الجمعة 21 يونيو 2024

"دراما" حارة اليهود انطباعات أولية .. وحقيقة تاريخ يهود مصر

فن3-11-2020 | 21:09

  يبدو واضحًا من سير أحداث مسلسل "حارة اليهود" على مدى الحلقات العشرالأولى، أن المؤلف لا يقصد أن يتناول حياة اليهود في مصر وأحوالهم سلبا، كما ينتظر المشاهد أو يتوقع من مثل هذه المسلسلات، ولكنه يريد أن يقول للمشاهدين أن يهود مصر شأن مسيحييها ومسلميها يعيشون في ألفة ومحبة ومودة بشكل عام منذ سادت الأديان الثلاثة أرض مصر وأصبح لكل منها أتباع، وأن ما يجمع بينهم على مستوى التقاليد والعادات الموروثة من قديم أكبر مما يفرقهم على مستوى الأديان، وأن يهودية اليهودي المصري شأن مسيحية المسيحي المصري ليست مبررا للكراهية من جانب المسلم المصري، وعلاقة الجيرة بين أهل الحارة ككل أو في البيت الواحد علاقة حاكمة للجميع من حيث المشاركة في الأفراح والأحزان، والمجاملة في المرض والمحن والكوارث.

    على أن هذه الصورة العامة لما يجمع بين المصريين على اختلاف أديانهم لا يمنع من وجود استثناءات للقاعدة فليست أخلاق المصريين جميعًا واحدة مثلما هو حال الشعوب في أنحاء الأرض مشرقها ومغربها، فهناك من يكره اليهود لمجرد اختلاف الدين وهذا لا يأتي إلا من متشدد ديني مسلما كان أو مسيحيا، أو بسبب المنافسة في سوق النشاط المالي والاقتصادي خاصة وأن اليهود بارعون في هذا النشاط من قديم. وهناك من اليهود من يكره المسلمين أو المسيحيين على أساس ديني أو سياسي وخاصة منذ نشأت الحركة الصهوينية بمقتضى مؤتمر بازل في سويسرا في أغسطس 1897. وهذا الموقف الأخلاقي في تناقضاته بين الحب والكراهية تجده سائدًا بين أهل مصر في القرى والحارات والمصالح والهيئات في عموم البلاد، وهذا هو معنى اتخاذ "حارة اليهود" عنوانًا للمسلسل بصرف النظر عن اختلاف نسبة سكانها دينيًا. وهذه الحارة عمليا وواقعيا هي الحارة المصرية، أو مصر بشكل عام. وعلى هذا فإننا أمام دراما اجتماعية تتناول علاقات المصريين بعضهم ببعض، بصرف النظر عن اختلاف أديانهم ومعتقداتهم.

 فما الذي جعل البعض يعتقد أو يظن أن المسلسل سياسي من الدرجة الأولى ويأخذ موقفًا من اليهود..؟

    ربما جاء هذا الانطباع بسبب أول مشهد في المسلسل حين ظهر للمشاهد  تاريخ عام 1948 مكتوبا على الشاشة، الأمر الذي جعل البعض يربط بين تحديد هذا التاريخ وقضية فلسطين وموقف إسرائيل من العرب. ومن هنا وجدنا بعض يهود مصر يؤيدون إسرائيل، والبعض لا يؤيد، والبعض الآخر لا تعنيه المسألة في قليل أو كثير.

    والواقع أن المسلسل حتى العشر حلقات الأولى يكاد يخلو من أخطاء تاريخية إلا من وجود ضباط بوليس إنجليز (شرطة) في قسم البوليس في الحارة أو الحي الذي تقع في نطاقه الحارة، يتولون رعاية الفتوات والبلطجية ويستخدمونهم كعيون يجمعون لهم الأخبار من هنا وهناك أو يشتغلون لحسابهم على حساب المصريين، ذلك أنه عند بداية أحداث المسلسل بعام 1948 (حرب فلسطين) كانت الحكومة المصرية قد عقدت مع سلطات الاحتلال الإنجليزي معاهدة أغسطس 1936 التي نظمت وجود قوات الجيش الإنجليزي في مصر في أربعة معسكرات: الإسماعيلية، وثكنات مصطفى باشا بالإسكندرية، والقلعة بالقاهرة، وثكنات قصر النيل ومكانها الآن مبنى الجامعة العربية وفندق هيلتون النيل، بعد أن كانوا ينتشرون في القرى والمراكز والشوارع والحارات (راجع مشاهد قصة نجيب محفوظ "بين القصرين" التي تدور أحداثها في مطلع القرن العشرين حتى قيام ثورة 1919 حيث كان العساكر الإنجليز ينتشرون في الحارات ويصطدمون مع الأهالي ..).

***

      ومن المعروف أن يهود مصر على مدى الزمن عاشوا في أحياء مدن مصر حسب وضعهم الطبقي شأن غيرهم من أهالي البلاد ولم تكن لهم أحياء خاصة بهم كما كان شائعا في أوربا. ورغم وجود حارة في مصر باسم "حارة اليهود" إلا أنها لم تكن تقتصر على اليهود فقط، وجاءت التسمية لأنهم كانوا أغلبية أهالي الحارة. وبصفة عامة كان الفقراء منهم يعيشون في "الحارة" الشعبية مع فقراء المسلمين والمسيحيين، ويعيش أغنياؤهم في الضواحي أو في قاهرة الخديو إسماعيل (وسط البلد) والزمالك ومصر الجديدة، وأما أبناء الطبقة الوسطى من الموظفين والفنيين والخبراء وأصحاب الدكاكين فكانوا يعيشون في أحياء الجمالية ومصر القديمة وعابدين والأزبكية والدرب الأحمر والعباسية والموسكي والوايلي وباب الشعرية. وفي الإسكندرية تركزوا في أحياء الجمرك والعطارين والمنشية ومحرم بك، وفي بعض المدن التجارية الكبيرة في الدلتا والصعيد.

    ويهود مصر أصلا من "القرائين" الذين يؤمنون بالتوراة فقط ويعرفون بين يهود العالم باسم "السفارديم" أي يهود الشرق. أما اليهود الذين وفدوا إلى مصر مهاجرين من بلاد أوربا مع موجات الاضطهاد التي لاحقتهم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فكانوا من "الربانيين" الذين يعتقدون في التلمود، ويعرفون باسم "الإشكنازيم" وينظرون إلى السفارديم (يهود الشرق) نظرة استعلائية، وهذه التفرقة واضحة في المسلسل. 

***

    وعند اندلاع حرب فلسطين (مايو 1948) وطبقًا للإحصاء السكاني في مصر عام 1947 كان عدد اليهود 65639 نسمة منهم خمسة آلاف يحملون الجنسية المصرية طبقا لقانون الجنسية عام 1929، وحوالي ثلاثين ألف يحملون جوازات سفر أجنبية وهم أولئك الذين رفضوا الحصول على الجنسية المصرية لكي يحتفظوا بامتيازاتهم، والباقي وهم حوالي ثلاثين ألفا لا جنسية لهم كانوا يقيمون في مصر بمقتضى المادة (22) من قانون الجنسية (رقم 19 لسنة 1929) التي تعطي "حق الإقامة دون التمتع بالحقوق السياسية لمن يعيش في مصر على أن يسعى لتوفيق أوضاعه"، وتلك قمة التسامح بين مختلف أصحاب الأديان من أهل مصر .

    غير أن أحداث حرب فلسطين كانت وراء شق الوحدة الوطنية بين المصريين بسبب التشدد الديني الذي أخذ يهيمن على المناخ الثقافي العام في البلاد. وفي هذا الخصوص قامت جماعة الإخوان المسلمين بتكوين فرقة من التنظيم الخاص للاشتراك في الحرب لتخليص فلسطين من يد اليهود حيث كان حسن البنا ينظر إلى قضية فلسطين على أنها قضية إسلامية وليست قضية عربية. وآنذاك خرج الإخوان في مظاهرات في شوارع القاهرة يهتفون: اليوم يوم الصهيونية وغدًا يوم النصرانية. فبدأ الشعور بالخوف يدخل للأقباط واليهود وخاصة الأغنياء منهم. وخلال المدة من 1948 إلى 1951 غادر مصر 38,3% فقط من اليهود نصفهم تقريبًا ذهب إلى إسرائيل والباقي إلى مختلف بلاد أوروبا، وهي الظروف نفسها التي غادرت فيها الفنانة راقية إبراهيم مصر إلى نيويورك وكان الموساد الإسرائيلي قد نجح في تجنيدها وأصبحت تعمل ضد مصر من خلال وظيفة في أرشيف الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث تتجمع أمامها المعلومات، وأخذت اسم راشيل ابراهام ليفي، على حين أن أختها نجمة إبراهيم تزوجت عباس يونس وأشهرت إسلامها وأدت فريضة الحج.

***

    أما فيما يتعلق بموقف يهود مصر من النشاط الصهيوني بشأن إقامة وطن لليهود، فالحاصل أنه عندما نشر تيودور هيرتزل في عام 1896 كتابه: "دولة اليهود" يدعو فيه لوطن ليهود العالم، جاء إلى القاهرة في فبراير 1897 جوزيف ماركو باروخ وهو يهودي تركي، لتأسيس هيئة صهيونية في مصر لهذا الغرض، وذلك قبل أن ينعقد المؤتمر الصهيوني العالمي الأول في أغسطس 1897 في مدينة بال (أو بازل) بسويسرا، فأنشأ باروخ جمعية "بركوخيا الصهيونية" من يهود أوربا في مصر (الإشكنازيم) ورأسها جاك هارملين وتولى سكرتيريتها جوزيف ليبوفتش. وأسست الجمعية أربعة عشر فرعًا لها في مختلف بلاد مصر في كل من الإسكندرية وبورسعيد وطنطا والمنصورة، وركزت نشاطها في القاهرة حيث قامت بتأسيس عدة جمعيات بأسماء مختلفة تعكس نشاط كل منها، وفي مقدمتها: جمعية أبناء صهيون للأطفال تحت سن 15 سنة في 1903، وجمعية الأدب العبري (1905)، وجمعية أحباء صهيون (1906)، ولجنة التنسيق الصهيونية (1909)، وجمعية كاديما (أي إلى الأمام) في 1910، واتحاد أطفال صهيون (1911)، ودائرة هرتزل (1912).

    وقد عملت تلك الجمعيات على غرس الوعي بالذات اليهودية بين يهود مصر، ومارست أنشطتها في الدعوة إلى الصهيونية دون معارضة من الحكومة بل لقد حضر بعض المسئولين الحفلات التي كانوا يدعون إليها مثل أحمد زيور باشا محافظ الإسكندرية الذي حضر حفلا نظمته الجمعية بمناسبة صدور وعد بلفور، وحفلا آخر في القاهرة (11 نوفمبر 1917). وعندما اتحدت هذه الفروع في منظمة واحدة باسم "الاتحاد الصهيوني" عام 1917 برئاسة ليون كاسترو وجاك موصيري، حضر حفل الافتتاح السلطان أحمد فؤاد (الملك ابتداء من أبريل 1922) وذلك دون حساسية. وقد حرص رؤساء المنظمة الصهيونية العالمية على زيارة مصر والتوقيع في سجل التشريفات بقصر الحاكم. وعندما جاء حاييم وايزمان رئيس المنظمة لمصر في عام 1925 التقى به الحاخام حاييم ناحوم أفندي (التركي) وأبدى لوايزمان استعداده لنشر الصهيونية بين يهود مصر، فقام هذا الحاخام بتأسيس جمعية الأبحاث التاريخية الإسرائيلية المصرية في العام نفسه (1925)، وكانت تدعو لعدم اندماج اليهود في المجتمع المصري. كما قام بتأسيس ثلاث منظمات تضم شباب يهود مصر بين سن 10-26 سنة أهمها الكشافة المصرية اليهودية في 1944 بتصريح من وزارة الشئون الاجتماعية. ثم تبلور هذا النشاط الخاص بالوعي بالذات اليهودية بعقد المؤتمر الصهيوني الأول ليهود مصر في السابع من يناير 1945 رأسه يعقوب وايزمان.

    وفي أعقاب إعلان بريطانيا في مايو 1947 أنها سوف تنهي انتدابها على فلسطين بعد عام (أي ليلة 15 مايو 1948)، أصبح مشروع إقامة دولة اليهود في فلسطين قاب قوسين أو أدنى، وفي هذا المنعطف أصدرت جمعية الأبحاث مجلة باسم "مجلة تاريخ الإسرائيليين في مصر" لدعم المشروع الصهيوني. وفي المقابل تأسست في مصر "اللجنة اليهودية لمحاربة الصهيونية" في مايو 1947 بمعرفة مارسيل تشيريزي وهى يهودية مصرية لها أصول إيطالية وعضوة في الحركة الشيوعية المصرية، وأصدرت بيانًا بعنوان "ضد الصهيونية من أجل يهود مصر"، بل إن رينيه قطاوي رئيس طائفة اليهود حذر الوكالة اليهودية في مصر وهي فرع للوكالة اليهودية في فلسطين من ممارسة النشاط الصهيوني في مصر.

***

    ورغم هذا النشاط الصهيوني في مصر جهارًا نهارًا، إلا أن أغلب يهود مصر لم يستجيبوا لمشروع إقامة وطن لليهود في فلسطين يهاجرون إليه، إذ لم يكونوا يشعرون باضطهاد شأن يهود أوربا. كما لم تكن هناك سياسة حكومية مصرية مضادة لليهود أو حتى لهذا النشاط فمثلا كان مراد فرج ليشع أحد مستشاري الخديو عباس حلمي الثاني (1892-1914)، وجورج دوماني كان سكرتيرا لسعد زغلول، ويوسف أصلان قطاوي تم تعيينه عضوا بالجمعية التشريعية التي تأسست في يوليو 1913 ضمن الـ 17 عضوا المقرر تعيينهم، وتم اختياره في أبريل 1922 عضوا بلجنة مناقشة مبادئ دستور 1923، وعضوا بمجلس النواب 1924 عن دائرة كوم أمبو حيث شركة السكر التي يملكها، ورأس اللجنة المالية بالمجلس، وتولى وزارة المالية في حكومة أحمد زيور (نوفمبر 1924). وتم تعيين يوسف بتشوتو عضوا بمجلس الشيوخ 1924، وتعيين الحاخام حاييم ناحوم أفندي عضوا بمجمع اللغة العربية في 1931. كما كانت آليس سوارس زوجة قطاوي رئيسة وصيفات الملكة نازلي بعد فالنتين رولو، واستحوذ جاك جوهر على ثقة الملك فاروق وكان يرتب له سهرات لعب القمار مع أثرياء اليهود لكي يخسروا أمامه تملقا حتى لقد ظن الملك أنه أمهر مقامر.

    ومن نافلة القول الإشارة إلى وجود اليهود في عالم الفن فتلك حقيقة معروفة، وهنا تبرز أسماء: أستر شطاح بطلة فرقة إسكندر فرج المسرحية، وداود حسني واسمه في الأصل ديفيد خضر ليفي الذي قدم لأم كلثوم أجمل الألحان ووضع ألحان أوبرا "شمسون ودليلة"، وقال في أول مؤتمر للموسيقى العربية عام 1933 "إنه لا خوف على الموسيقى العربية طالما أن هناك قرآنا يتلى" واعتنق الإسلام، وحزان زكي مراد والد ليلى ومنير مراد، وإلياس مؤدب الكوميديان وصاحب محل لإصلاح الساعات في شارع عبد العزيز، ونجوى سالم بفرقة نجيب الريحاني واسمها نينيت سلام. وكليمنت مزراحي وتوجو مزراحي، وإبراهيم الأعمى وأخيه بدر الأعمى (تم نطق اسميهما من الحروف الإنجليزية إلى لاما)، وشركة جوزي فيلم لصاحبها جوزيف موصيري، وكان 90% من دور العرض السينمائي يملكها يهود.

***

    فإذا كان يهود مصر يتمتعون بكل هذه الميزات المالية والاجتماعية ولا يشعرون بأي تفرقة بينهم وبين سائر أهالي مصر، وأن أغلبهم لم يكونوا مع مشروع الصهيونية في إقامة وطن لليهود في فلسطين .. فلماذا غادر أغلبهم مصر .. ومتى غادروها .. وما هي ملابسات الخروج ..؟!.

    قبل إقامة إسرائيل بدأت هجرة يهود مصر ليس إلى فلسطين للإسهام في المشروع الصهيوني، ولكن إلى مختلف بلاد غرب أوربا لظروف تخص كل مهاجر، فعندما انفجرت الحرب العالمية الثانية (ليلة أول سبتمبر 1939) كانت قوات هتلر وموسوليني (ألمانيا وإيطاليا) تنتصر على إنجلترا وفرنسا وحلفائهما، فخشى يهود مصر أن ينتصر هتلر على إنجلترا ويدخل مصر التي تحت النفوذ البريطاني ويحدث لهم ما حدث ليهود ألمانيا، فقرر أغنياؤهم أصحاب المحلات مغادرة مصر إلى جنوب إفريقيا التي تحت إدارة بريطانيا وليس إلى أي بلد أوربي حيث معارك الحرب قائمة، وقاموا ببيع محلاتهم لمصريين قبل أن يغادروا البلد. (راجع مشاهد فيلم "لعبة الست" إنتاج 1943 بطولة نجيب الريحاني في دور حسن أبو طبق الذي يعمل عند الخواجة إيزاك اليهودي (سليمان نجيب) حيث باع له الخواجه المحل على أن يضع كل شهر مبلغا معينا في حسابه حتى يصل المبلغ إلى حد معين يصبح المحل ملكه ..). فلما انتصر الحلفاء على قوات هتلر وموسوليني في معركة العلمين في صحراء مصر الغربية سبتمبر 1942 توقف تيار هجرة اليهود.

    وفي هذا المنعطف من تطور الأحداث والاقتراب من إعلان إسرائيل كانت العناصر الصهيونية في فلسطين قد نجحت في استقطاب بعض يهود مصر للانضمام للمشروع من حيث الاشتراك في بعض أعمال العنف التي استهدفت إزعاج بريطانيا حتى تخرج من فلسطين وتعلن دولة اليهود. وفي هذا الخصوص دخل مصر اثنان من عصابة شتيرن الصهيونية في فلسطين (الياهو حكيم والياهو بتتسوري) واغتالا اللورد موين Moyen وزير الدولة البريطاني لشئون الشرق الأوسط (6 نوفمبر 1944) وتم اعتقالهما وإعدامهما. وفي أكتوبر 1945 تقرر عقد اجتماع لمجلس الجامعة العربية التي أعلنت في مارس من العام نفسه في قصر أنطونيادس بالإسكندرية فاكتشفت أجهزة الأمن المصرية مؤامرة لنسف قاعة الاجتماعات للتخلص من القيادات العربية المقرر أن تحضر الاجتماع، لكن المؤامرة أحبطت فخرجت مظاهرات في نوفمبر يقودها طلاب الأزهر تستنكر النشاط الصهيوني في مصر واحتفال اليهود بذكرى تصريح بلفور، وأحرق المتظاهرون معبد اليهود الإشكنازيم في الموسكي (أي يهود غرب أوربا) ودمروا بعض محلات اليهود (2-3 نوفمبر).

    ثم قامت ثورة يوليو 1952 وبادر اللواء محمد نجيب بزيارة معبد اليهود القرائين (يهود مصر الأصليين) بمناسبة عيد الغفران (25 اكتوبر 1952) وكتب كلمة في سجل الزيارات معبرًا عن أمنياته لليهود بهذه المناسبة. وليس من تفسير لهذه الزيارة إلا تطمين اليهود خاصة وأنهم يعلمون أن نفرا من الضباط شاركوا في حرب فلسطين. وفي 13 يناير 1953 وبعد إلغاء العمل بدستور 1923، تم تكوين لجنة من خمسين عضوا لوضع دستور جديد للبلاد كان من ضمنها زكي عريبي المحامي اليهودي رئيس الطائفة اليهودية في مصر باعتباره مواطنا مصريا، أي لم تكن هناك تفرقة تجاه اليهود أو معاملتهم معاملة خاصة.

    وعندما دخل مجلس قيادة الثورة في المفاوضات مع بريطانيا برئاسة جمال عبد الناصر ابتداء من أبريل 1953 من أجل جلاء الجيش البريطاني عن مصر لم تكن بريطانيا تريد الخروج، كما كانت إسرائيل تضغط على المفاوض البريطاني لعدم الجلاء إلا بعد أن تعلن مصر اعترافها بإسرائيل. والمفاوضات في نهاياتها ولم تعترف حكومة الثورة بإسرائيل، قررت إسرائيل إحداث عدد من التفجيرات في مصر حتى تعلن بريطانيا تعليق المفاوضات ولا تخرج بحجة اضطراب الأمن في البلاد. وهكذا تكونت خلية من اليهود المصريين ممن استقطبهم جهاز الموساد الإسرائيلي للقيام بتفجير مقر" البوسطة "الرئيسية بالإسكندرية والمركز الثقافي الأمريكي والمكتبة الأمريكية ومحطة سكك حديد القاهرة وعدد من دور السينما في القاهرة والإسكندرية وذلك يوم 2 يوليو 1954، وهي المؤامرة المعروفة باسم فضيحة لافون وزير داخلية إسرائيل الذي كان وراء التخطيط للعملية. لكن تم كشف المؤامرة وتم اعتقال الخلية ولم يبق أمام إنجلترا إلا توقيع اتفاقية الجلاء بالأحرف الأولى في 17 يوليو بعد أن أخفقت المؤامرات البريطانية بالتعاون مع إسرائيل في تعطيل الجلاء. ثم صدرت الأحكام على أفراد الخلية في 11 ديسمبر 1954 ما بين الإعدام والسجن المؤبد وتم التنفيذ في 31 يناير 1955. ولقد أدت هذه الحادثة إلى خروج عدد آخر من اليهود من مصر. 

    وفي أعقاب العدوان الثلاثي على مصر (29 اكتوبر 1956) الذي اشتركت إسرائيل فيه تقرر إبعاد 14 ألف يهودي من حملة الجنسية الفرنسية والبريطانية، و 280 يهوديا ممن لا جنسية لهم للاشتباه في نشاطهم الصهيوني أثناء العدوان. وفي تلك الظروف آثر بعض أغنياء اليهود مغادرة البلاد تجنبا لاتخاذ مواقف ضدهم، وكان من هؤلاء عائلة قطاوي التي تركت مصر إلى النمسا في 1957 بعد أن باعت أملاكها لمصريين، وعائلة شيكوريل التي باعت محلاتها للسيدة قوت القلوب الدمرداشية وذهبت إلى فرنسا، وجاتينيو الذي باع متجره للتاجر السوري عبد القادر الحراكي.

    وبعد تأميم وسائل الإنتاج الكبري (يوليو 1961) وبداية مرحلة التحول الاشتراكي خضع بعض اليهود من أصحاب المحلات والمصانع للتأميم فخرجت مجموعة أخرى بعد تسوية مصالحها منهم بعض الذين كانوا يعملون بالسمسرة ولم تعد لهم فرص عمل بعد تولي الدولة الدور الاقتصادي. ومع عدوان إسرائيل على مصر في الخامس من يونيه 1967 تم اعتقال عدد منهم بتهمة التجسس لصالح إسرائيل وبعد الإفراج عنهم طلب منهم التخلي عن الجنسية المصرية إذا أرادوا الخروج فوافق البعض ورفض البعض الآخر وهكذا خرج عدد آخر.

    تلك هي قصة يهود مصر من المعيشة المشتركة بين أهالي مصر عبر التاريخ إلى تعظيم ذاتهم الدينية على حساب الوطن الواحد، إلى انزلاق بعضهم إلى شرك الصهيوينة والاشتراك في التآمر على وطنهم مصر لحساب قوى خارجية أرادت ولا زالت تريد الحيلولة دون أن تكون مصر قوية .. 


نقلا عن مجلة المصور