستورية هى قضية الدكتور يونس منذ عودته من أسبانيا فى الثمانينيات وحتى الآن، ولهذا يرفض أن يكون للنظر لقضية متحدى الإعاقة كنظرة "ناس طيبين يساعدون ناس غلابة" وإنما هم مواطنون لهم كافة الحقوق الدستورية.

 

علاقة يونس مع رؤساء الجمهورية ليس علاقة حب وغرام على حد تعبيره، فهم ليسوا فى مكانة زوجته –رحمها الله-،وإنما علاقة اتفاق واختلاف، يتفق على نقاط وسياسات وقرارات يتخذونها،ويختلف معهم على نقاط آخرى، وهو الأساس الذى يحكم علاقاته مع الرئيس السيسى فهو لا ينكر لمساته الطيبة والإنسانية، لكن ذلك يجب أن يتبع بخطوات قوية جادة فى تصحيح أوضاع ذوى الإعاقات داخل مصر.

 

حوار:رانيا سالم

 

· أهم ما يميز نشأة الدكتور أحمد يونس؟

 

أنا ابن لأسرة تؤمن بقيمة وأهمية العلم، فأبى وأمى أساتذة جامعة، وبيتنا نصفه مكتبة وهى مسألة رائعة،  فأنا ابن محظوظ لأن أولد لأبى الدكتور عبد الحميد يونس رائد الفنون الشعبية، وأن أسير على نفس دربه ليس فقط فى مسلك العلم، ولكن فى فقد البصر،"العمى ولا مؤخذة".

 

نشأت على أربعة عناصر أساسية "الأدب، الطاعة، النظافة، المذاكرة"، فكنت طفلاً شديد الأدب، وأتذكر أننى كنت أعاقب فى حالة تهاونى فى الحفاظ على النقاط الأربع، والدى جعل منى قارئا عاشقا للكتب، أما والدتى فكانت ترغب فى أن أكون رساما، ولهذا كانت تصطحبنى لحديقة الحيوان حاملة الحامل الخشبى لكى أقوم بالرسم، وفى المنزل كانت دائما ما تحضر لوحات لكبار الرسامين من أجل تعلم الرسم، لكن كافة خططهم انهارت بعد فقد بصرى.

 

والدي هما بالتأكيد أجمل ما فى الدنيا، فهم نهران عاذبان صبا فى، ولورغبت والدين لن يكونوا مثلما أعطانى الله والدى ووالدتى، ولهذا أهديت لهما  كتابى "اللى بعد ما رحلوا لم أجد أحد اكتبلهم"

 

· ولدت بصيراً،كيف فقدت بصرك؟

 

"يلعن أبو كرة القدم اللى جيبانا، وجبتنى أنا وأبويا لورا" فأبى فقد بصره بسبب انفصال فى الشبكية نتيجة حادثة أثناء لعبه لكرة القدم، ويشاء الأقدار أن أفقد بصرى لنفس السبب، فهو لا يرجع لمرض وراثى كما يتصور البعض فأخواتى وأبنائى –الحمد لله- سلما أعفاء، لكن شرطاً ألا يمارسوا هذه اللعبة اللعينة التى جلبت لنا الحظ الوفير، صحيح أنها حرمتنا نعمة البصر، لكنا منحتنا ما هو أفضل منها البصيرة.

 

 

إصابتى بانفصال الشبكية جعلتنى أفقد بصرى تدريجياً طوال 7 سنوات، كل يوم يقل وضوح رؤيتى لوجه والدتى تدريجيا، حتى استيقظت وأنا فى الخامسة عشرة من عمرى غير قادرعلى رؤية وجهها الصبوح، الذى انهارت وقامت بحرق كافة لوحاتى، وخاطبت مع الله بشكل غير لائق ملقية اللوم والعتاب عليه أن يصيب ولدها بفقد البصر، وكان بكاؤها يقطع القلب، وكنت وقتها بكل المحاولات الفاشلة التى مارسها الأطباء على نائما بين كيسين من الرمال بعد عملية هى بالتأكيد فاشلة لمحاولة علاج انفصال الشبكية، ورغم أنها تمالكت نفسها، وعادت لمساندتى مرة أخرى، لكن ليس هناك ماهو أكثرحزنا من إدعاء أمى الفرح رغم حزنها الشديد.

 

عندما تأكدت أننى لن استرجع بصرى يوما قلت "يا عمايا العزيز، أنت وصلت آخرك، بس أن لسه هكبر" وقتها قررت ألا يقف فقد بصرى عائقا أمامى فى فعل أى شىء أرغب فى فعله، ففعلت كل ما يفقده الكفيف ويفعله المبصرون بإصرار، وكأنى شخص بصير"مفتح" سافرت، عملت، حبيت ، واتحبيت، حتى أن زملائى يقولون لى يا"مبخت"، ولكنى أرد عليهم دى مهارات وقدرات وليس بخت وحظ يا"فشلة" .

 

· لكن المسألة ليست بالسهولة التى تروى بها الآن؟

 

بالتأكيد، فالمذاكرة من غير بصر أمر بالتأكيد صعب جداً، وفى مصر أمر بالغ الصعوبة، فالحكومة والمجتمع والكل ينظر إليك سواء فاقد البصر أو كنت صاحب إعاقة بأنك خارج نطاق الحياة.

 

فمع سن الحادية عشرة، نصح الأطباء –وكانت نصيحة هباب- أن استمرارى فى مدارس المبصرين أمر مستحيل "حاجة كده زى الأفلام العربى"، وأن عليهم نقلى لمدرسة داخلية، وكانت مدرسة اسما فهمى وده كان بداية طريقى للفشل، حاجة كده زى فريد شوقى فى "جعلونى مجرماً".

 

 فالمدرسة محاطة بأسوار عالية، والتلاميذ بها لديهم قدر من العدوانية غير مبرر، وكنت وقتها شديد الأدب مثلما تعلمت فى منزل والدى لكن دوام الحال من المحال، وأصبحت بشخصيتين أحدهما أحمد شديد الأدب الذى اعتاد عليه فى منزل والده، والآخر أحمد الذى تعلم الهروب من المدرسة كل ليلة، والتجول مع أصدقاء السوء، الكفيف الذى يلقب الجميع بالشيخ كحال كافة المكفوفين فى بلدنا فهم أما مقرئون أومشايخ غير مسموح لهم بأكثر من ذلك، لكن قررت التمرد.

 

· تمردت؟

 

نعم، قررت إنهاء طريقى الإجرامى وقرأت الفاتحة على أحمد المجرم، وقررت السفر للخارج، ومن أجل إقناع والدى أضربت عن الطعام، فلم يجد مفراً من تنفيذى مطلبى، وسافرت لأسبانيا وأنا فى الخامسة عشرة من عمرى ومعى 70 دولارا فقط.

 

· ولماذا أسبانيا بالتحديد، وفى سن 15؟

 

وقتها كان أغلب المصريين يسافرون إلى بريطانيا وفرنسا و ألمانيا، فقررت وقتها أن اختلف عن الآخرين وذهبت إلى أسبانيا، صحيح أنى كنت فى الخامسة عشرة ولكنى لم أكن طفلاً، فمكتبة والدى التى نهلت منها طوال ال15 عشرة الأولى من عمرى،وتجاربى فى المدرسة الداخلية ثقلتنى وأهلتنى إلى أن أغزو بلد الأسبان.

 

· البداية فى بلاد الفرنجة؟

 

مثل أى مصرى سافر لبلاد أوربا، لم أكن أجيد اللغة الأسبانية، وجلست مع أسرة أسبانية كان لديها طفل يدعا خوان ويدلع بخوانيتوا، وكنا سويا نتعلم اللغة هوصغير وأنا غريب، وكانت طريقة التعليم سهلة فأنا وهونسير فى شوارع مدريد وكنت أسأله ما هذا وما عكسه، وبهذه الطريقة أتقنت اللغة فى سنتين كحديث، أما كتابة، فذهبت للجامعة وحضرت محاضرات تعليم اللغة العربية للأسبان ومنها تعلمت الأسبانية، بعدها عملت كمدرس عربى، ضمن سلسلة من الأعمال التى تنقلت فيها ومنها تلفونيست، عامل مساج، حضورالمسرحيات مقابل التصفيق، وهو ما أتاح لى مشاهدة أغلب المسرحيات.

 

· وكيف ألتحقت بالجامعة؟

 

تقدمت لامتحان الثانوية العامة بتفوق96%، حتى أننى حصلت على منحة جامعية لمدة عام بجامعة مدريد، والتعليم الجامعى فى مدريد 4 سنوات إلى جانب سنة تحضيرية ما قبل التعليم الجامعى، وألتحقت بكلية العلوم الإنسانية، وكان يلزم على إنهاء 37 مادة فى عام واحد لأستفيد من المنحة المقدمة لى، وبالفعل وفقنى الله لإنهائهم جميعاً وبامتياز فى عام واحد ودخلت الامتحانات فى ثلاثة شهور يوليووسبتمبروفبراير من نفس العام، وبعدها حصلت على درجة الماجستير فى نظرية الانتحار، والدكتوراة فى علم نفس الجمال،ولم أكمل وقتها 26 عاماً، وعدت بعدها للقاهرة بشنطة ملابس واحدة و70 صندوقا من الكتب.

 

· كتب؟

 

كتب ناطقة، فجميع الكتب كانت مسجلة على شرائط،أشبه بشرائط الفيديو، وهى ساعدتنى كثيراً على اتمام دراستى سواء الجامعية،أو الماجستير والدكتوراة.

 

· بعد التنعم فى القارة الأوربية، كيف وجدت العودة للقاهرة؟

العودة للوطن أمر جميل،بكل مساوئه، لكنه فى النهاية وطنى، ويلزم العودة إليه، البداية كانت فى فهم تخصصى علم نفس الجمال، ألتحقت للعمل فى الأهرام، لتبدأ أول مشكلة عدم الموافقة على إلحاقى بنقابة الصحفيين، والسبب لأن هناك مادة بالقانون تمنع عدم مكتملى الحواس للالتحاق بالنقابات وهى المادة التى لاتزال موجودة بالقانون لكنها غيرمفعلة، لتبدأ معركتى وانضمامى لاتحاد الصحفيين العالمى، ليتم قبولى بأثر رجعى فى نقابة الصحفيين المصرية ويقدم لى الأستاذ جلال عيسى وكيل النقابة وقتها اعتذارا فى مقاله، بعدها يتم فصلى فى عهد السادات، ليعاد تعينى بجريدة الأخبار واستقررت فى الأخبار لكتابة عمود بين قوسين الذى لاأزال أقوم بتحريره حتى الآن، وترأست المنظمة المصرية لحقوق متحدى الإعاقة حتى قيام سوزان ثابت باحتقار العمل فى المجال لشخصها.

 

· هل هناك فرق بين حياة فاقد البصرفى أوربا وداخل مصر؟

 

بالتأكيد، فرق "المفتح" من "الأعمى"، فالثقافة الأوربية لديها إنسانية عالية فى التعامل مع ذوى الإعاقات باختلافهم، وأتذكر أننى كنت أواجه المساعدة من جميع زملائى فى الجامعة ومن المارة فى الشارع، دون كلمة تجرح مشاعرى أو تشعرنى بالشفقة، فهناك تدليل وقدسية لذوى الإعاقات، وتقدير واحترام،  فكافة المنشآت الحكومية والتعليمية والخاصة يراعى فيها أماكن للكراسى المتحركة وحتى فى المواصلات العامة والمسارح والمتاحف والاستاد، كما أن الكتب الناطقة متوفرة فى جميع المكاتب، وهناك توفير لكافة مطالب الحياة حتى وإن كانت رفاهية فهناك شطرنج لفاقدى البصر، ولعبة أوراق كوتشينه.

 

· وفى مصر؟

 

حتى لا أكون ظالما، فمصر الآن تمتلك دستورا من أفضل الدساتير التى تحدثت عن حقوق ذوى الإعاقات بكافة أنواعها، لكن يبقى التطبيق، فقضية متحدى الإعاقة ليست قضية ناس طيبين يساعدون غلابة، ولكنها قضية مواطنين كاملى الأهلية يمتلكون حقوقا دستورية كسائر المواطنين، وهو ما يجب أن يعيه الجميع حكومة ورؤساء ومسئولين ومجتمعا، فلا يعقل أن يقول أحد وزراء التعليم تعلم فى مجانية تعليم كان الفضل فيها الدكتور طه حسين الكفيف ،"لما نبقى نعلم المفتحين، نبقى نعلم العميان"، وكأن حق التعليم للمبصرين أساس، وإحسان لدى فاقدى البصر، أو صدقة عليهم.

 

ومن نفس المنطلق أرفض الدعوات التى تطالب بعمل وزارة لمتحدى الإعاقة،  فهى نوع آخر من التفرقة، يا جماعة متحدى الإعاقة بشر عاديين من حقهم التعامل مثل كافة المواطنين، لكن يراعى ظروفهم، فيجب توظيفهم بما يناسب حالتهم، فلا يعقل تعيين أحد متحدى الإعاقة الحركية كعامل لحمل الأشياء، فأنا لا أطالب بإنجاحهم أو الانحياز لهم، ولكن مجرد إعطائهم فرصة إذا نجحوا فهوخير للبلد ولنفسه، وإذا فشل فالمسؤلية تقع على عاتقه.

 

أما المجتمع والضمير العام فيخطأ فى حقهم ويظلمهم، فالمجتمع غير معد للاختلاف، فى كل شئ، فى الدين والسياسة، أهلى وزمالك، ومنها متحدو الإعاقة.

 

· وماذا عن متحدى الإعاقة نفسه؟

 

هناك البعض الذى يلجأ إلى الحل التسولى الفردى من أجل تحقيق حاجاته، وليس الحل الجماعى بفرض قوانين تحمى كافة حقوق متحدى الإعاقة، وهناك من يخاف من مواجهة المجتمع، ويعلن استسلامه لإعاقته وينسحب من المجتمع، وهنا كمن يستسلم للطريق الذى رسمه له المجتمع كأن يبقى قارئا أو شيخا فى حالة فاقدى البصر.

 

· كيف تعاملت مع ثقافة المجتمع المصرى تجاهك؟

 

الطريف أنا البعض عندما يرانى يمسك بيدى ثم يتحدث بصوت عالى، فأحدثه بصوت مماثل قائلاً،أنا أعمى صحيح، لكنى لست "أطرش يا بعيد"، لكنى أغلب صاحبى النجاحات من متحدى الإعاقة، لا يواجهون مثل هذه الثقافة، وأزعم أننى منهم، فمنذ عودتى حاصل على الدكتوراة من أسبانيا، وأغلب الجمع من المصريين يخرجونى من دائرة متحدى الإعاقة، مثل الملياردير الناجح  الذى يرحب به وينظر إليه كالرجل الأبيض.

 

· وعندما ألتقيت بعائلة زوجتك؟

 

أنا تزوجت مرتين، إحداهما من سويدية لأقل من سنة ووقتها لم أكمل 20 عاماً،والثانية من الدكتورة نادرة مصرية أستاذ فى معهد تخطيط وكنت فى 21 عاماً، ونادرة –رحمها الله- كانت ملكة جمال  مصر فى الثمانينيات، وأنجبت لى الماجدة بثينة و سيف بنى هلال

 

· كيف ترى تعامل الرئيس السيسى مع ملف متحدى الإعاقة؟

 

ليست لى علاقة مباشرة مع الرئيس السيسى، ولكن فى العموم علاقاتى مع رؤساء الجمهورية ليس علاقة حب وغرام ، فهم ليسوا فى مكانة زوجتى –رحمها الله-، وإنما علاقة اتفاق واختلاف، اتفق على نقاط وسياسات وقرارات يتخذونها،واختلف معهم على نقاط أخرى، وهو الأساس الذى يحكم علاقاتى مع الرئيس السيسى، فأنا لا أنكر لمساته الطيبة والإنسانية، لكن ذلك يجب أن يتبع بخطوات قوية جادة فى تصحيح أوضاع ذوى الإعاقات داخل مصر.

 نقلا عن مجلة المصور